جاءت الحرب الإسرائيلية الإيرانية كزلزال إستراتيجي ضرب عمق المشروع الإيراني في المنطقة، إذ تزامنت الضربات مع توجيه ضربات لجماعات مسلحة مرتبطة بإيران في المنطقة العربية، وهو ما فتح تساؤلات حول مصير المشروع الذي تتبناه طهران، ولا سيّما أن الدستور الإيراني ينصّ في مواده على تصدير الثورة إلى الخارج، وتقف حائلاً أمام هذا التساؤل حالة التقارب التي شهدتها العلاقات الإيرانية العربية في الفترة الأخيرة، وكذلك تضامن بعض الدول العربية مع طهران بعد الضربات الإسرائيلية الأمريكية الموجعة لها، وهو ما يفتح باباً للتساؤلات المركّبة حول منهجية إيران خلال المرحلة المقبلة.
في هذا التقرير، يسأل رصيف22 مجموعةً من الخبراء والباحثين المعنيين بالشأن الإيراني عن مستقبل "مشروع الملالي" وأدواره المحتملة في المنطقة، بالنظر إلى المواجهة الأخيرة بين طهران وتل أبيب والتي تدخلت فيها واشنطن بتوجيه ضربات موجعة للبرنامج النووي الإيراني، على حدّ تصريح الرئيس الأمريكي دونالد ترامب.
"سياسة منفتحة" على العرب
في معرض إجابته عن هذا التساؤل، يقول المحلل السياسي الإيراني، صالح القزويني، إنّ سياسة إيران الخارجية منفتحة على التقارب مع جيرانها من الدول العربية والإسلامية، مشيراً إلى أنّ هذا التوجّه ليس وليد اللحظة بل هو قائم منذ عقود.
بين من يرى تحوّلاً لافتاً في مواقف الدول العربية تجاه إيران، ومن يقول إنّ طهران أُجبرت على الانكفاء داخلياً… هل يكون توقّف "مشروع الملالي" من تبعات الحرب الإسرائيلية الإيرانية الأخيرة؟
ويوضح القزويني، في تصريحات لرصيف22، أنّ سياسة الانفتاح في صميم المبادئ الأساسية للسياسة الخارجية الإيرانية، زاعماً أنّ ذلك مبدأ معتمد منذ بداية الثورة الإيرانية عام 1979، وكل ما في الأمر أنّ بعض الحكومات الإيرانية قد تجعل هذا الملف على رأس أولوياتها، بينما قد تهمله حكومات أخرى، ولا تبذل الجهود الكافية لتحقيق التقارب مع جيران إيران.
كما يلفت إلى أنه منذ بداية حكم الرئيس الراحل إبراهيم رئيسي، بدأت سياسة التقارب مع الدول العربية تتكثّف من أجل تقريب وجهات النظر وحل المشكلات العالقة، حتى إنّ وزير الخارجية الإيراني، عباس عراقجي، صرّح مؤخراً، على سبيل المثال، بأنّ علاقة بلاده مع مصر برغم عدم وجود علاقات دبلوماسية بينهما، أفضل من دول كثيرة لديها علاقات دبلوماسية معها.
ويقدّر أنّ الحرب الأخيرة بين إسرائيل وإيران أظهرت انحيازاً عربياً للموقف الإيراني، ظهر من خلال الإدانات والمواقف المعلنة من قبل الدول العربية، لافتاً إلى أنّ إيران تحسب ألف حساب لهذه المواقف العربية الداعمة لها، وستدفعها التحركات الداعمة هذه والرافضة للعدوان الإسرائيلي عليها للمضي قدماً نحو تعزيز أكبر للعلاقات وسعي لحلّ المشكلات مع الدول العربية والإسلامية ودول الجوار.
العرب البديل الأقرب لإيران ؟
ووفق القزويني، تعرّضت إيران لمشكلات في السابق من بينها العقوبات والاعتداءات المتكرّرة من قبل إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية، لكن لم يكن موقف الدول العربية داعماً مثلما حدث خلال الحرب الأخيرة، وتالياً سيكون ذلك مقدّراً من قبل القيادة الإيرانية، لافتاً إلى أنّ ذلك سيكون دافعاً لتعزيز التقارب وتنمية العلاقات مع الدول العربية والإسلامية، خاصةً أنّ إيران وصلت إلى قناعة بأنّ التقارب مع هذه الدول يحقق لها مكاسب أكبر من التوجّه نحو الدول الغربية التي لم تحصل منها إيران إلا على التآمر والعقوبات والضغط والتهديد، على حد قوله.
