شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ضمّ/ ي صوتك إلينا!
هل يُعيد السابع من أكتوبر تشكيل الحياة السياسية في قطاع غزّة؟

هل يُعيد السابع من أكتوبر تشكيل الحياة السياسية في قطاع غزّة؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

لطالما كانت العلاقة بين النّظام الحاكم في قطاع غزّة، والوعي الجمعيّ لسكان القطاع، علاقةً جدلية ومتشابكة. لكن ومنذ تولّي حركة "حماس"، الحكم في غزّة وترؤسها المشهد السياسيّ والعسكريّ فيها عام 2007، وعلى الرّغم من وجود تباين في آراء السكان تجاه أيديولوجيا الحركة -نظراً إلى التعدّديّة التي شهدتها الساحة السياسيّة الفلسطينيّة على مدار عقود من الزمن- إلا أنّ واقع حكمها شهد تأييداً لها عند فئة من السكان، وفرضاً لتقبّلها عند أخرى، ومعارضةً لها عند فئات صمتت أو عبّرت جهاراً عن معارضتها، كما حدث عام 2019، حين انطلق حراك "بدنا نعيش".

شكّل صباح السّابع من تشرين الأوّل/ أكتوبر 2023، إشارة البداية لانطلاق التطبيق الحقيقي للفكرة التي طوّرتها أجيال "حماس" القياديّة، على مدار سنوات نشاط الحركة وحكمها؛ بمباركة الفصائل الأخرى وأذرعها العسكريّة، ومشاركتها، وهي فكرة الاشتباك الحتميّ أو اقتحام الحدود مع إسرائيل.

للمرّة الأولى أشعر بشيء يخيف أكثر من الطائرة الحربيّة والصّواريخ، هو الخوف من المجهول

ولعلّ سكان غزّة، على اختلاف خلفياتهم السياسيّة أو الأيديولوجية، كانوا على دراية بأنّ الحشد الفكريّ والدينيّ والإعداد العسكريّ، يشيران إلى مواجهة قادمة مع إسرائيل لا محالة. فقد كان من الواضح أنّ الحروب القصيرة والمتقاربة زمنيّاً بين "حماس" وإسرائيل، تمهّد للحظة الانفجار.

لكنّ هذه المعرفة لم تُمهّد، لدى النّاس، لأيّ توقّعات حول حجم الضرر البشريّ والماديّ الذي تسبّبت فيه حرب الإبادة الإسرائيليّة، والذي قد يُثير أسئلةً وتحوّلاتٍ جديدةً لدى المجتمع الفلسطينيّ في غزّة، ترتبط بثقته بقادته ورؤيته لهويّته ومستقبله السياسيّ والاجتماعيّ.

"من المبكر معرفة طبيعة هذه التحوّلات في أنماط التفكير لدى الفلسطينيّين في غزّة، إذ لا يُمكن قياسها إلّا بعد مرور فترة زمنيّة تفصل بين الحرب وما بعدها"، يقول عزيز مصري؛ الباحث في التاريخ السياسي، لرصيف22.

وعلى الرّغم من حاجتنا إلى هذه الفسحة الزّمنيّة كي نُبيّن هذه التحوّلات، إلّا أنّ آراء النّاس على الأرض قد تعطي ملامح لإجابات أوّليّة حول التغيّرات في المواقف والأيديولوجيّات، بجانب استطلاع حديث أجراه مركز العالم العربيّ للبحوث والتنمية (أوراد)، في رام الله، بين 27 تشرين الثاني/ نوفمبر وكانون الأوّل/ ديسمبر 2024، استخلص نتائج بشأن آراء النّاس وثقتهم بأنظمة الحكم في الضفّة الغربيّة وقطاع غزّة، ومشاعرهم تجاه اللحظة والمستقبل.

