شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!
هل تتحمّل إسرائيل مسؤوليتها القانونية في جبر الضرر وتعويض ضحاياها في غزة؟

هل تتحمّل إسرائيل مسؤوليتها القانونية في جبر الضرر وتعويض ضحاياها في غزة؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

في كل مرة تخرج فيها غزة من عدوان إسرائيلي، كان يتحدث العالم والمانحون عن "إعادة إعمارها"، فيقصدون مدارسها ومنشآتها العامة وشوارعها، لكن لم يحدث بعد انتهاء الحروب الست البارزة التي شنتها إسرائيل عليها، أن تحدثت الدول المانحة، أو المجتمع الدولي وهيئاته القانونية، أو الفلسطينيون أنفسهم، عن إجبار إسرائيل على تحمل مسؤوليتها القانونية عن هذه الحروب، وبالتالي على جبر الضرر وتعويض الضحايا أمام خسائرهم المادية وغير المادية.

لقد تسببت حرب الإبادة الإسرائيلية على قطاع غزة، منذ السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023، بأضرار جسيمة لحقت بالحياة الجماعية، تجسّدت بنسف الأحياء والبيوت والمنشآت العامة، وتدمير البنية التحتية والنظام الصحي والتعليمي، والبيئة والأراضي الزراعية. ولا شك بأن هذا الفضاء العام الذي واجه حرب الإبادة، هو تشكيل لحيوات المواطنين والأفراد، التي لحقت بها أضرار لا تقل جسامة.

ولعلّ الإبادة التي حطّمت أرقاماً قياسيّة في حجم الضرر الحاصل على الاقتصاد والحياة المدنية والضحايا، قياساً بحروب أخرى في التاريخ البشري الحديث، تحتاج إلى تفكير جديد، أيضاً، عند الحديث عن جبر الضرر والإعمار. فحروب غزة السابقة، شهدت "إعادة إعمار" بعد انتهائها. أما في هذه الحرب، فتتحدث مؤسسات أممية عن ضرورة "إعادة بناء" القطاع، وليس "إعادة إعماره".

لقد مرت مجتمعات عدّة في التاريخ البشري الحديث بتجارب أفضت إلى تأسيس برامج لاستعادة الملكية والتعويض أو سبل الإنصاف الأخرى لضحاياها. "وتلعب هذه البرامج دوراً مركزياً في عملية المصالحة وإعادة البناء وتأهيل البلدان التي تمر في مراحل انتقالية على مستوى الحياة الجماعية. وعليه، فهي تحد من عودة هذه البلدان إلى دائرة الصراع"، بحسب تقرير "استرداد الممتلكات والتعويض" للجمعية الدولية للهجرة.

لكن كيف لإعادة بناء الفضاء العام، أن يأخذ بالحسبان إعادة بناء الحياة الفردية، المادية والمعنوية؟ وهل سيتحمل، مرتكب الجُرم، إسرائيل، مسؤولية جبر ضرر الضحايا المواطنين وتعويضهم عن خسائرهم الشخصية، سيما بعد أن كانت قد أقرت جملة من التشريعات التي تعفيها من المسؤولية تجاه ضحاياها الفلسطينيين؟

كيف لإعادة بناء الفضاء العام، أن يأخذ بالحسبان إعادة بناء الحياة الفردية، المادية والمعنوية؟ وهل سيتحمل، مرتكب الجُرم، إسرائيل، مسؤولية جبر ضرر الضحايا المواطنين وتعويضهم عن خسائرهم الشخصية، سيما بعد أن كانت قد أقرت جملة من التشريعات التي تعفيها من المسؤولية تجاه ضحاياها الفلسطينيين؟

ماذا يعني التعويض وجبر الضرر؟

"إذا قامت دولة ما بانتهاك القانون الدولي، وأوقعت الضرر، ولم تلتزم بالتزاماتها، وكان هذا الضرر يمس دولة أخرى أو أفراداً، فإنه يترتب على تلك الدولة مجموعة من الواجبات التي تسمى 'مسؤولية الدولة'. هذه المسؤولية منفصلة عن المسؤولية الفردية، والتي هي مسؤولية جنائية تقع على عاتق الأشخاص الذين قاموا بجرائم حرب"، يقول أستاذ القانون الدولي في جامعة القدس، منير نسيبة، لرصيف22.

