لطالما استغربتُ صورة المرأة المتفانية لزوجة النبي أيّوب، تلك التي استقرت في أذهاننا بسبب السرد الشعبي، على الرغم من أن الصورة التي تركها لنا السرد المقدّس فقيرة جداً وغير معروفة المعالم والتفاصيل.
فنحن لا نعرف اسمها ولا شكلها ولا مصيرها ولا أفعالها. كلّ ما نعرفه أنها غابت بالفعل عن السرد المقدّس، بالرغم من أنها حضرت، كمثلٍ أخلاقي أعلى، في السرد الشعبي. فمن أين أتت هذه الصورة المكرَّسة في مخيالنا إذاً؟ للإجابة عن هذا السؤال، سنقوم بالحفر المعرفي بحثاً عن صورتها، في المخيال الجمعي، لتحقيق هدفين:
أولهما تبيان المسكوت عنه في السرد المقدّس المتعلق بامرأة أيّوب. وثانيهما تبيان كيفية سدّ الفراغات أو إظهار المخفي أو إكمال النقص في السرد الشعبي عنها.
في السرد المقدّس
ظهرت امرأة النبي أيّوب فجأةً، ومن دون اسم، في الكتاب المقدّس، بعد أن تَراهن الله مع الشيطان على أنه لو أصاب أيوب في صحته بمرض سيظل أيّوب مؤمناً وصابراً. ولم تُذكر سوى هذه المرّة اليتيمة في سِفر أيّوب كله: "فقالت له امرأته: أنتَ متمسكٌ بعدُ بكمالِكَ؟ باركِ اللهَ ومُتْ. فقال لها: تتكلمينَ كلاماً كإحدى الجاهلات. أالخيرَ نقبلُ من عندِ الله، والشرَّ لا نقبلُ. في كل هذا لم يخطئ أيوب بشفتيه" (أيّوب 2: 9، 10).
لطالما كانت صورة المرأة المتفانية لزوجة أيّوب صورة غريبة؛ تلك التي استقرت في أذهاننا بسبب السرد الشعبي، على الرغم من أن الصورة التي تركها لنا السرد المقدّس فقيرة جداً وغير معروفة المعالم والتفاصيل
كما ذُكِرت في القرآن الكريم بمجرد الإشارة إليها مرتين متشابهتين فقط ومن دون تفصيلات أخرى. الأولى: "وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ ۖ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَذِكْرَىٰ لِلْعَابِدِينَ" (سورة الأنبياء، الآيتان 83، 84). والثانية: "وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ * ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ * وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ * وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ" (سورة ص، الآيات 41، 42، 43، و44)، (كلمة أهله تعني امرأته أو زوجته. وفي السرد القرآني كافأها الله على صبرها وإيمانها بضعفَي ما كانت عليه. وأمر أيّوب ألّا يحنث بقسمه، وهو من المسكوت عنه أيضاً، فلا نعرف موضوع اليمين ولا نعرف على من سيقع الجلد بمئة جلدة).
وهكذا، سكت سِفر أيّوب عن اسمها وعدّها مجرد زوجة تتحدد وتُعرف بزوجها فحسب، وعن شكلها وميراثها ومصيرها أيضاً، مع أنه سمّى بناتها الثلاث مثلاً، ووصفهن، وقال بميراثهن في السِفر نفسه: "وكان له سبعة بنين وثلاث بنات. وسمَّى اسمَ الأولى يمِيمة واسمَ الثانية فصِيعة واسمَ الثالثة قرْن هفُّوك. ولم توجد نساء جميلات كبنات أيّوب في كلِّ الأرض وأعطاهنّ أبُوهُنّ ميراثاً بين إخوَانهنّ" (أيّوب 42: 44، 45، و46).
وسكت أيضاً عن مشهد ردة فعلها كأمّ، ولم يذكر أي ردة فعل لها على مقتل أبنائهما العشرة وفقدان أملاكهما، ولم يُمشهد حزنها وفقدانها كما مَشهدَ ردة فعل الأب مثلاً: "فقام أيوب ومزق جبته وجزّ شعر رأسه وخرّ على الأرض وسجد وقال عُرياناً خرجتُ من بطن أمي وعُرياناً أعود إلى هناك. الرب أعطى والرب أخذ فليكن اسم الرب مباركاً. في كلّ هذا لم يخطئ أيوب ولم ينسب لله جهالة" (أيّوب 1: 21، 22، و23).
لماذا لم يذكر السرد المقدّس اسم امرأة أيّوب صراحةً؟ ولماذا غاب مشهد ردة فعل امرأة أيّوب على مقتل أولادها العشرة في حين حضر مشهد أيّوب؟
ونحن نلاحظ حجم المسكوت عنه، تباغتنا الأسئلة الاستنكارية التالية التي لا جواب لها:
لماذا لم يذكر السرد المقدّس اسم امرأة أيّوب صراحةً؟ ولماذا غاب مشهد ردة فعل امرأة أيّوب على مقتل أولادها العشرة في حين حضر مشهد أيّوب؟ ولماذا لم يقضِ الشيطان على امرأة أيّوب مثلما قضى على أولاده وبناته وأملاكه؟ ولماذا لم تظهر امرأة أيّوب قبل ذلك، أي مع كارثة موت الأبناء والبنات وضياع الأملاك؟ واكتفى بظهورها فقط عندما أصاب الشيطانُ أيّوب بمرض جلدي ليختبر إيمانه في الإصحاح الثاني؟ وحينها تدخلت بقوة إذ قالت لزوجها: "جدّف بالله ومت"، وكان الأجدر بالسرد المقدّس أن يُظهرها منذ البداية قبل تعداد أملاك أيّوب من العبيد والغنم والبقر والإبل والحمير في الإصحاح الأول. ونحن نستنتج معنى كلامها من ردة فعل أيّوب لأنها قالت كلاماً لا يرضيه إذ ردّ عليها: "تتكلمين كلاماً كإحدى الجاهلات". ونحن لا نعرف الإجابة عن هذه الأسئلة ولكننا نثيرها لنتبيّن وضع تلك الشخصية الشبحية في السرد المقدّس. وفعلياً كانت شخصيةً مغفلةً أو ثانويةً. ومن هذا المسكوت عنه يمكننا أن نستنتج وضعها. إنه وضع شبحي وحقير ويجب علينا ألّا نكون مثلها. ومع هذا فقد تحولت شخصيتها إلى شخصية رئيسية في السرد الشعبي.