مظاهرة لحراك "بدنا نعيش" في غزّة

هل كان السّابع من أكتوبر نقطه تحوّل عند الغزّيين؟

من جانب سكان غزّة، ومع تصاعد وتيرة الأحداث وتزايد تعقيدات المشهدين المحليّ والعالميّ، والحياة اليوميّة، برزت تساؤلات قديمة جديدة حول الهويّة والذات، وجدوى الصراع، والمستقبل المجهول.

يقول إبراهيم أبو علي، من مخيم البريج، وسط قطاع غزة، لرصيف22: "لا يمكنني أن أصف شعوري بالتحديد. للمرّة الأولى أشعر بشيء يخيف أكثر من الطائرة الحربيّة والصّواريخ، هو الخوف من المجهول".

أمّا إسراء يوسف، من وسط القطاع أيضاً، فتقول في حديثها إلى رصيف22: "كلّ ما أفكر فيه الآن، أنّنا لن نعود كما كنّا. غزّة أيضاً مثلنا، لن تعود كما كانت. التلقائية والبساطة اللتان كنّا عليهما قبل السابع من أكتوبر، انتهتا إلى الأبد".

"على الرغم من أنّ هذا التاريخ وما لحقه، أتيا بمردودٍ سلبيّ على الوعي الجمعيّ، بالإضافةً إلى حالة الخذلان والشعور بالانفصال الوجدانيّ عن بقيّة الوطن، إلا أنّ أنماط التفكير لدى المواطن في غزّة ستكون أكثر تقدّماً مستقبلاً، وهذا مرهون باستقرار النّاس وأمنهم بعد الكارثة التي حلّت بهم"، يقول أمين عابد، الباحث والناشط السياسي الاجتماعي، لرصيف22.

قال 11% من سكّان القطاع المستطلعين إنّهم يؤيّدون المقاومة المسلّحة، في حين قال 77% منهم إنّهم يؤيّدون المفاوضات وعمليّة السّلام

وربما بدت الخطابات السياسية والعسكرية التقليديّة، بعد السابع من أكتوبر، وكأنها تخضع لمراجعة شعبية صارمة، حيث بدأ السكان يفكرون في مدى توافق تلك الخطابات مع ما يؤمنون به، ولا سيما بعد الثمن الكبير الذي دفعوه من حياتهم.

فبحسب استطلاع أجراه مركز العالم العربي للبحوث والتنمية، في أيّار/ مايو 2024، حظيت حركة "حماس"، بتقييم إيجابيّ من 24% من سكّان غزّة فقط، ردّاً على سؤال حول تقييم المستطلعين للّاعبين الرئيسيين في المنطقة، مقارنةً بـ76% في الضفّة الغربيّة.

"قد يكون ذلك بسبب الدور الرئيس الذي تلعبه حماس في قيادة العمل المسلّح، وهو ما يجعلها في محلّ نقد أكبر مقارنةً بالمجموعات الأصغر كالجهاد الإسلاميّ، الذي حظي بتقييم أعلى"، بحسب المركز.

وعند سؤال المستطلعين عن الحزب الفلسطيني الذي يُمثّلهم من حيث الفكر السياسي والاجتماعي والاقتصادي، أشار 13% منهم إلى أنّ حركة "حماس" تمثّلهم، بينما 50% قالوا إنّ حركة "فتح" تمثّلهم.

استطلاع لمركز العالم العربيّ للبحوث والتنمية (أوراد)

الانقسام الفلسطينيّ لا يزال مؤثّراً

ويشير استطلاع أجراه في الفترة نفسها مركز خليل الشقاقي الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية، إلى أنّه "عند سؤال المستطلعين عن الحزب السياسي الذي يؤيدونه، قالت النسبة الأكبر منهم (40%) إنّها تفضّل حماس، تتبعها فتح (20%)، فيما اختار 7% منهم قوى ثالثةً، و 33% منهم قالوا إنّهم لا يؤيدون أيّاً منهما أو لا يعرفون".