وعليه، فإن مسؤولية الدولة جزء من القانون الدولي الذي يهتم بجبر الضرر والتعويض، بحيث تنقسم مسؤولية الدولة، بحسب ما يفيدنا به نسيبة، إلى: أولاً وقف الانتهاك إذا كان مستمراً. ثانياً تقديم ضمانات بعدم تكرار الانتهاك؛ فإذا كان هناك مثلاً أشخاص مسؤولون عن هذه الجريمة، فيجب تغييرهم من مواقع المسؤولية حتى لا يتم تكرارها. وثالثاً جبر الضرر، وهو مصطلح واسع في القانون، سواءً القانون الدولي أو القوانين الداخلية.

"يشمل جبر الضرر في القانون الدولي ثلاثة أقسام: الأول هو الرد؛ أي إعادة الوضع على ما كان عليه. مثلاً، إذا تم هدم منزل مواطن، فالرد يكون بإعادة بنائه. وإذا تم طرده من بيته، فالردّ يكون في إعادته إلى بيته"، يضيف نسبة.

ويؤكد أنه في بعض الأحيان، يكون الرد مستحيلاً؛ مثلاً إذا كان الانتهاك متجسّداً في قتل أشخاص، ننتقل إلى الشكل الثاني من أشكال جبر الضرر، وهو التعويض؛ أي دفع مبلغ مالي في جبر ما لا يمكن جبره من خلال الرد. أما الشكل الثالث من أشكال جبر الضرر، فهو الترضية، وهي تأخذ أشكالاً مختلفة، منها الاعتذار للضحايا أو الدول، أو بناء نصب تذكاري للضحايا.

ووفقاً لقواعد القانون الدولي الإنساني، فإن القاعدة رقم 150 تنصّ على أن "تلتزم الدولة بالمسؤولية عن انتهاكات القانون الدولي الإنساني، بالتعويض الكامل عن الخسائر أو الأذى الذي تسببت به الانتهاكات". إضافة إلى اتفاقية لاهاي الخاصة باحترام تقاليد وأعراف الحرب البرية المؤرخة في 18 تشرين أول/ أكتوبر 1907، فقد نصت المادة رقم 3 على "أن يكون الطرف المتحارب الذي يخل بأحكام هذه الاتفاقية ملزماً بالتعويض إذا دعت الحاجة، كما يكون مسؤولاً عن جميع الأعمال التي يرتكبها أشخاص ينتمون إلى قواته المسلحة".

ونصت المادة رقم 52 من نفس الاتفاقية، على أن "تحظر مهاجمة أو قصف المدن والقرى والمساكن والمباني أياً كانت الوسيلة المستعملة". وجاء في المادة 53 أنه "لا يجوز لقوة احتلال أن تستولي على الممتلكات والأموال النقدية، ويجب إعادتها الى أصحابها ودفع التعويض عند إقرار السلم".

طريق التعويض أمام الغزيين

يقول الخبير في القانون الدولي، فؤاد بكر، في حديثه لرصيف22: "هناك عدد من الآليات التي يمكن لضحايا الحرب على قطاع غزة اعتمادها للحصول على التعويض المعنوي والمادي للأفراد المتضررين كأبناء الشهداء، الجرحى، المعوقين، الأسرى، من خلال محكمة العدل الدولية. ويكون ذلك من خلال الدعوى المقدمة من جنوب إفريقيا ضد إسرائيل لانتهاكها اتفاقيةَ منع الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها، وتخويل اللجنة المعنية بمتابعة التعويضات".

ويضيف: "يمكن كذلك الحصول على التعويضات من خلال المحكمة الجنائية الدولية التي أصدرت مذكرتي توقيف ضد نتنياهو وغالانت، حيث يمكن للضحايا تقديم طلباتهم من خلال مكتب المدعي العام، أو مكتب الضحايا بالمحكمة، أو من خلال السلطة الفلسطينية ومنظمات دولية معنية بحقوق الإنسان، إضافة إلى مجلس حقوق الإنسان الذي بإمكانه أن يطالب إسرائيل بتعويض الضحايا والمتضررين من الحرب".

