"بينما نحقّق هدفنا، فإننا نمهّد الطريق لكم لتحقيق حريتكم"؛ قال رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، مخاطباً الشعب الإيراني، بعد الهجمات الإسرائيلية على إيران، في 13 حزيران/ يونيو الماضي، والتي أدت بدايةً إلى فراغات في السلطة الإيرانية. إلا أنه، وخلافاً للتوقعات، التفّ الشارع الإيراني حول عَلَمه ودولته، وهو ما تمّ تصويره إيرانياً على أنّه دعم شعبي لنظام الملالي في طهران.
خلال الحرب، أدلت غالبية رموز المعارضة الإيرانية الداخلية، بمن فيهم قادة الأقلّيات العرقية والدينية، بخطابات معارضة للعدوان تؤكد على ضرورة الالتفاف حول الأمّة الإيرانية، فيما برز التأييد المجتمعي بعدم الاستجابة لدعوات الاحتجاج والتظاهر، مع الإبلاغ عن أيّ تحركات مشبوهة، ما أظهر تماسكاً وطنياً نشأ في قلب الحرب، حسب المعهد الدولي للدراسات الإيرانية "رصانة". وعليه، مُنح النظام قدرةً معنويةً وعسكريةً داعمةً لمواجهة أطماع أعدائه. في المقابل، تراجعت شعبية المعارضة الخارجية، ولا سيّما التيار الملكي، نتيجة مواقفها المؤيدة للحرب.
"لقد نشأت هذه الأمّة في مدرسة الشهداء، وستدافع عن الكيان الإسلامي بقوّة"، قال زعيم الحركة الخضراء المعارضة، مهدي كروبي، وأضاف: "اليوم، بإرادة الأمّة الصلبة، لن نستسلم أبداً... الوحدة الوطنية هي سلاحنا الأهم". فيما قال الرئيس الإيراني الأسبق، حسن روحاني، وهو من التيار الإصلاحي المعارض، إنّ "إيمان الإيرانيين ومعرفتهم وصمودهم" ستساعد في "إعادة بناء مسار القوة الوطنية". بدورها، أشارت رئيسة جبهة الإصلاحات في إيران، آذر منصوري، إلى أنّ "الأولوية للإيرانيين الآن هي الوحدة في الدفاع المشروع". فيما رأى الأمين العام لحزب "كوادر البناء"، حسين مرعشي، أنّ الدفاع الشامل عن إيران الحبيبة يتطلب "مشاركة الشعب وجهود القيادة وصمودها".
قبلها، كان الشارع الإيراني قد شهد عدداً من الحركات الاحتجاجية، من احتجاج الطلبة عام 1999، إلى الحركة الخضراء عام 2009، ومن انتفاضة البنزين عام 2017 إلى انتفاضة مهسا أميني عام 2022، والتي مع ما بينها من انتفاضات، حملت جميعها مطالب سياسيةً، نادى بعضها بإسقاط النظام.
"جاءت الثورة الإسلامية عام 1979 مدفوعةً جزئياً بالغضب على عقود من التدخل الأمريكي في إيران. كما أنّ الحكومة الثيوقراطية جاءت إلى الحكم نتيجة المحاولات الأمريكية لتفعيل تغيير النظام في إيران"... فما هي الأسباب التي تدفع الشارع الإيراني إلى "التماسك" وإن اضطرارياً أوقات الأزمات المتكرّرة؟
بالعودة إلى تثوير الشارع الإيراني عبر الضربات الإسرائيلية، ومن أجل تقييم فرص نجاح انتفاضة شعبية محتملة، من الضروري تحليل قدرة الأمن الداخلي للنظام، حسب مركز "إيرام" للدراسات الإيرانية، إذ إنّ تجنّب استهداف الهياكل الخاصة بمواجهة الاضطرابات الاجتماعية، كمقرّ ثأرالله وميليشيا الباسيج، يدلل على بقاء سلامة آليات الرقابة الداخلية للنظام، نظراً إلى سيطرة هذه الهياكل على الديناميكيات الاجتماعية، وهي حجر الزاوية لأمن النظام، بجانب دورها المركزي في قمع الانتفاضات السابقة.