وعلى الرّغم من اختلاف الاستطلاعات، إلّا أنّ الانقسام الفلسطيني تجلّى في نسبة الشعبية التي حظيت بها الأطراف الفلسطينيّة في الضفّة وغزّة على مدار العقود الماضية. "لا تزال فتح هي الحزب السياسي الأكثر شعبيةً بين الفلسطينيين في الضفّة الغربية وقطاع غزّة"، بحسب استطلاع "أوراد"، في حزيران/ يونيو 2024، حيث "يدعمها 34% من السكان (19% في الضفّة و57% في القطاع). في المقابل، تحصل حماس على تأييد 23% منهم (30% في الضفّة، و13% في القطاع). تقدّم هذه النتائج دليلاً على الاتجاه الذي لوحظ في الاستطلاعات منذ الانقسام الفلسطيني الذي بدأ عام 2007، وهو أنّ الناخبين في غزّة أكثر انتقاداً لحماس، في حين أنّ نظراءهم في الضفّة أكثر انتقاداً للسّلطة الوطنيّة الفلسطينيّة"، يقول بيان المركز.

المسلّحة أو السلميّة؟

ولعلّ الأثمان البشريّة التي دفعها الفلسطينيّون في غزّة أثارت، أيضاً، تساؤلاتٍ حول جدوى المقاومة المسلّحة، وتخوّفات من آلة الحرب الانتقاميّة الإسرائيليّة. وقد امتدّت هذه التخوّفات إلى الضفّة الغربيّة، وتجسّدت، في بعض المحافظات كمحافظة نابلس على سبيل المثال، في محاولات رسميّة وشعبيّة للحدّ من هذا النّوع من المقاومة.

وفي الاستطلاع الذي نُشر في كانون الأوّل/ ديسمبر 2024، وردّاً على سؤال المستطلعين: ما الذي تعتقد أنّه الأكثر منفعةً لإنهاء الاحتلال وتحقيق الدولة الفلسطينية المستقلّة؟ قال 11% من سكّان القطاع المستطلعين إنّهم يؤيّدون المقاومة المسلّحة، في حين قال 77% منهم إنّهم يؤيّدون المفاوضات وعمليّة السّلام.

استطلاع لمركز العالم العربيّ للبحوث والتنمية (أوراد)

أين الفرد الفلسطيني من هذا كلّه؟

وبين هذه الأحزاب والتيّارات ورؤاها السياسيّة والحزبيّة، يدفع المجتمع الفلسطينيّ أثماناً باهظةً، ويحاول حتّى في خضمّ حرب الإبادة الجماعيّة، أن يُسمع صوته لقادته. فقبل وقف إطلاق النّار بفترة وجيزة، خرجت حملة "بدنا كرامة"، لمطالبة القادة بتحمّل مسؤوليّاتهم.

"هنا، كلّ حزب يريد فلسطين مختلفةً عن الحزب الآخر. وفي أثناء ذلك، أصبحنا مشرّدين في الخيام بلا أيّ فلسطين"، يقول المواطن باسم عودة، الذي يعيش في خيمة في المواصي، غربي مدينة خان يونس، لرصيف22.

ولعلّ نقاشات جديدةً برزت بين الغزّيين حول أسباب تماسك المجتمعات، والعوامل التي تؤدي إلى الانهيار الاجتماعي، وكيف يمكن الحفاظ على المجتمع وطنيّاً وأخلاقيّاً وقيميّاً. يقول المواطن نضال كحيل، من مدينة غزّة، لرصيف22: "مجتمع الفضيلة الذي تمّ الترويج له لسنوات، انهار عند أول اختبار في الأخلاق".

وربّما شهدت هذه الحرب صراعاً بين عموم النّاس وبين فئة من التّجار والعصابات التي سرقت المساعدات الإنسانيّة والتبرّعات في القطاع. ففي سؤال مركز "أوراد"؛ من تلوم أكثر على التوزيع غير العادل للمساعدات؟ أجابت النسبة الأكبر (39%)، بأنّها تلوم قادة المجتمع والتّجار، في حين لام 7% فقط المنظّمات الإنسانيّة على التوزيع غير العادل.