في السرد الشعبي
إن النقص في السرد المقدّس عن زوجة أيّوب فتح الباب واسعاً أمام السرد الشعبي بتفسيرات وتأويلات وتخيّلات غير محدودة، منها الشعبية ومنها العالِمة (العالِمة من أمثال القديس يوحنا فم الذهب والقديس أوغسطين وابن كثير وابن عساكر)، لتعود صورتها وتستقر في الأذهان لاحقاً، بوصفها مثلاً أعلى تجب محاكاته وتقليده والصعود إليه والتغنّي به.
ومن هنا صرنا نعرف لها اسماً ونسباً (رحمة أو رحيمة أو ليا أو دينة)، وكأنها شخصية واقعية. ونعرف مصيراً لها وثواباً، وتفانياً في خدمة زوجها، وصبراً على بلواه... وقالوا إنها قصّت ضفيرتيها لتحصل على الطعام لأيوب، وقالوا إنها شوّهت خدَّيها عندما أعجب الشيطان بهما نكايةً به...إلخ. ولا أحد يعرف مثلاً من أين أتى تهديد أيوب لزوجته لأنها قصّت ضفائرها وباعتها لتطعمه.
تمت تعبئة النقص بتخيلات المفسرين والحكايات الشعبية. على سبيل المثال، فعن سؤال لماذا لم يقتلها الشيطان ليزيد بلوة أيوب؟ أتى الجواب في السرد الشعبي مدّعياً أن الإبقاء عليها كان لغواية أيّوب وضلاله، مثلما فعلت حواء مع آدم، ولكن أيوب أصلب من آدم، فرفض أن يُجدِّف بالله كما اقترحت عليه امرأته.
هنا احتلت امرأة أيّوب مكانةً مرتفعةً، إذ صارت مثالاً أخلاقياً أعلى على وفاء الزوجة لزوجها، وعلى صبرها على محنة موت أولادها، وفقدان أملاكها، ومرض زوجها وفقره، على الرغم من كثرة الأحمال التي ناءت تحتها من ابتعاد الناس عنها وإغواء الشيطان لها، وقص شعرها، ومبدئية زوجها عندما وصفها بالجاهلة، وعندما توعدها بالجلد بعد أن يشفى...
هناك من يصدّق أن امرأة أيّوب هي شخصية تاريخية وليست متخيلةً كما تخيلها المخيال الجمعي، وهناك من يبحث عن اسم لها ونسب وشكلٍ ومصير وأفعال
وعلى الرغم من أن شخصية امرأة أيوب فيها نقص كبير، غير أن المخيال الجمعي قام بإكمال النقص ولكن وفق رغباته. وكأن السرد المقدّس بفجواته الكثيرة عن امرأة أيّوب يطالبنا بتعبئة الفراغات التالية: ما اسمها؟ ما شكلها؟ ما أفعالها؟ ما مصيرها؟ ولا يطالبنا بالعبرة مما حدث لأيوب. وهنا تجدر ملاحظة الخيال النشط عن امرأة أيّوب في السرد الشعبي.
ملاحظات نقدية
هناك من يصدّق أن امرأة أيّوب هي شخصية تاريخية وليست متخيلةً كما تخيلها المخيال الجمعي. وهناك من يبحث عن اسم لها ونسب وشكلٍ ومصير وأفعال. وإذ أستهجن الصورة التي كرّسها السرد الشعبي للمكانة التي تبوّأتها امرأة أيّوب فإنني أراها مكانةً أكبر مما كنا نظنها استناداً إلى السرد المقدّس. وهنا يحق لنا أن نسأل السرد الشعبي: أتكون امرأة أيّوب أكثر تفانياً وصبراً وإيماناً من أيّوب نفسه؟ أو أن السرد الشعبي تواطأ معها تكتيكياً، وبشكل مضمر ليبني لنا نموذجاً أخلاقياً ترشده رغبات ذكورية.
فمن المعروف أن السلطة الذكورية لها مخيلة خصبة تُحسَد عليها. بل يمكن القول إن الذكور لا يملكون سواها، ومن ذا الذي يستطيع مجاراتهم بتلك المخيلة. ولكن المهم في الأمر عمق تصديقنا للخيال الذكوري لا سعته. فالخيال الشعبي نقلها من شخصية ثانوية إلى مثل أخلاقي أعلى. وفي الحقيقة ربح السرد الشعبي جولة امرأة أيوب وخسر السرد المقدّس! وفعلاً صرنا نحتاج إلى صبر أيّوب، للنبش والحفر في مُثُلِنا الأخلاقية العليا.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
HA NA -
منذ 3 أياممع الأسف
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت بكل المقال والخاتمة أكثر من رائعة.
Eslam Abuelgasim (اسلام ابوالقاسم) -
منذ أسبوعحمدالله على السلامة يا أستاذة
سلامة قلبك ❤️ و سلامة معدتك
و سلامك الداخلي ??
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعمتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ أسبوععظيم