وبعد إيرادها نقاط ضعف أخرى، مثل غياب قيادة كاريزمية جامعة، وهواجس الحركات العرقية الانفصالية، وتجارب الفوضى في العراق وسوريا وليبيا، أشارت دراسة "إيرام" إلى أنّ التدخلات الخارجية الإسرائيلية لا تُضعف النظام الإيراني، بل تعزز مقاومته الداخلية وتدابيره الأمنية.
"لا نريد دولةً مختلقةً"
يهدد الضغط الإسرائيلي لتغيير النظام في إيران، بأن يعكس نتائج التدخلات الأمريكية السابقة، حسب موقع "واينت" الإسرائيلي، حيث أدت الانقلابات الأجنبية غالباً إلى نتائج عكسية وعززت الحكم الاستبدادي. وهو درس تعلّمه الإيرانيون من تنفيذ وكالتَي المخابرات الأمريكية والبريطانية انقلاباً على رئيس الوزراء الإيراني الأسبق، محمد مصّدق، المنتخب ديمقراطياً، وذلك نتيجة الخشية من استيلاء الحزب الشيوعي الإيراني على السلطة، ومن ثم اصطفاف البلاد مع الاتحاد السوفياتي.
ماذا نتج عن ذلك؟ يتساءل معهد "كوينسي"، ويجيب: "جاءت الثورة الإسلامية عام 1979 مدفوعةً جزئياً بالغضب على عقود من التدخل الأمريكي في إيران. كما أنّ الحكومة الثيوقراطية جاءت إلى الحكم نتيجة المحاولات الأمريكية لتفعيل تغيير النظام في إيران".
وفقاً للباحث في مركز الحوار للأبحاث والدراسات في واشنطن، كميل البوشوكة، وهو معارض أحوازي أيضاً، فإنّ مسألة "تثوير الشارع من الخارج"، مسألة حساسة جداً. لكنها ليست خطأ في المطلق، حيث يبقى نجاحها مرتبطاً بوجود مشروع حقيقي يعبّر عن تطلعات كل الشعوب داخل إيران، وليس فقط إعادة تسويق وجوه قديمة بعقلية استبدادية جديدة.
يضيف البوشوكة، لرصيف22: "إيران ليست دولةً ذات نسيج شعبي موحد، بل هي مكوّنة من شعوب وقوميات عديدة، لكل منها خصوصياتها الثقافية والتاريخية ومصالحها الخاصة. وعليه، فالذاكرة الجمعية الإيرانية ليست موحدةً: لكل قومية -أو شعب- أهدافها الخاصة من النظام. هناك من يرى في أي تصعيد خارجي فرصةً لتغيير النظام، وهناك من يخشى من إعادة إنتاج البنية السلطوية الفارسية نفسها، كما حصل عام 1979".
بجانب ذلك، هناك شكوك عميقة لدى المعارضة حيال التدخل الأجنبي، حسب "cbs news"، فـ"الإيرانيون يريدون الإطاحة بقادتهم بأنفسهم، ولا يريدون دولةً مختلقةً، أو نظاماً جديداً يفرضه الغرباء، ولا يريدون من إسرائيل أو الولايات المتحدة هندسة تغيير النظام في طهران"، يقول ناشط إيراني في المنفى للمنفّذ الإعلامي. يضيف آخر، وهو أستاذ الدراسات الإيرانية في جامعة كولومبيا، حميد دباشي: "لا يمكنك قصف وتدمير وذبح الناس من أجل الديمقراطية".
يردف البروفيسور حميد دباشي: "لدى الجماعات العرقية المعارضة مظالم مشروعة ضد الحكومة المركزية، تم وضعها في غايات غير مشروعة من قبل إسرائيل. سيظلون شرعيين طالما طالبوا بحقوقهم داخل النظام السياسي الإيراني، لكن إن وقفوا بجانب غزاة وطنهم، يصبحوا قطّاع طرق غير شرعيين".