وفي أحد المقاهي الصغيرة في دير البلح، يقول المواطن العشرينيّ يوسف الخطيب: "لأوّل مرة نهتمّ بالسؤال عن أنفسنا. دائماً كان يتمّ استخدامنا في الخطابات والهتافات وتحقيق أهداف الفصائل".

كلّ حزب يريد فلسطين مختلفةً عن الحزب الآخر. وفي أثناء ذلك، أصبحنا مشرّدين في الخيام بلا أيّ فلسطين

ويضيف في حديثه إلى رصيف22: "عندما رأينا أمام أعيننا كيف تحوّل مجتمعنا إلى مجتمعٍ منكوب ومنهار بعد شهر واحد من الحرب، أدركنا أنّ هناك حتماً ما هو أبعد من الشعارات".

"لقد انفصل وعي الأفراد في غزّة، نسبيّاً، عن الوعي الجمعي السائد، وذلك بسبب التحديات التي واجهوها بشكل شخصيّ"، تقول المواطنة ليلى لوقا، من رفح.

وتضيف: "ربما أصبحنا نفكّر في أنفسنا كأفراد داخل مجتمع، لا مجرّد أفراد يعيشون على هامش جماعات حزبيّة تبتلع هوياتهم. هذا الأمر سيتيح تطوير تعبير سياسيّ وثقافيّ جديد".

تُبيّن هذه الأفكار والتطلعات لدى السّكان ملامح التغيّرات الفكرية الحاصلة خلال الحرب، والتأمّل في تبعاتها في أثناء التهدئة الحالية، بعيداً عن القوالب التقليدية التي لطالما حكمت النّقاشات العامة، وقريباً من التّحديات الواقعيّة التي تحكم حياة الفرد والجماعة.

يقول المواطن خالد خالد محمد، وهو طالب جامعي من بيت لاهيا، شمالي القطاع: "لا يمكننا إلا أن نكون أكثر واقعيّةً، فما نعيشه من تحدّيات يجبرنا على التشبث بالحياة. لكن في الوقت نفسه لا يمكننا التخلّي عن إيماننا الذي يمنحنا القوة لمواجهة المفارقات الصعبة في حياتنا".

كيف يرى الغزّيون مستقبلهم السياسي؟

تقول المواطنة نجيا محمود، من جنوب غزة: "التخلص من الوصاية على الفلسطينيّ، هي الخطوة الأهم من أجل تحديد مصيرنا وأصواتنا الحقيقية، إذ لا يمكن لأيّ طرف أن يرى المشهد في غزّة كما يراه سكّانها. وعليه، علينا أن نتحدّث بأنفسنا لنرسم مستقبلنا، ونضمن عودة قضيتنا إلى مسارها نحو تحقيق المواطنة وتقرير المصير".

وكان الاستطلاع الأخير لمركز "أوراد"، قد بيّن تشاؤماً عامّاً في النظرة المستقبليّة لدى سكّان القطاع. ففي سؤاله: هل تعتقد أن الأمور في فلسطين تسير في الاتجاه الصحيح أو في الاتجاه الخطأ؟ قال 59% من المستطلعين إنّها تسير في الاتجاه الخطأ، مقابل 39% قالوا العكس.

وفي خضمّ التخوّفات حول إمكانيّة إتمام مراحل وقف إطلاق النار، ووقف الحرب المستدام، تبقى الحالة الجماعيّة في غزّة في تصادم مستمرّ مع المستقبل الضبابيّ. "إنّ الواقع المزري الذي يعيشه السّكان سيحدّ من قدرتهم على التأثير في صناعة القرار، ما سيجعل تحوّلاتهم الفكريّة والسياسيّة عرضةً لإعادة التوجيه"، يقول عابد.

