في لحظة سياسية حرجة، عاد الجدل في العراق حول قانون هيئة الحشد الشعبي، وذلك بعد أن أنهى البرلمان في 24 آذار/ مارس الماضي، القراءة الأولى لمشروع قانون جديد يهدف إلى تقنين أوضاع الحشد وهيكلته.
ويأتي هذا الجدل في أعقاب خلافات سياسية حادة، فُجّرت داخل القوى الشيعية نفسها، خاصةً تلك المتعلقة بتحديد السنّ القانونية لتقاعد منتسبي الهيئة، والتي قد تطيح برئيسها الحالي فالح الفياض، وتعيد تشكيل القيادة بالكامل.
في العمق، لا يتعلّق الخلاف بمجرد تنظيم إداري أو قانوني، بل يمتد إلى بنود جوهرية متنازع عليها، من بينها تشكيل كلية عسكرية خاصة بالحشد، وتأسيس مشاريع اقتصادية وإنتاجية تابعة له، وتوسيع صلاحياته الأمنية والاستخبارية، وهو ما عدّه البعض تكريساً لدور الحشد في منظومة الدولة، وتمهيداً نحو تحوّله إلى قوة موازية شبيهة بالحرس الثوري الإيراني.
من ضرورة الوجود إلى تعقيدات الحاضر
تُعدّ قوات الحشد الشعبي واحدةً من أبرز الظواهر العسكرية والسياسية التي برزت في العراق بعد عام 2014. كانت نشأتها استجابةً لظروف أمنية حرجة، بعد اجتياح تنظيم داعش الإرهابي لمناطق واسعة من العراق.
قبيل التمهيد لقراءة أولى لهذا القانون، طرحت قوى سياسية وإعلامية، مقترحاً لدمج الحشد الشعبي ضمن الوزارات الأمنية، إلا أنه جوبه برفض كبير. وقد برّرت القوى السُنّية والكردية، رفضها بالولاءات العقائدية المتباينة بين فصائل الحشد
فتوى "الجهاد الكفائي" التي أطلقها المرجع الديني الأعلى علي السيستاني، في حزيران/ يونيو عام 2014، والتي دعت العراقيين القادرين على حمل السلاح إلى التطوع ضمن مؤسساتها، كانت الشرارة الأولى التي أطلقت شرعية وجود الحشد الشعبي.
على إثر ذلك تكوَّن الحشد الشعبي من عشرات الفصائل المسلحة. وبرغم انضواء مكونات دينية ومذهبية عدة تحت ما سمّي بالحشد العشائري والتركماني والمسيحي، ولكن الغالبية جاءت من خلفية عقائدية شيعية.
الدور المحوري للحشد الشعبي لم يقتصر على المجال العسكري فحسب، إذ زاد توسّعه سريعاً داخل الساحة السياسية، عبر تشكيل كيانات سياسية وتوسيع نفوذه في مؤسسات الدولة، ما جعله قوةً ذات تأثير مزدوج.
هذه الثنائية بين البُعدين العسكري والسياسي، بالإضافة إلى التحديات المتعلقة بانضباط عناصره وضعف سيطرة الحكومة عليهم، وتباين ولاءاتهم، جعلت منه موضوعاً مثيراً للجدل على المستويين المحلي والإقليمي.
ففي الوقت الذي يرى البعض فيه أنّ وجوده ضمانة للأمن والسيادة الوطنية، يعتقد آخرون أنه أصبح أداةً لفرض أجندات خارجية أو لتكريس نفوذ فصائل مسلحة تتحدى سلطات الدولة.
زادت حدّة هذا الجدل بعد تورّط فصائله في عمليات خارج الحدود، وتحديداً في سوريا، ودعمها نظام بشار الأسد، بالإضافة إلى تدشينها هجمات ضد الكيان الصهيوني منذ بداية عمليات طوفان الأقصى في 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، وتعاظم دورها داخلياً.
قبل القراءة الأولى… احتقان داخلي واصطفافات متباينة
قبيل التمهيد لقراءة أولى لهذا القانون، طرحت قوى سياسية وإعلامية، مقترحاً لدمج الحشد الشعبي ضمن الوزارات الأمنية، إلا أنه جوبه برفض كبير. وقد برّرت القوى السُنّية والكردية، رفضها بالولاءات العقائدية المتباينة بين فصائل الحشد، والتي قد تؤثر على الانضباط العسكري في حال دمجها في القوات المسلحة النظامية.