ويوضح أنّ "هناك تياراً عريضاً داخل إيران يرى أنّ العلاقات العربية الإيرانية قد تكون بديلاً عن العلاقات مع الغرب، وكذلك الانفتاح على الشرق، أي روسيا والصين ودول آسيا. ولذلك، انضمت طهران إلى منظمة شنغهاي ومجموعة أوراسيا ومنظمة بريكس، وجميعها تمنحها فرصةً بديلةً كتعويض عن الضغوط التي يمارسها الطرف الآخر ضدها".
تموضع إستراتيجي فرضته الظروف
تختلف الباحثة المصرية الدكتورة شيماء المرسي، الخبيرة في الشؤون الإيرانية ومديرة وحدة الرصد والترجمة في المنتدى العربي لتحليل السياسات الإيرانية، مع رؤية القزويني، إذ تستبعد أن تتخلّى طهران بشكل كامل عن أهدافها السياسية في المنطقة، لافتةً إلى أنه مع تسارع موجة اتفاقيات التطبيع بين دول عربية وإسرائيل، بدأت طهران بإعادة تموضع إستراتيجيتها الإقليمية، مدفوعةً بتركيبة من التهديدات الأمنية والفرص الجيو-سياسية.
تضيف المرسي، في تصريحات لرصيف22، أنّ وجود إسرائيل في دول قريبة من حدود إيران مثل الإمارات والبحرين، يشكّل تهديداً مباشراً لأمنها القومي، وكأنّ إسرائيل تنتهج الأسلوب الإيراني نفسه بدعم حركة حماس في فلسطين، وهو ما دفع طهران إلى انتهاج سياسة أكثر انفتاحاً تجاه الخليج، خصوصاً السعودية والإمارات والكويت.
"نقطة تحوّل ومعادلة فرضها الطوفان"
كما تردف بأنّ استئناف العلاقات بين السعودية وإيران، في آذار/ مارس 2023، بوساطة صينية، بعد قطيعة دامت سبع سنوات، كان نقطة تحوّل، إلا أنّ هذا التقارب لم يكن موضع ترحيب أمريكي أو إسرائيلي. وبرغم عدم صدور مواقف علنية مباشرة، من الجانبين، إلا أنه مع اندلاع عملية "طوفان الأقصى" في تشرين الأول/ أكتوبر 2023، وجدت الولايات المتحدة نفسها في معادلة جديدة، تمثّلت في دعم إسرائيل عسكرياً، والسعي في الوقت نفسه إلى إعادة ضبط العلاقة مع السعودية لتقريبها من تل أبيب.
وبرغم الضغط الأمريكي، تمكّنت إيران من توظيف الحرب على غزة إعلامياً ودبلوماسياً، لإعادة تشكيل السردية الإقليمية حول إسرائيل كقوة احتلال ومصدر تهديد وجودي، وهذا أبطأ زخم اتفاقيات التطبيع، على حد قول المرسي.
وتضيف الباحثة أنه مع اقتراب حرب غزّة وإسرائيل من نهايتها دون حسم، فتحت إيران قناة تواصل هادئة مع مصر، في مشهد يعكس سعياً حقيقياً لإعادة التموضع ضمن معادلات توازن جديدة في الإقليم، مؤكدةً أنه برغم غياب التمثيل الدبلوماسي الرسمي الكامل، إلا أن وتيرة التصريحات الإيجابية وتبادل الزيارات تشير إلى تهيئة الأرض لتقارب إستراتيجي محتمل، خصوصاً في ظل موقف القاهرة الحاسم من العدوان الإسرائيلي.
وبخصوص فكرة تصدير المدّ الثوري وعلاقة إيران بأذرعها في المنطقة، توضح أنه من الضروري فهم الطموحات الإقليمية الإيرانية على أنها ليست تقليديةً أو استعماريةً بالمعنى الكلاسيكي، بل تتأسّس على تصوّر ذاتي لدورها كقوة حضارية مذهبية إسلامية شيعية ذات مسؤولية في صياغة ميزان القوى الإقليمي، بما يشمل حماية "محور المقاومة" والردع أمام الهيمنة الأمريكية.