وهنا يشير الباحث والنّاشط السياسيّ حسن الداهودي، إلى أنّه "على الرغم من الإبداع منقطع النظير الذي يتّسم به الغزّيون في تشكيل وعيهم، إلا أنّ هذا الإبداع كان يُحجّم عبر نظام الإقصاء والوصاية الذي طالما مارسته حركة حماس في غزّة".

ويستنتج الداهودي: "إنّ الحديث عن تحوّل ملموس في الوعي الجمعيّ، هو حديث حالم وطموح، لكنه يصطدم بواقع الشباب المنهك. مع ذلك، يظلّ احتمال الصراخ بشعار 'كلن يعني كلن' موجوداً بقوّة، كهاجس يلاحق الفصائل الشّائخة".

وقد لا تكون التحوّلات الآنيّة أو المستقبليّة في الفكر الفلسطيني في غزّة، بعد السابع من أكتوبر، نابعةً من فروقاتٍ أيديولوجيّة واضحة، بقدر ما هي نابعة من تحوّلات وجوديّة مرتبطة بالانتماء إلى الحياة الواقعيّة. "كان الناس يميلون إلى التمسّك بالحياة الأخرى لأنّها تمنحهم تعويضاً عن القسوة. في المقابل، أصبحت النّزعة نحو البقاء على قيد الحياة تتّسم بالقوّة نفسها. وهذا لا يشكل أيّ تضاد، فالتوازن بين الواقعيّة والروحانية في حياة مسلوبة ومهدورة كحياة الإنسان في غزّة، أمرٌ أساسيٌ للنجاة"، يقول الشاعر والصحافيّ الغزيّ هشام أبو عساكر، لرصيف22.

هل من توقّعات لشكل الحكم القادم؟

"حقيقةً نحن هنا أمام نموذجَين؛ نموذج التغيير السياسيّ الجذريّ على غرار ما حصل في إسبانيا في حقبة الحرب الأهليّة، وكذلك في اليابان بعد كارثة هيروشيما وناكازاكي، وفي أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية، ونموذج الحرب التي تنتهي بالعودة إلى ما قبلها، كنموذج الحرب الأهليّة في لبنان"، يقول المصري.

ويرى حسن الداهودي، أنّ الحرب لم تنتهِ، ويمكن ملاحظة ذلك في محافظة رفح التي لا يزال الهدم والقتل فيها قائمين برغم الهدنة المزعومة. وهذا ينذر بحرب مفتوحة عنوانها "تحويل القطاع إلى مدن طاردة للحياة"، تمهيداً لخطط التهجير الطوعيّ، بحسب تعبيره.

المستقبل يحتاج إلى إرادة سياسيّة ورؤية واقعيّة، بعيداً عن مفاهيم الصمود واستعراض القوة والشعارات. ويحتاج إلى أن تتوافق حركة حماس مع السّلطة الفلسطينيّة على شكل إدارة جديدة لغزّة،

ربّما يُمكن عدّ السيناريوهات المرتبطة بشكل "اليوم التالي"- سواءً تلك التي تمنّاها ترامب حين تخيّل غزّة "ريفييرا الشرق الأوسط"، أو التي طرحتها إسرائيل التي تريد الوقوف في وجه حُكم "حماستان وفتحستان"، كما قال نتنياهو، ونزع سلاح حماس مقابل إعادة الإعمار، أو اقتراح مصر إنشاء لجنة إسناد مجتمعيّ فلسطينيّة- سيناريوهات تحمل تغييرات جذريّةً.

في السّياق، ورد خبر استعداد "حماس" لتسليم حكم قطاع غزّة للسلطة الفلسطينيّة. وعلى الرّغم من أنّ "حماس" لم تؤكّده، إلّا أنّ محمود المرداوي، القياديّ فيها، يقول في تصريح سابق لرصيف22: "إنّ تفكيك سلاح المقاومة يُمكن أن يتحقّق في حال قيام دولة فلسطينيّة".