"وبإمكان مؤسسات المجتمع المدني ذات الصفة الاستشارية في مجلس حقوق الإنسان اللجوء أيضاً إلى رفع تقارير إلى مكتب المفوض السامي لحقوق الإنسان وبرامج الأمم المتحدة ذات الصلة بالقضايا الإنسانية، لمطالبة إسرائيل بالتعويض، وفرض عقوبات عليها في حال عدم التزامها"، يؤكد بكر.

ويتابع مضيفاً: "من حق الضحايا وذويهم أن يتقدموا بدعاوى قانونية مدنية ضد مرتكبي جرائم الحرب من أجل الحصول على التعويضات اللازمة، في المحاكم الوطنية أو المحلية ذات الاختصاص العالمي. ومن بين هذه الدول: إسبانيا، بلجيكا، هولندا، ألمانيا، فرنسا، السويد، النرويج، وبريطانيا. لكن هذا يتطلب دعماً دبلوماسياً وحملات شعبية، وتعاوناً مع المنظمات الدولية والمؤسسات الوطنية لتوثيق جرائم إسرائيل".

وتتطلب هذه الطريق، التقاء عوامل عدّة، كي يتحقق جبر الضرر، من بينها وعي الضحايا تجاه حقوقهم، قبل أن يتقدموا بدعاوى قانونية مدنية ضد مرتكبي الجرائم بحقهم.

جوانب من خسائر الغزيين المادية

علي (اسم مستعار) من مدينة غزة، كان عاملاً في الأراضي الإسرائيلية قبل بدء الحرب على قطاع غزة. يفيد رصيف22 بأن دخله الشهري كان يبلغ 9 آلاف شيكل (2,500 دولار). أفقدت الحرب علي عملَه ومصدر رزقه وبيته، فنزح مع أسرته المكونة من سبعة أفراد.

عاشت الأسرة في شقة في مدينة غزة، يقدّر علي تكلفتها بـ75 ألف دولار، وفيها أثاث ومحتويات تقدر بنحو 20 ألف دولار. أتى الدمار على الشقة بما فيها، وعلى حياة علي وأسرته، العملية والمعنوية.

"من حق الضحايا وذويهم أن يتقدموا بدعاوى قانونية مدنية ضد مرتكبي جرائم الحرب، من أجل الحصول على التعويضات اللازمة، في المحاكم الوطنية أو المحلية ذات الاختصاص العالمي... لكن هذا يتطلب دعماً دبلوماسياً وحملات شعبية، وتعاوناً مع المنظمات الدولية والمؤسسات الوطنية لتوثيق جرائم إسرائيل"

في المدى المنظور، لا يتوقع علي أن يعود للعمل داخل إسرائيل، ويعتمد خلال فترة الحرب على المساعدات والاقتراض. "ما أحصل عليه من المساعدات، أستخدم ما أحتاجه وأبيع الباقي حتى أحصل على المقود. هنالك محاولات من لجان حماية المساعدات للسيطرة على هذه الظاهرة، لكنها تنتشر بين الناس"، يؤكد علي.

"ويُحسب الضرر الاقتصادي، بحسب منهجية تأخذ بالحسبان الأرباح المستقبلية للضحية، والأرباح التاريخية، ومعدلات النمو والاستهلاك وتعديلات الضرائب ومخاطر البطالة"، بحسب تقرير استرداد الممتلكات والتعويض.

وهذا يعني أن علي خسر، بحساب بسيط لا يأخذ بالحسبان المدى المستقبلي الذي سيكون فيه عاطلاً عن العمل، بالإضافة إلى بيته ومقدّراته، راتب 16 شهراً في الأقل، أي ما يعادل 144 ألف شيكل (40 ألف دولار).

أما الضرر الاقتصادي المستقبلي، فيُعتمد حسابه على منهجية تمزج بين التجربة التاريخية للضحية، والتي يمكن التحقق منها بشكل موضوعي، وبين افتراضات حول الأحداث المستقبلية المحتملة. وفي حالة حرب الإبادة على غزة، فإن التقديرات الأممية تشير إلى أن اقتصاد القطاع يحتاج إلى عقود من إعادة التأهيل. وعليه، فإن احتاج المواطن علي إلى عقد أو أكثر حتى يتمكن من إيجاد وظيفة ما، فيمكنه حساب الضرر المستقبلي الذي تشكله هذه السنوات.