فيما جاء رفض الداعمين للحشد الشعبي لهذه الفكرة، بسبب مخاطر ضياع استقلالية قراره وانصهار قادته ضمن مؤسسة تخضع لتراتبية صارمة، ما يُفقدهم النفوذ في داخله وسيطرتهم عليه، وتالياً خسارة قاعدة جماهيرية واسعة قد تُعدّ الخيط الرفيع لنجاتهم السياسية، وهي الأسباب ذاتها التي دفعت إيران لرفض المقترح، نظراً إلى عدم رغبتها في خسارة ما تعدّه آخر أقوى أذرعها في المنطقة.
بيد أنّ الخلافات المتبلورة مؤخراً، ليست بالجديدة، إذ رافقت مشاريع قوانين سابقة تخصّ الهيئة، مثل قانون الحشد الشعبي الرسمي الذي تم تمريره في 26 تشرين الثاني/ نوفمبر عام 2016، وكذلك تعديل قانون الخدمة والتقاعد لمنتسبي الهيئة في 17 أيلول/ سبتمبر عام 2024، وصولاً إلى التعديلات الحالية التي مُرّرت بعد إقرارها من لجنة الأمن والدفاع النيابية في البرلمان وإحالته إلى رئاسة البرلمان تمهيداً لقراءته الأولى.
وهذا الأخير رافقه احتقان ضخم، نتيجة الاستقطاب العميق داخل البيت السياسي العراقي، خاصةً داخل الإطار التنسيقي. وبرغم أنّ القانون كان من المفترض أن يوحّد قوى الإطار حول الحشد الشعبي، باعتباره الداعم الأكبر له، إلا أن العكس هو ما حصل.
هذه الخلافات تمحورت بين زعامات الفصائل المنضوية داخل الحشد، وتركزت حول شكل القانون، وإدارة الهيئة، وكيفية توزّع مناصبها وامتيازاتها، وانقسمت أطرافها بين الفصائل المقرّبة من الدولة وتلك التي تُتّهم بولاءات خارجية، خصوصاً تجاه إيران، بحسب مصدر في الإطار التنسيقي.
ويوضح المصدر نفسه، لرصيف22، أنّ كل طرف حاول بسط يده على صياغة القانون، بما يتماشى مع مصالحه السياسية والاقتصادية، وأنّ بعض الكتل أرادت منح صلاحيات واسعة لرئيس الهيئة، وتثبيت مناصب قادته البارزين، وهو ما رفضته كتل أخرى ترى بضرورة تداول هذه المناصب في ما بينهم، خوفاً من تكريس هيمنة فصيل واحد أو شخصية واحدة على المؤسسة برمتها، ويلفت إلى أنّ ذلك هو سبب رغبة البعض في استبعاد رئيس الهيئة الحالية من منصبه.
تحوّل مشروع قانون هيئة الحشد الشعبي من مجرد وثيقة تنظيمية إلى أداة صراع سياسي، خاصةً حول مستقبل رئيس الهيئة الحالي، فالح الفياض، إذ بدا واضحاً أنّ القانون لم يُصَغ فقط لتقنين الامتيازات أو إعادة هيكلة الحشد، بل لاستخدامه كورقة ضغط لإزاحة الفياض
فالح الفياض في قلب العاصفة
تحوّل مشروع قانون هيئة الحشد الشعبي من مجرد وثيقة تنظيمية إلى أداة صراع سياسي، خاصةً حول مستقبل رئيس الهيئة الحالي، فالح الفياض، إذ بدا واضحاً أنّ القانون لم يُصَغ فقط لتقنين الامتيازات أو إعادة هيكلة الحشد، بل لاستخدامه كورقة ضغط لإزاحة الفياض، عبر تفعيل فقرة التقاعد القانوني التي ستنهي ولايته، وهو ما تسعى إليه قوى فاعلة داخل الإطار التنسيقي ذاته، وعلى رأسها عصائب أهل الحق.
وكان زعيم عصائب أهل الحق، قيس الخزعلي، قد اتّهم الحكومة بعرقلة إقرار القانون الجديد، خدمةً لمصالح الفياض، وقال في تغريدة نشرها على صفحته الشخصية في 31 آذار/ مارس الماضي: "يؤسفنا سحب قانون الحشد الشعبي من قبل القائد العام للقوات المسلحة من البرلمان، ويوجد تفضيل لشخص رئيس هيئة الحشد الشعبي المحترم على حساب حقوق المجاهدين وهذه جريمة".