ويرى عصمت منصور، الكاتب والباحث في الشأن الإسرائيليّ، إنّ "موقف حماس الأخير يفتح الباب للخلاص من التحديات المصيريّة التي أعقبت أحداث السابع من أكتوبر، ويضيّق الطريق أمام مخططات عزل قطاع غزّة وتهجير سكانه"، بحسب حديثه إلى رصيف22.

لكن السؤال الملحّ يبقى: كيف سيكون لصوت النّاس اعتبارٌ في تقرير مصيرهم وفي تحديد شكل "اليوم التالي" في غزّة؟ ففي استطلاعه الذي نُشر في 21 كانون الأوّل/ ديسمبر 2024، بيّن مركز "أوراد"، أن النتائج على السؤال التالي: أيّ من الأطراف الفلسطينيّة التالية تثق بها أكثر لقيادة الحكم في غزة؟ جاءت هكذا: أجاب 45% من الغزّيين بأنّهم يثقون بحكومة وحدة وطنيّة، بينما قال 31% منهم إنّهم يثقون بالسّلطة الفلسطينيّة، و5% فقط أشاروا إلى ثقتهم بحماس في قيادة الحكم في غزّة.

استطلاع لمركز العالم العربيّ للبحوث والتنمية (أوراد)

تقول المواطنة حليمة زياد، من المحافظة الوسطى في القطاع، لرصيف22: "أعتقد أنّني أقاسم الكثير من أصدقائي الشعور بعدم الثقة بالقوى السياسية والعسكريّة القائمة. لذلك، وبعد حالة التشتّت العامّة بعد السابع من أكتوبر، لا أستطيع إلا أن أعطي صوتي للشرعيّة الفلسطينيّة ممثلةً في منظّمة التحرير".

وعلى الرّغم من مرور 17 عاماً على آخر مرّة انتخب فيها الشّعب الفلسطينيّ ممثليه، نتيجة الانقسام السياسيّ، إلّا أنّ استطلاعاً لمعهد التقدّم الاجتماعيّ والاقتصاديّ، نُشر في نهاية كانون الثّاني/ يناير 2025، سأل مستطلعيه، قبل اتفاق وقف إطلاق النّار وبعده، عن التيّارات السياسيّة التي سيصوّتون لها في حال حصول انتخابات في المستقبل، فقال 27.9% منهم إنّهم لن يدلوا بأصواتهم، و5.3% إنهم سيصوّتون لـ"حماس"، و29.1% لـ"فتح".

فيما أشار استطلاع مركز "أوراد"، إلى الإجابات عن سؤاله: "أيّ فصيل سياسيّ من المرجّح أن تصوّت له في الانتخابات التشريعيّة القادمة؟ فبيّن أنّ ربع الغزّيين، أي 25% منهم، قالوا إنّهم لن يصوّتوا، فيما قال 43% منهم إنّهم سيصوّتون لحركة فتح، و6% لحركة حماس.

استطلاع لمعهد التقدّم الاجتماعيّ والاقتصاديّ

يرى المواطن حسين عليان، من مدينة غزّة، أنّ "الانتخابات في ظلّ الوضع الراهن لن تؤدّي إلى تمثيل سياسيّ حقيقيّ". ويضيف في حديثه إلى رصيف22: "يسهل التأثير على وعي الجماهير في غزّة. وعليه، سيُعاد إنتاج حالة التفرّد في الحكم. أنا سأمنح صوتي لجهة مستقلّة تبدأ أوّلاً بضمان الأمان الاجتماعيّ والسياسيّ للمواطنين، ضمن إطار وطنيّ فلسطينيّ".

قد تصبّ في هذه الثقة التي يوليها الفلسطينيّون للفصائل الفاعلة، أو لعدم الثقة الناتج عن سنين طويلة من الانقسام والتناحر، أملاً في تحقيق مستقبل أفضل من واقعهم الحاليّ. ومستقبل غزّة مرهون بإعمارها أوّلاً، وجبر ضررها الماديّ العامّ والخاصّ الذي لحق بحياة النّاس وأرزاقهم.