"كان يعمل لدى الجانب الإسرائيلي قبل السابع من تشرين الأول/أكتوبر، ما لا يقل عن 8000 عامل، بمتوسط دخل 7000 شيكل شهري (1900 دولار). ولكن أنهِي عمل هؤلاء قسراً، في حين تبلغ الأيدي العاملة المؤهلة للعمل في القطاع ما لا يقل عن 615 ألف عامل فقدوا مصدر رزقهم وقوت يومهم"، يقول الخبير الاقتصادي ثابت أبو الروس، في حديثه لرصيف22.

ويقودنا كلامه إلى حساب بسيط لخسائر العمال لدى الجانب الإسرائيلي فقط، التاريخية وليس المستقبلية، لمدة 16 شهراً منذ بدء حرب الإبادة، لتصل إلى أكثر من 243 مليون دولار.

جوانب من خسائر الغزيين غير المادية

أما أسامة (اسم مستعار) من جباليا، فكان يعمل قبل الحرب موظفاً، وقد تقاضى راتبه من السلطة الوطنية الفلسطينية في رام الله، وهو 4500 شيكل (1200 دولار). ظل يتقاضى راتباً، ولكن حسب نسبة الصرف للموظفين، والتي تعادل 60 حتى 70 بالمئة، بسبب الأزمة الاقتصادية التي تمر بها السلطة. فقد أسامة بيته في جباليا، ونزح هو وعائلته إلى منطقة مواصي خان يونس. ويفيد رصيف22 بأن بيته وقطعة الأرض التي بناه فوقها، بالإضافة إلى قطعة الأرض التابعة له، يقدّر بـ90 ألف دولار.

لكن بالنسبة لأسامة، ولنسبة عالية من الغزيين، فإن الخسائر الشخصية القابلة للتعويض لا تقتصر على الخسائر المادية، مثل فقدان الكسب والنفقات. ففي التعليق على المادة 36 من مشاريع المواد المتعلقة بمسؤولية الدول عن الأفعال غير المشروعة دولياً، فالخسائر غير المادية تشمل الألم الجسدي والعاطفي، والمعاناة والإزعاج والإعاقة الجسدية والألم النفسي والتشوه والخسارة من الاستمتاع بالحياة، وفقدان الأحبة.

هذا ما حصل مع رأفت (اسم مستعار)، فقد عمل موظفاً في حكومة حماس، وتقاضى راتباً غير منتظم، تراوح بين 200 حتى 550 دولار. دُمرت شقته في بيت حانون، والتي يقدّرها في حديثه لرصيف22، بخمسة آلاف دولار. لكن عدا عن هذه الخسائر المادية، فقد قتلت إسرائيل ثلاثة من أفراد أسرته.

يخبرنا طلال (اسم مستعار) من مدينة غزة أنه كان يملك شركة صناعية تحتوي على مستودعات كبيرة من المواد الغذائية. دمرت إسرائيل الشركة بالكامل، ليواجه طلال خسارة تقدر بنحو 10 مليون دولار. وخلال الحرب، فقد بيته أيضاً، والذي يقدّر بنحو مليون دولار، ثم تمكن من مغادرة القطاع إلى مصر برفقة عائلته.

وفي تجربة طلال، التي بالإمكان حساب خسائره المادية رياضياً، خسارات غير مادية في خسارته لبلده وتهجيره منها، وبالتالي في ألمه النفسي رفقة أسرته.

هل تتهرب إسرائيل من تحمل المسؤولية؟

"ترفض الحكومة الإسرائيلية دفع تعويضات للضحايا الفلسطينيين في ما يتعلق بالأضرار الجسدية والنفسية والمادية والاقتصادية التي يتعرضون لها بسبب الاحتلال. فهذه التعويضات ليست منة، بل هي واجب منصوص عليها وفق أحكام القانون الدولي. وإن تهرب إسرائيل من دفع تلك التعويضات هو انتهاك جسيم لحقوق سكان الأراضي المحتلة، لأنه ينتهك حقهم في تلقي المساعدة والعون في حال انتهاك حقوقهم الأساسية، وخاصة الحق في الحياة وحماية النفس وسلامة الجسد، وحق الملكية الخاصة". ذلك بحسب تقرير أعدته منظمة "بيتسيلم" الإسرائيلية، بعنوان "بلا حسيب أو رقيب: كيف تخلّت إسرائيل عن واجب دفع التعويضات للفلسطينيين عن أضرار ألحقتها بهم قوّات الأمن".