ولدى الإيرانيين حبّ عميق للوطن ولغة وثقافة وتاريخ مشترك يجعلهم، حتى في أوقات الخلافات الداخلية، يتصرفون بتماسك في مواجهة التهديدات الخارجية أو الأزمات، حسب الباحث الإيراني علي نجات، ولا سيما أنّ إيران بلد ذو تاريخ طويل من المقاومة ضد الغزوات والاحتلالات المتعددة، وهذه تجربة تاريخية تذكّر بضرورة الوحدة في مواجهة الأعداء، حيث تشكل الوحدة بين الإيرانيين في أوقات الحرب والأزمات إحدى أبرز الخصائص التاريخية والثقافية لإيران. حتى بين القوميات المختلفة في إيران، هناك رؤية مشتركة للحفاظ على وحدة الأراضي الإيرانية وسلامتها، حيث يرى العديد من الإيرانيين أنّ التفكك يشكل تهديداً للأمن والاستقرار والهوية الوطنية.
بجانب ذلك، فإنّ مفهوم التضحية والفداء ودعم الوطن في الثقافة الإيرانية وتعاليم الدين، خاصةً في المذهب الشيعي، يلعب دوراً مهماً في تعزيز الوحدة في أثناء الأزمات، يقول نجات لرصيف22، ويضيف: "لقد أشعلت حرب الـ12 يوماً مشاعر حب الوطن، والتضحية، والمقاومة بين الإيرانيين مجدداً، كما عززت وسائل الإعلام والمسؤولون شعور التضامن بضرورة الدفاع عن البلاد والتصدي للتهديد الخارجي، حيث وُصف الهجوم على إيران بأنه محاولة لإضعافها وسلب إرادتها الوطنية، ما أدى إلى توحّد جميع الفئات والجماعات في مواجهة هذا التهديد".
بحسب نجات، "عندما يشعر البلد بأنّ هناك عدوّاً خارجياً يسعى إلى تدميره وإضعافه، تقلّ الخلافات الداخلية ويتّحد الناس. وقد تجلّت هذه الوحدة والتضامن بوضوح خلال هذه الحرب بين جميع القوميات والمجموعات الاجتماعية في إيران". ويتابع نجات: "لقد شعر الإيرانيون والحكومة معاً، بأنّ الحرب تهديد وجودي للجمهورية الإسلامية، ما جعل الوحدة والتضامن ضرورةً عاجلة. كما لعبت كراهية الشعب الإيراني لإسرائيل دوراً مهماً في وحدة إيران الوطنية".
"تغيير النظام فكرة مضللة للغاية. قد يكون 80% من الإيرانيين راغبين في ذلك، لكن دون معارضة ذات مصداقية أو شخصية قيادية موحدة لا يوجد بديل قابل للتطبيق في الأفق". أما عبر العنف وأمراء الحرب والتدخل الأجنبي، فإنّ الدروس المستفادة من هذه المغامرات السيئة واضحة...
جمود اضطراري
قدّم غياب الاضطرابات في الشارع الإيراني فائدةً كبيرةً لجهاز الدعاية لدى طهران، الذي ادّعى أنه مؤشر دعم للنظام، فيما الحقيقة غير ذلك، حسب منتدى الشرق الأوسط. فالسبب الحقيقي يعود للإجراءات الأمنية المجهولة التي قام النظام بتفعيلها بشكل استباقي في اللحظة التي بدأت فيها العمليات الإسرائيلية.
بدورها، تشير المتخصصة في الشؤون الإيرانية في كلية لندن للاقتصاد، معصومة تورفة، إلى أنّ "تغيير النظام فكرة مضللة للغاية. قد يكون 80% من الإيرانيين راغبين في ذلك، لكن دون معارضة ذات مصداقية أو شخصية قيادية موحدة لا يوجد بديل قابل للتطبيق في الأفق". أما عبر العنف وأمراء الحرب والتدخل الأجنبي، فإنّ الدروس المستفادة من هذه المغامرات السيئة واضحة. خطة اليوم التالي أكثر أهميةً بكثير من خطط الحرب نفسها.