وأظهر 1% فقط من المستطلعة آراؤهم في استطلاع "غزّة والمستقبل، والآفاق السياسيّة، والحكومة الفلسطينيّة"، ثقةً بحركة حماس في قضيّة البناء وإعادة إعمار قطاع غزّة، فيما أظهر 72% منهم ثقةً بالأمم المتّحدة.

المستقبل بعيداً عن الشعارات

يرى عصمت منصور، أنّ "المستقبل يحتاج إلى إرادة سياسيّة ورؤية واقعيّة، بعيداً عن مفاهيم الصمود واستعراض القوة والشعارات. ويحتاج إلى أن تتوافق حركة حماس مع السّلطة الفلسطينيّة على شكل إدارة جديدة لغزّة، تكون فيها الحركة جزءاً من المرجعية الوطنيّة وليست الحكم المباشر، بحيث لا تسمح لليمين الإسرائيليّ بتمرير مخططاته الاستعماريّة بذريعة مواجهة تهديدات حماس".

"إنّ المستقبل المشوب بالكثير من التحدّيات والمخاطر التي تهدّد الوجود والمشروع الفلسطينيَّين، مع تزايد الحديث عن مشروع التهجير الطوعيّ للفلسطينيين في غزّة، وخلق مساحات طاردة للحياة، يجعل من التساؤلات حول الحكم في غزة نوعاً من التّرف الفكريّ الذي يطلقه اللاهثون خلف الحكم، حتى وإن كان حكماً على كومة حجارة"، يقول الداهودي.

وعليه، فإنّ الواقع الكارثيّ في غزّة يحتّم على الجميع أن يضعوا المناكفات السياسيّة جانباً، من أجل البحث عن مخرج آمن، "مع ضرورة التوقّف عن اتّباع نظريّة المؤامرة، وتبادل الاتهامات والتشتّت بين السياسات مع المحيط العربيّ والدوليّ، كون كلّ ذلك يسهم في تهميش المراجعة الذاتيّة"، كما يشير عزيز المصري.

ويظلّ المسار المُتاح والمُنتظر منذ سنوات، على تحدّياته أو عيوبه، أمام الفلسطينيين، هو إعادة بناء منظّمة التحرير الفلسطينيّة، والذي يمكن من خلاله أن يجد الفلسطينيّيون مكاناً لتحوّلات أو تغيّرات في وعيهم الجمعيّ، وتالياً في تشكيلهم لمصيرهم وبقائهم أمام التهجير والمحو.

هذا التقرير أُنتج بدعم من منظمة Civil Rights Defenders.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

قد لا توافق على كل كلمة ننشرها…

لكن رصيف22، هو صوت الشعوب المضطهدة، وصوت الشجعان والمغامرين. لا نخاف من كشف الحقيقة، مهما كانت قبيحةً، أو قاسيةً، أو غير مريحة. ليست لدينا أي أجندات سياسية أو اقتصادية. نحن هنا لنكون صوتكم الحرّ.

قد لا توافق على كل كلمة ننشرها، ولكنك بضمّك صوتك إلينا، ستكون جزءاً من التغيير الذي ترغب في رؤيته في العالم.

في "ناس رصيف"، لن تستمتع بموقعنا من دون إعلانات فحسب، بل سيكون لصوتك ورأيك الأولوية في فعالياتنا، وفي ورش العمل التي ننظمها، وفي النقاشات مع فريق التحرير، وستتمكن من المساهمة في تشكيل رؤيتنا للتغيير ومهمتنا لتحدّي الوضع الحالي.

شاركنا رحلتنا من خلال انضمامك إلى "ناسنا"، لنواجه الرقابة والترهيب السياسي والديني والمجتمعي، ونخوض في القضايا التي لا يجرؤ أحد على الخوض فيها.

Website by WhiteBeard
Popup Image