ويضيف التقرير أن "إسرائيل تدعي أن موضوع التعويضات يجب أن يُحلّ ضمن حل نهائي مع الفلسطينيين، أي في نطاق تسوية سياسية لحل النزاع وليس كتعويض فردي للأشخاص. إلا أنه ادعاء باطل، إذ من الممكن أن يكون وارداً لو كان هذا النزاع حرباً بين دولتين. لكن الواقع أن هذا احتلال مستمر للأراضي الفلسطينية وينتهك يومياً الحقوق الأساسية للمواطن الفلسطيني في الأراضي المحتلة. وعندما تصرح حكومة إسرائيل أن على المتضررين انتظار إنهاء الصراع، فإنها تقول بكل وضوح إن المتضررين لن يحصلوا على تعويضات إلى الأبد".

يقول نسيبة: "أقر الكنيست الإسرائيلي عام 2012، تعديلاً على قانون سن عام 1952، عرف بالتعديل رقم 8، يعفي الحكومة من التعويض وجبر الضرر للضحايا الفلسطينيين، بهدف التهرب من مسؤولية جبر الضرر من خلال المحاكم الإسرائيلية. جاء هذا بعد إجبار الحكومة من قبل المحكمة، عام 1979، بتعويض الفلسطينيين في بعض القضايا التي قدمت للمحكمة".

"لقد تبنى الكنيست الإسرائيلي التعديل الثامن الذي منح المحاكم الإسرائيلية حق رفض القضايا المدنية في مراحلها الأولية، دون الاستماع للشهود أو الأخذ بالأدلة إذا كانت المطالبة مقدمة لقاء خسائر نتجت عن "عملية عسكرية" للجيش الإسرائيلية"، يقول تقرير لمركز الميزان لحقوق الإنسان.

"وجاء القانون الذي يوقف المسؤولية والتعويض، مخالفة صريحة للقانون الدولي. إذ لا يمكن لدولة أن تعفي نفسها من المسؤولية. وكما سيتضح بعد عدة سنوات في قضية الإبادة الجماعية التي رفعتها جنوب أفريقيا ضد إسرائيل، فإن الأخيرة ستكون مجبره على جبر الضرر فيما يتعلق بالإبادة الجماعية التي ارتكبها في الأراضي الفلسطينية، وبالتحديد في قطاع غزة"، يضيف نسيبة.

ويؤكد أن "إسرائيل مسؤولة، بموجب القانون الدولي، عن تكلفة بناء غزة ومستشفياتها ومنازلها، سيما في كل الحالات التي لم تكن فيها ضرورة ملحة للهجوم أو أن الهجوم كان غير متناسب، كما تثبت المعلومات التي وثقت حتى هذه اللحظة. وأعتقد أن محكمة العدل الدولية سيكون لها قرار واضح بشأنه".

ويشير تقرير مركز الميزان إلى أنّه "لا يوجد سبل انتصاف داخلية تستحق الذكر بالنسبة لأصحاب المطالبات القانونية من سكان قطاع غزة أمام المحاكم الإسرائيلية، بسبب العراقيل التي تمخضت عن سلسلة من التعديلات التشريعية المصممة خصيصاً للوصول إلى هدف حرمان الفلسطينيين من أي شكل من أشكال الانتصاف، ما دامت مطالباتهم تتعلق بانتهاكات من طرف الجيش الإسرائيلي".

ويضيف التقرير أنه منذ انطلاق الانتفاضة الثانية عام 2000، عكف المشرّع الإسرائيلي، بالتنسيق مع الجيش، على وضع عراقيل أمام المطالبات المقدمة من الفلسطينيين في دعواهم التي تتهم إسرائيل بانتهاء القانون الدولي الإنساني".