هذا الاتهام عزّزه النائب عن كتلة "صادقون" التابعة للخزعلي، علي تركي، ووصف السوداني في تصريح له بـ"رأس الرمح" في إفشال تمرير القانون.
الخلاف كان سياسياً بامتياز، فتصريحات الخزعلي وتركي، تضع القانون في سياق معركة نفوذ، عنوانها من يقود الحشد، ومن يملك مفتاح التأثير الانتخابي، فالاتهامات التي طالت الفياض تتهمه بتوجيه أصوات المقاتلين واستغلال موارد الهيئة لأغراض سياسية، وسط اتهامات للحكومة بالتواطؤ لصالح بقاء الفياض، وعوّل السوداني عليه لتوجيه أصوات الحشد لصالحه في الانتخابات البرلمانية القادمة.
وبحسب مصادر عدة، فإنّ السوداني لم يولِ أهميةً لمطالب عزل الفياض، وهو ما عزز الاعتقاد السابق، باحتمال تحالفهما أو تقاربهما في المستقبل.
الفياض، الذي يرأس الهيئة منذ تأسيسها تقريباً، يُنظر إليه من قبل خصومه كرجل دولة عالق في الحسابات الفصائلية، لكنه يجيد اللعب على الحبال الدقيقة بين الولاء للحكومة والانتماء إلى الحشد، فيما يعتقد مؤيدوه بأنه يمثّل حالةً من التوازن والاستقرار داخل مؤسسة مليئة بالتنوع العقائدي والسياسي.
وفي ظلّ احتدام هذا الصراع، شُلّت جلسات البرلمان، وانقسمت الكتل الشيعية بين من يرى القانون مفصلاً على قياس الفياض، ومن يتّهم الآخرين بتفصيله لإقصائه.
بين الحسابات الداخلية والضغوط
واليوم لا يزال مشروع قانون هيئة الحشد الشعبي الجديد الذي يُفترض أن يحلّ محل القانون رقم 40 لعام 2016، يراوح مكانه في أروقة البرلمان العراقي، بعد أن اصطدم بجدار من الخلافات المعقدة، والخشية من الاعتراضات الأمريكية على تحويل الحشد إلى "نسخة عراقية" من الحرس الثوري الإيراني.
هذا الجانب أفشل إتمام القراءة الثانية للقانون الجديد، في 26 آذار/ مارس الماضي، وبسبب ذلك طالبت لجنة الأمن والدفاع النيابية من مجلس النواب برفع المشروع من جدول أعماله، احتراماً للسياقات القانونية، وأوضحت في بيان لها في 27 آذار/ مارس الماضي، أنّ المجلس لم يلتزم بالمدة القانونية للمشروع، وفقاً للإجراءات التشريعية المعتمدة، المحددة بضرورة مناقشة ما أدرج في الجدول خلال مدة لا تقلّ عن 48 ساعةً بين القراءتين الأولى والثانية لأيّ مشروع.
الصلاحيات الواسعة التي يمنحها القانون الجديد للحشد الشعبي، مثل إنشاء أكاديمية عسكرية خاصة بالحشد، وإطلاق مشاريع صناعية واقتصادية تحت مظلّته، أثارا قلق الكتل السنّية والكردية، بسبب شبهات شرعنة مؤسسة موازية للجيش، ومنحها أدواراً تنفيذيةً قد تتقاطع مع الدولة، أو حتى تتجاوزها.
البنود الخلافية لم تتوقف عند الأكاديمية أو المشاريع الصناعية، بل تعدّتها إلى الصلاحيات التي مُنحت لها وإمكانية القيام بعمليات أمنية وعسكرية دون الحاجة إلى إبلاغ الدولة، تحت ذريعة حماية النظام السياسي، وهو ما عُدّ صيغةً لتبرير التدخل في الشأن السياسي والأمني، بل حتى تعطيل العملية السياسية نفسها.
وتزيد الهوية العقائدية للحشد من هذه المخاوف واعتبار القانون غطاء لتبرير التدخل في الشأن السياسي بشكل غير مباشر، خاصةً في ظلّ النفوذ الكبير لبعض الفصائل داخل البرلمان والحكومة.
الباحث الأمريكي مايكل نايتس، يرسم صورةً قاتمةً لمستقبل العراق في حال تمرير مشروع قانون هيئة الحشد الشعبي بصيغته الحالية، واصفاً إياه بأنه أقرب ما يكون إلى "شرعنة حرس ثوري عراقي"، على غرار النموذج الإيراني
هواجس "الحرس الثوري العراقي"
الباحث الأمريكي مايكل نايتس، رسم صورةً قاتمةً لمستقبل العراق في حال تمرير مشروع قانون هيئة الحشد الشعبي بصيغته الحالية، واصفاً إياه بأنه أقرب ما يكون إلى "شرعنة حرس ثوري عراقي"، على غرار النموذج الإيراني.