لا يمكن إنكار قوة القبضة الأمنية للنظام، ممثلةً في الحرس الثوري وأجهزة المخابرات والبنية الأمنية المنتشرة في الشوارع والمدن، حسب البوشوكة، فقد لعبت هذه المنظومة دوراً حاسماً في كبح أي محاولة لتنظيم احتجاجات أو تحركات معارضة خلال فترة التصعيد. لكن في ما يتعلق بردّة فعل الشارع الإيراني خلالها، من المهم التمييز بين ما يبدو "التفافاً شعبياً" حول النظام، وبين الواقع المعقّد والمركّب للمجتمع الإيراني.
برأيه، "ظن الكثيرون أنّ ذلك يُعدّ تضامناً شعبياً مع النظام، لكن الواقع غير ذلك. فهو نتيجة عوامل متشابكة، منها دعوة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، سكان طهران لمغادرتها خلال الهجمات، ما أدى إلى شلل الحركة المدنية في العاصمة، وأفرغ الشوارع من أي احتمال لاحتجاج أو مقاومة داخلية، وخدم النظام تالياً، عبر إزاحة الضغط الداخلي مؤقتاً، بالإضافة إلى غياب مشروع واضح للتغيير. فحتى الآن، لم يظهر مشروع دولي جدّي وفعّال لتغيير النظام بشكل جذري وشامل، يراعي تنوّع المكوّنات داخل إيران، وذلك لأنّ إسقاط النظام دون ضمانات لتمثيل الشعوب غير الفارسية، قد يؤدي إلى إعادة إنتاج السياسات المركزية الإقصائية العنصرية نفسها، بصورة عباءة دينية أو قومية فارسية جديدة".
ملايين الإيرانيين غاضبون ومرهقون ويائسون ويسعون من أجل التغيير، لكنهم غاضبون في صمت، نتيجة افتقاد الثقة بأي منظمة معارضة، بجانب غياب خطة لليوم التالي مع ضبابية تحيط بـ"الخطوة التالية" لتحدّي النظام
وعليه، يفسّر البوشوكة ما حصل، بأنه دخول في حالة "جمود اضطراري"، نتيجة الضغوط الأمنية الداخلية ومتابعة الأهداف الأمريكية-الإسرائيلية، لبقاء الشعوب الإيرانية جاهزةً للتحرك والسيطرة على مناطقها وأقاليمها. فإن توفر غطاء دولي حقيقي، وخطة مدروسة لتغيير شامل تضمن حقوق جميع الشعوب الإيرانية، حينها لن تتمكن القبضة الأمنية وحدها من الصمود أمام إرادة شعبية واسعة.
ملايين الإيرانيين غاضبون ومرهقون ويائسون ويسعون من أجل التغيير، لكنهم غاضبون في صمت، نتيجة افتقاد الثقة بأي منظمة معارضة، بجانب غياب خطة لليوم التالي مع ضبابية تحيط بـ"الخطوة التالية" لتحدّي النظام واقتحام مراكز للشرطة. وعدم اليقين هذا، هو سبب هدوء الشارع الإيراني خلال الضربات الإسرائيلية المؤثرة وبشدّة على أجزاء من الآلة العسكرية والأمنية للنظام، حسب مقال آخر في منتدى الشرق الأوسط. لذا، لن يتغير شيء قبل أن تتعلّم المعارضة الإيرانية المنقسمة التوفيق بين كفاءة النظام وانضباطها، وإعداد خطة حقيقية لليوم التالي.
"لكي يُسقِط الشعب الإيراني النظام، تحتاج إيران إلى زعيم متفرغ ومستعدّ للتخلّي عن حياة مريحة، وتحمّل مخاطر حقيقية، وبناء شيء حقيقي داخل البلاد"، يختم المنتدى.
أُنتج هذا الموضوع بالتعاون مع مؤسسة روزا لوكسمبورغ.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.