يذكر أنه في عام 1983، أصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة القرار رقم 144/38، تدين فيه إسرائيل لاستغلالها الموارد الطبيعية للأراضي الفلسطينية المحتلة. وتطالب جميع الدول والمنظمات والشركات التجارية، عدم الاعتراف بأية تدابير تتخذها إسرائيل لاستغلال الموارد الوطنية للأراضي الفلسطينية. كما طالبت فيه الجمعية إسرائيل بتحمل مسؤوليتها عن تعويض السكان المحليين عن أية أضرار لحقت بهم. لكنها لم تخضع لهذا القرار حتى اللحظة.

تجربة اليهود مع ألمانيا

يعرفنا التاريخ القريب، بتجارب لشعوب وأقليات استطاعت، بمساعدة عوامل تاريخية وسياسية أن تحصل على تعويضات وجبر مستقبلي للضرر. وقد تكون تجربة اليهود مع المحرقة أبرزها. فخلال خطابه التاريخي في البرلمان (البوندستاج)، أعلن المستشار الألماني عن اعترافه بمسؤولية ألمانيا عن الكارثة التي حلت باليهود في أوروبا. كما أعلن عن بدء المفاوضات مع ممثلي الضحايا حول التعويضات. فوقعت اتفاقية لوكسمبورغ في 10 أيلول/سبتمبر من عام 1952 بين ألمانيا وممثلي الضحايا (23 حكومة إسرائيل بالإضافة إلى منظمة يهودية) حول تعويض ضحايا المحرقة وجرائم النازية.

واستغرقت تلك المفاوضات ستة أشهر حتى تم الوقيع على الاتفاقية، نظراً للتعقيدات المالية والقانونية التي واجهت الأطراف في جولات التفاوض. وبتوقيعها، اعترفت ألمانيا رسمياً بالمسؤولية الأخلاقية عن الجريمة التي تعرض لها اليهود في الحرب العالمية الثانية، وتعهدت بدفع التعويض المالي للضحايا، وتم تشكيل لجنة للمطالبات المالية، والتي استمرت بالعمل وعقد اجتماعات دورية لهذا الغرض.

وتولت جمع تعويضات ضحايا المحرقة، منظمة "مؤتمر المطالبات اليهودية المادية ضد ألمانيا"، التي أنشأت عام 1951 في ألمانيا. وقد ذكرت تلك المنظمة أن مجموع ما دفعته الحكومة الألمانية خلال 70 عاماً تجاوز 90 مليار دولار، حيث تم تخصيص مبالغ كبيرة للناجين، وتم توفير رواتب تقاعدية لهم.

مثلاً، نجت رايسة خوسيد، التي تبلغ من العمر 80 عاماً، وتعيش قرب شيكاغو، ونتيجة جهود هذه المنظمة، فقد أصبحت تحصل على معاش تقاعدي من الحكومة الألمانية كجزء من برنامج تعويض موسع للناجين من المحرقة. وأكدت المنظمة أن تلك التعويضات ربما تصل إلى 52 ألف دولار سنوياً لكل شخص منهم.

وفي 15 تموز/يوليو 2023، أعلن المؤتمر المعني بالمطالبات المالية من ألمانيا عن تعويض إضافي لضحايا النازية، أن الحكومة الألمانية سوف تستمر في دفع التعويضات حتى عام 2027، وسوف يستفيد من هذا القرار حوالي 128000 من الناجين على مستوى العالم، وسوف يحصلون على نحو 1.4 مليار دولار من التعويضات لبرامج الرعاية الاجتماعية والرعاية المنزلية.

يعرفنا التاريخ القريب، بتجارب لشعوب وأقليات استطاعت، بمساعدة عوامل تاريخية وسياسية أن تحصل على تعويضات وجبر مستقبلي للضرر. وقد تكون تجربة اليهود مع المحرقة أبرزها

حرب الإبادة أعادت غزة 70 عاماً إلى الوراء

"تواجه فلسطين كارثة اقتصادية واجتماعية وإنسانية وبيئية وصحية وتعليمية وغذائية، جراء حرب الإبادة الجماعية في قطاع غزة، أدت إلى انكماش القاعدة الإنتاجية وتشويه الهيكل الاقتصادي لفلسطين"، يقول الخبير الاقتصادي مؤيد عفانة لرصيف22.

ويردف: "مع نهاية العام 2024، تشير التقديرات إلى استمرار الانكماش الحاد غير المسبوق في الناتج المحلي الإجمالي في قطاع غزة، بنسبة تجاوزت 82%، رافقه ارتفاع معدل البطالة إلى 80%. فتراجع الاقتصاد الفلسطيني، في غزة والضفة الغربية، بنسبة 28%".