بحسب المنسي، فإنّ إيران أُجبِرت على الانكفاء الداخلي، ولم تُقدم عليه طواعيةً، مشيراً إلى أنّ هذا التوجّه لا يعكس تغيّراً في السياسات الإيرانية، وإنما هو نتاج للمتغيّرات التي طرأت على الساحة الإقليمية أخيراً. فما هي تبعات ذلك على الدور الإيراني المحتمل في الدول العربية؟
تمسّك بالأذرع وإعادة هيكلتها
وترى المرسي أنه لا يوجد ما يشير إلى أنّ طهران تنوي قطع علاقتها بحزب الله اللبناني، باعتباره الامتداد العقائدي الأمني الأكثر رسوخاً، حيث يتموضع ضمن مشروع "الردع العقائدي" المشترك ضد إسرائيل، أو الحشد الشعبي في العراق، الورقة "الساكنة" نسبياً لكن الحاسمة في حال اندلاع حرب شاملة ضد المصالح الأمريكية في الخليج أو العراق، أو حتى الحوثيين الذين يشكلون ركيزة ضغط إستراتيجي على طرق الملاحة، ويمكن إعادة توجيه دورهم بحسب مستوى التفاهمات بين طهران والغرب.
وفق هذا التصوّر، لا يبدو أن إيران ستتخلّى عن طموحاتها، بل ستعيد هيكلتها سياسياً وأمنياً، على أن يكون الرهان على تحسين العلاقات مع الدول العربية لاختراق الجبهة المقابلة لها دون تفكيك مشروعها بالكامل، بحسب المرسي.
تراجع تحت الضغط العسكري
ويتفق مع هذا التوجه الباحث المصري المتخصّص في الشأن الإيراني، إسلام المنسي، الذي يقول إن إيران أُجبِرت على الانكفاء الداخلي، ولم تُقدم عليه طواعيةً، مشيراً إلى أنّ هذا التوجّه لا يعكس تغيّراً في السياسات الإيرانية، وإنما هو نتاج للمتغيّرات التي طرأت على الساحة الإقليمية أخيراً.
ويتابع، في تصريحات لرصيف22، بأنّ طهران طُردت من سوريا بالقوة العسكرية، وجرى تدمير القدرات العسكرية ووحدات النخبة لحزب الله، وتم تجميد الميليشيات العراقية الموالية لها نسبياً، ولذلك ما حدث ليس تغيّراً في السياسات وإنما هو تراجع تحت الضغط العسكري.
ويوكد المنسي أنه من الصعب أن تتخلى طهران عن علاقاتها بهذه الأذرع، لأنّ العلاقة مع "محور المقاومة" ليست عسكريةً فقط، بل لها شقّ روحي وشخصي، إذ تجمع طهران بهذه الكيانات روابط عديدة، مستشهداً بما حدث في لبنان. فبرغم الأضرار التي لحقت بحزب الله، إلا أنّ الصلات لم تنقطع أو تتفكّك بين الطرفين.
لا مراجعات فكرية تقود إلى تغيير في السياسات
ويمضي الباحث قائلاً: "حتى الآن، لم تحدث مراجعات في الفكر الإيراني خاصّةً على مستوى السياسة الخارجية، وإنما ما حدث هو تراجع تحت الضغط العسكري، لذلك القدرات العسكرية التابعة لميليشيات إيران في العراق لم تُدمّر، لكنها في حالة كمون ويمكن أن تعود إلى الدور نفسه إذا ما أُتيحت لها الفرصة من جديد"، لافتاً إلى أنه من الصعب على إيران أن تترك منهجها في تصدير الأفكار وزرع الخلايا وإنشاء الميليشيات دون أن تكون هناك مراجعة فكرية وتغيّر في الإستراتيجية.
يتابع المنسي أنّ هذا التغيير إن حدث يستوجب أن تتحوّل إيران "من فكر الثورة إلى الدولة"، منبّهاً إلى أن هذا تغيير ربما تقود الأحداث الأخيرة إليه، حيث تُقام مراجعات ويجري تقييم المرحلة السابقة، خاصّةً أنّ الأحدث أثبتت فشل هذه السياسات، لافتاً إلى أنّ الأمر المؤكد حتى الآن أنّ الهزيمة التي لحقت بإيران في بعض المواقع لا تعني تراجعها عن سياساتها بل قد تقود إلى إصرارها على استكمال النهج نفسه.