المقال الذي نشره معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، بتاريخ 8 نيسان/ أبريل الجاري، لم يكتفِ برسم سيناريو محتمل، بل أطلق دعوةً مباشرةً للإدارة الأمريكية لعدم التغاضي عمّا وصفه بالتحولات الصغيرة ذات الأثر العميق في بغداد، والتي تهدد المصالح الأمريكية والإقليمية بشكل مباشر.
هذه المخاوف يبررها نايتس، في كون العديد من فصائل وقادة الحشد الشعبي مصنّفةً على لوائح الإرهاب، وأنّ مشروع القانون الحالي لن يُجذّر فقط الحشد كمؤسسة، بل سيمنحه صفة "ضامن النظام السياسي"، وهي الغاية نفسها التي أنشأ الحرس الثوري الإيراني من أجلها عقب الثورة في 1979.
ويذهب المقال إلى ما هو أبعد من التحذير، مقترحاً على واشنطن الردّ بشكل عملي وقاسٍ، عبر فرض عقوبات على كيانات اقتصادية تابعة للحشد، مثل شركة المهندس العامة، على غرار ما فُرض سابقاً على شركة خاتم الأنبياء الإيرانية، وهي الذراع الاقتصادية للحرس الثوري.
ولكن ما هي احتمالية تمرير القانون الحالي؟ الباحث السياسي غانم العابد، يعتقد أن توقيت طرح القانون قد يكون محاولةً سياسيةً لاستمالة أصوات الحشد في الانتخابات البرلمانية، المقرر إجراؤها في تشرين الثاني/ أكتوبر المقبل.
ولكنه يستبعد في تصريحه لرصيف22، تمرير القانون، فبالإضافة إلى غياب التوافق السياسي بشأنه، قد يواجَه بعوائق خارجية، ومن واشنطن على وجه الخصوص، خاصةً بعد تقديم مسوّدة قانون "تحرير العراق من إيران" إلى الكونغرس الأمريكي، وما تضمّنته من شروط أبرزها حلّ الحشد الشعبي.
وقانون تحرير العراق من إيران، مشروع قدّمه النائبان الجمهوري جو ويلسون، والديمقراطي جيمي بانيتا، إلى الكونغرس الأمريكي في 4 نيسان/ أبريل الجاري، في انتظار قراءته في البرلمان الأمريكي، ويهدف القانون إلى تقليص نفوذ إيران في العراق ودعم استقلاله، ويتطلب المشروع من وزارتي الخارجية والخزانة والوكالة الأمريكية للإعلام العالمي وضع إستراتيجية شاملة خلال 180 يوماً لتقليل التأثير الإيراني في العراق، ويستهدف جماعات عراقية عدة مدعومة من قبلها، مثل كتائب حزب الله وعصائب أهل الحق ومنظمة بدر.
يُذكّر هذا المشروع بقانون "تحرير العراق" لعام 1998، الذي قدّمه النائب الجمهوري ورئيس لجنة الشؤون الخارجية وقتها، بنيامين جيلمان، والذي دعم المعارضة العراقية ضد نظام صدام حسين، ومهّد الطريق للتدخل العسكري الأمريكي واحتلال البلاد في عام 2003.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
diala alghadhban -
منذ يومو انتي احلى سمرة
حاولت صور مثلك بس كان هدفي مو توثيق الاشياء يمكن كان هدفي كون جزء من حدث .....
ssznotes -
منذ يومشكرًا لمشاركتك هذا المحتوى القيم. Sarfegp هو منصة رائعة للحصول...
saeed nahhas -
منذ يومجميل وعميق
Mohamed Adel -
منذ أسبوعلدي ملاحظة في الدراما الحالية انها لا تعبر عن المستوى الاقتصادي للغالبية العظمى من المصريين وهي...
sergio sergio -
منذ أسبوعاذا كان امراءه قوية اكثر من رجل لكان للواقع رأي آخر
أمين شعباني -
منذ أسبوعهذا تذكيرٌ، فلا ننسى: في فلسطين، جثثٌ تحلق بلا أجنحة، وأرواحٌ دون وداعٍ ترتقي، بلا أمٍ يتعلم...