وخلال العام 2024، بحسب عفانة، تراجعت معظم الأنشطة الاقتصادية في فلسطين مقارنة بالعام السابق، وسجل نشاط الإنشاءات أعلى تراجع، بنسبة بلغت 46%، وبواقع 98% في قطاع غزة، لتبلغ قيمته 332 مليون دولار أمريكي، تلاه نشاط الصناعة، الذي تراجع بنسبة 90%، ليصل إلى 1,038 مليون دولار أمريكي. أما نشاط الزراعة، فتراجع بنسبة 91%، وبقيمة وصلت إلى 564 مليون دولار أمريكي. كما تراجع نشاط الخدمات بنسبة 81%، ليصل إلى 6,453 مليون دولار أمريكي.

وفي تقرير أصدره الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني لأهم المؤشرات الاقتصادية والاجتماعية للعام 2024، تبين انخفاض نسبة المشاركة في القوى العاملة في القطاع خلال العام 2024، لتصل إلى 36% في قطاع غزة، بعد أن وصلت نسبة 40% خلال العام 2023.

من جانب آخر، أشار تقرير لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي ولجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا (الإسكوا) بعنوان "حرب غزة: الآثار الاجتماعية والاقتصادية المتوقعة على دولة فلسطين- تحديث أكتوبر 2024"، إلى أن "خطة شاملة للتعافي وإعادة الإعمار، تجمع بين المساعدات الإنسانية والاستثمارات الاستراتيجية في التعافي وإعادة الإعمار، إلى جانب رفع القيود الاقتصادية وتعزيز الظروف المواتية لجهود التعافي، من شأنها أن تساعد في إعادة الاقتصاد الفلسطيني إلى المسار الصحيح ليستعيد توافقه مع خطط التنمية الفلسطينية بحلول عام 2034. لكن هذا السيناريو لا يمكن أن يتحقق إلا إذا كانت جهود التعافي غير مقيدة".

وأضاف التقرير إلى التوقع بانخفاض مؤشر التنمية البشرية لدولة فلسطين إلى 0.643، وهو المستوى المقدر لعام 2000، مما يؤخر التنمية بمقدار 24 عاماً. بينما يُتوقع أن ينخفض مؤشر التنمية البشرية لغزة إلى 0.408 وهو المستوى المقدر لعام 1955، مما يمحو أكثر من 69 عاماً من التقدم التنموي.

يؤكد د. أبو الروس على أنه "لم يسبق أن شنت إسرائيل مثل هذه الحرب المدمرة على فلسطين. فبالرغم من الأهداف السياسية المعلنة، إلا أن هناك أهدافاً اقتصادية مباشرة، تجسدت في التدمير الممنهج لقطاعات اقتصادية بشكل واضح؛ إذ قامت بتدمير البنية الاقتصادية التحتية لكي تقوم بتقطيع سلاسل الإمداد الاقتصادي بين المحافظات".

ويردف: "كما انتهجت إسرائيل نهج تدمير الأبراج السكنية، إذ دمرت بشكل كليّ ما لا يقل عن 150 ألف وحدة سكنية، بالإضافة إلى 200 ألف وحدة بشكل جزئي، ومن ثم تدمير الأراضي الزراعية والثروة الحيوانية، إضافة إلى قطاع الصيد والثروة السمكية، والذي يعمل به ما لا يقل عن 10000 عامل، ويعيل أكثر من 50 ألف مواطن، في محاولة إلى تجويع المواطنين وإحكام الخناق الغذائي عليهم".

ويؤكد أبو الروس أن ارتفاع غلاء المعيشة بلغ نسبة فاقت 238% بالمقارنة مع 3% في العام 2023.

كما أدى تدمير أبنية البنوك وتعطيل الصرافات الآلية، بحسب الخبير الاقتصادي، إلى تشديد الخناق على المنظومة المصرفية. فبلغ عدد الصرافات المعطلة نحو 93 صرافاً، ولم يعد سوى صرافَين صالحين للعمل. ذلك فضلاً عن منع عمليات التحويل إلى قطاع غزة.