"الحرب عطّلت المسار الإصلاحي في إيران"
ويتبنّى مؤسس مركز أبحاث بورس آند بازار، ومقرّه لندن، الباحث إسفنديار باتمان غيليدج، وجهة نظر مغايرة إذ يرى أنّ الحرب الإسرائيلية على طهران عطّلت المسار الإصلاحي الذي كان يتّجه إليه النظام الإيراني خلال الفترة الأخيرة تحت ضغوط القوى السياسية والشعبية في البلاد، لافتاً إلى أنّ حادثة مقتل الرئيس إبراهيم رئيسي، دفعت طهران إلى التشدّد والسيطرة الكاملة على الانتخابات في الداخل.
ويضيف الباحث، في مقال منشور عبر "الغارديان"، أنّ هجمات إسرائيل تُظهر استخفافاً ليس فقط بالحياة -حيث عدد القتلى المدنيين في إيران في ازدياد- بل أيضاً استخفافاً بقدرة الشعب الإيراني وتطلّعاته، إذ إن كثيرين من الإيرانيين لم يكونون راغبين في هذه الحرب، وكانوا يضغطون على قادتهم لتجنّبها، لكن إسرائيل اختارت الهجوم لمنع التوصّل إلى اتفاق نووي جديد بين الولايات المتحدة وإيران.
كما يوضّح أن الأحداث التي طرأت على الإقليم في الأشهر الأخيرة، ولا سيّما سقوط نظام الأسد في سوريا وانهيار قدرات حزب الله في لبنان، فتحت نقاشاً حادّاً بين قادة الأمن القومي الإيراني حول ما إذا كانت إستراتيجية "الدفاع الأمامي" بدلاً من جعل إيران أكثر أمناً، قد أدّت إلى تنامي المشاعر المعادية لإيران في جميع أنحاء المنطقة، مع تركها مع ذلك عرضةً للهجوم.
"بعد المواجهات الدامية التي اختبر فيها كل طرف قدرات الآخر، السؤال المطروح الآن هو هل يعود كل منهما إلى العمليات السرّية ويُطوّر قدراته استعداداً للجولة القادمة؟ وما هي الدروس التي تستخلصها إسرائيل وتركيا والسعودية وقطر والإمارات من توسّع إيران الإقليمي وانسحابها القسري؟"
السلام مرهون بالحرب على غزّة؟
بدوره، يقول مدير برامج الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في معهد الولايات المتحدة للسلام الأمريكي، سرهنك حمه سعيد، إنّ إحلال السلام في منطقة الشرق الأوسط من جديد يستوجب عمليات مختلفةً وجهات فاعلةً مختلفةً أيضاً، لافتاً في مقال له إلى أنّ إحداث اختراقات في الملفات العالقة يحتاج إلى دخول دول فاعلة في المنطقة على محور التفاوض وصناعة القرار من بينها قطر وعمان والسعودية والإمارات وتركيا.
ويتابع بأنّ هناك حاجةً ملحّةً إلى التعاون بين إيران والولايات المتحدة، ويمكن لمجموعة أصغر من هذه الدول التي سبقت الإشارة إليها العمل مع إسرائيل لضمان الاستقرار، حيث تمتلك دول المنطقة المصلحة والعلاقات والقدرة على لعب دور في إنهاء الحرب وبناء مستقبل أفضل.
ويشير إلى أنه بعد المواجهات الدامية التي اختبر فيها كل طرف قدرات الآخر، فإن السؤال المطروح الآن هو هل يعود كل منهما إلى العمليات السرّية ويُطوّر قدراته استعداداً للجولة القادمة؟ وما هي الدروس التي تستخلصها إسرائيل وتركيا والسعودية وقطر والإمارات من توسّع إيران الإقليمي وانسحابها القسري؟ وينبّه ختاماً إلى أنّ الإجابة عن هذه التساؤلات تتوقّف على ما سيحدث في حرب غزّة وما سيُتّخذ من قرارات بناءً على تطورات الوضع هناك.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.