"أما الخسائر الإجمالية التقديرية، وحسب التقارير الدولية، فتشير إلى أن حجم الأضرار المادية يصل إلى أكثر من 80 مليار دولار، بالإضافة إلى 700 مليون دولار لإزالة الأنقاض. أما المنشآت الصغيرة والمتوسطة التي تم تدميرها فقُدرت بحوالي 48 ألف منشأة ومشروع صغير ومتوسط وكبير"، يؤكد أبو الروس.

من الذي سيبادر باسم الضحايا؟

يشير تقرير أصدرته منظمة هيومن رايتس وتش إلى أن جميع الضحايا الفلسطينيين يستحقون التعويض، استناداً إلى القانون الدولي، والحكومات المسؤولة عن الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان ملزمة بوسائل تعويض وجبر ضرر فعالة للضحايا، والتي تشمل التعويض والعدالة والإنصاف، وضمان عدم تكرار الانتهاكات.

وقال التقرير إنه على الدول الأخرى التي دعمت إسرائيل، سواءً بشكل مباشر أو من خلال أحد الشركات الخاصة العاملة فيها، يجب أن تشارك في تقديم التعويضات للضحايا. ويتوجب على حكومة إسرائيل أن توفر الدعم المالي لإعادة إعمار قطاع غزة وإعادة بناء ما تم تدميره من قبل جيشها.

يتوجب على الدول التي قدمت الدعم العسكري لإسرائيل، رغم علمها بالانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان التي يرتكبها الجيش الإسرائيلي في قطاع غزة، المساهمة في تعويض الضحايا.

وصرح كلايف بالدوين، مستشار قانوني أول في "هيومن رايتس ووتش"، قائلاً: "على أطراف النزاع إصلاح الضرر الذي ألحقته بالضحايا في القتال المستمر. وينبغي للحكومات الداعمة لإسرائيل والفصائل الفلسطينية المسلحة استخدام نفوذها لوقف أي انتهاكات إضافية، وضمان تلقي الضحايا والناجين تعويضات مجدية".

وأضاف التقرير أنه يتوجب على الدول التي قدمت الدعم العسكري لإسرائيل، رغم علمها بالانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان التي يرتكبها الجيش الإسرائيلي في قطاع غزة، مثل ألمانيا وبريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية وإيطاليا، المساهمة في تعويض الضحايا. وعلى الدول المسجلة فيها شركات الأسلحة التي قدمت الدعم لإسرائيل، أن تساهم أيضاً في التعويضات. وقد تشمل التعويضاتُ تعويضاتٍ ماليةً واقتصادية، واعتذارات أخلاقية ومعنوية والاعتراف بتحمل المسؤولية، وإجراء تحقيقات مستقلة ومحاسبة المتورطين.

لكن أمام هذه الدول وأموالها وشركات الأسلحة الكبيرة التي تدير جزءاً كبيراً من اقتصاد العالم، على جهات قانونية وأهلية وسياسية فلسطينية ومناصرة للفلسطينيين، أن تبدأ العمل. عمل سيستمر، إن بدأ، سنيناً طويلةً، حتى يصل إلى مطالبة إسرائيل وشركائها في الإبادة، على نحو فعلي، بالاعتذار وتقديم التعويضات. وإن لم يحصل تحمل المسؤولية، فسيكون من بادر باسم الشعب الفلسطيني، قد قام بدوره التاريخي تجاه الضحايا. وربما سيجد الضحايا أنفسهم، وحيدين أمام هذه المعارك، إن أرادوا خوضها فرادى.

هذا التقرير أُنتج بدعم من منظمة Civil Rights Defenders.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

ما زلنا في عين العاصفة، والمعركة في أوجها

كيف تقاس العدالة في المجتمعات؟ أبقدرة الأفراد على التعبير عن أنفسهم/ نّ، وعيش حياتهم/ نّ بحريّةٍ مطلقة، والتماس السلامة والأمن من طيف الأذى والعقاب المجحف؟

للأسف، أوضاع حقوق الإنسان اليوم لا تزال متردّيةً في منطقتنا، إذ تُكرّس على مزاج من يعتلي سدّة الحكم. إلّا أنّ الأمر متروك لنا لإحداث فارق، ومراكمة وعينا لحقوقنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image