صحيح أنّنا نضع الخسارة البشريّة التي تسبّبت فيها حرب الإبادة التي تشنّها آلة الاحتلال الإسرائيليّة على قطاع غزّة، منذ السابع من تشرين الأوّل/ أكتوبر 2023، في واجهة الخسارات، بصفتها الخسارة التي لا تعوَّض، لكنّ الخسارة الماديّة الأخرى التي قد تُوضع في حساب ما لا يُعوَّض، هي خسارة الأرشيف الثقافيّ والإنسانيّ، الذي يشكّل أهميةً حيويةً للحفاظ على تاريخ الشعب الفلسطيني وقصته وتراثه.
ومع فقدان العديد من المحفوظات النادرة، أو عدم إمكانية الوصول إلى ما تبقّى منها، أو سرقتها، ستتحمّل الأجيال الحاليّة والقادمة، حملاً ثقيلاً يتمثّل في ردم الهوّة التي تقطع أهل غزّة عن ماضيهم وحاضرهم، وفي ملء الفراغ الذي سيسردون منه قصّتهم في المستقبل المنظور والبعيد.
كذلك، فإنّ خطر فقدان الأرشيف الذي يوثّق أحداث الإبادة، إذا لم تتحمّل جهة أو جهات مسؤوليّة أرشفته، يعني فقدان الشهادات الحيويّة التي تعبّر عن المعاناة، ما يجعل من الصعب على الأفراد نقل تجربتهم وفهم الحقيقة التي عاشوها. وعليه، سيضع الأجيال القادمة أمام تحدٍّ كبير في قراءة تاريخهم الحديث، والبناء عليه.
الأرشيف الفلسطينيّ المُستهدف تاريخياً
لقد حوّلت الحرب الإسرائيليّة قطاع غزّة إلى خراب كبير. أتت آلاتها على المنازل والمستشفيات والمدارس، ونسفت الجامعات ومكتباتها، ودمّرت ما يزيد على مئتي معلم تاريخي وأثري، و7 متاحف، بالإضافة إلى المساجد، كالمسجد العمري ومكتبته التاريخيّة، والمسارح والمراكز الثقافية ومباني الأرشيف المركزيّ التابعة لبلديّة غزّة.
"دمّرت الحرب الأرشيف المركزيّ بكامله، والذي يضمّ آلاف الوثائق التي يعود تاريخها إلى 200 عام، كما يضمّ سجلات كاملةً للمعاملات الخاصّة بأبناء المدينة كافة"، يقول المؤرّخ الفلسطينيّ حسام أبو النّصر.

ويضيف في حديثه إلى رصيف22: "نحن نتحدث عن تدمير 80 في المئة من أرشيف قطاع غزّة والوثائق الخاصّة به، وأكثر من 90 مكتبةً. وهذه تُعدّ أكبر جريمة إبادة ثقافيّة في التاريخ، تفوق إبادة التتار مكتبات بغداد".
ويلفت إلى أنّ حرب الإبادة استهدفت، أيضاً، أرشيف ملفّات الأراضي ووثائقها الخاصّة بكامله، وسجلّات المحاكم والمحاكم الشرعيّة.
"لكنّه ليس العدوان الأوّل على أرشيف غزّة. فمنذ اجتياح القطاع عام 2008، شهدنا هجمات عسكريّةً مختلفةً طالت مراكز ثقافيّةً ومباني ومكتبات تحتوي على وثائق مهمّة"، يقول أبو النّصر، ويضيف: "وفي عام 2014، على سبيل المثال لا الحصر، استُهدفت مكتبة العبّاس، وكانت تضمّ أهمّ المخطوطات التي تتعلّق بتاريخ فلسطين. عمر أقدم مخطوطة فيها 800 عام. دُمّر ما دُمّر منها، وأُنقذ ما تمّ إنقاذه عبر نقل المخطوطات إلى دار قبّة السعادة في الشجاعيّة. ثمّ استُهدفت المكان الجديد بما يحوي من مخطوطات ناجية، خلال حرب الإبادة الحاليّة".
ويشير أبو النّصر، إلى أنّ مجموعةً من الشباب الفلسطينيّ في غزّة، أعلنوا عن محاولتهم إنقاذ نحو 200 مخطوطة من الجامع العمريّ الكبير، موجودة في دائرة المخطوطات والآثار (قبّة السعادة)، ونحو 8،000 كتاب من الكتب الحجريّة الموجودة في مخازن عسقولة في غزّة.
لا تزال هناك وثائق مبعثرة في أرشيفات وطنيّة حول العالم. وعلى الفلسطينيّين الضّغط من أجل الحصول على تمويل لتوظيف مؤرّخين يعملون لسنوات طويلة في المستقبل، ويصلون إلى هذه الأرشيفات
وقد عانى الفلسطينيّون طويلاً من سياسات المحو التي انتهجتها إسرائيل منذ احتلال فلسطين عام 1948. في تلك الفترة، سرقت العصابات الصهيونيّة نحو 30 ألف كتاب من أهل القدس وحدهم، ونجدها اليوم في المكتبة الوطنيّة الإسرائيليّة. كما نهبت 38،000 فيلم و2.7 ملايين صورة، و96،000 تسجيل، و46،000 خريطة من الأرشيف الفلسطيني، حُفظت في "المكتبة الوطنية الإسرائيلية"، تحت مسمّى "ممتلكات متروكة".
شمل التدمير أيضاً، المكتبة الخاصة للمربّي خليل السكاكيني. ثمّ لاحقاً، طال محتويات "مركز الأبحاث الفلسطينية"، الذي أُسّس عام 1965، واحتوى على مخطوطات نادرة.
هذا الفقدان ليس مجرد أرقام؛ بل هو محو لذكريات وصور وأرواح وأحداث شكلت حياة الناس، من الصعب استرجاعها بدقّة.
ولعلّ هذا التطهير الفكري، القائم على محو الفكرة والعلاقة مع الماضي، يترك وراءه شعباً فاقداً الوثائق التي تحمي حقّه في أن يكون موجوداً، وحقّه في السرد والعمل التأريخيين. وعليه، تتضاءل قدرته على مواجهة ماكينة تعتمد في سرديّتها على أرشيفات غير نزيهة و منحازة، يحكمها الإنكار والإقصاء.
وفي حين يمسّ هذا المحو حياة الناس اليوميّة وذاكرتهم الشخصيّة، قد تفقد الأجيال الجديدة لمحات من هذه الحياة وهذه الذاكرة، إن لم يستعجل أحدٌ في استعادة ما يُمكن استعادته بعد حرب الإبادة. "لا شكّ في أنّ الهدف من استهداف هذا الأرشيف، هو محاولة محو الذاكرة الفلسطينية وإحداث قطع في تسلسل الأحداث والعلاقة مع الماضي والحقب التاريخيّة التي مرّت على القطاع. هذا القطع سيؤثّر سلباً على الأجيال القادمة"، يقول أبو النصر.

إنقاذ ما تبقّى
يقول البروفيسور عيسى بلومي، المؤرّخ المتخصّص في تاريخ الشرق الأوسط وأستاذ الدراسات التركيّة والشرق أوسطيّة في جامعة ستوكهولم: "صحيح أنّ إسرائيل قامت بتدمير الكثير من الوثائق خلال هذه الحرب. لكن للأسف، لا تزال هناك وثائق مبعثرة في أرشيفات وطنيّة حول العالم. وهنا يجب أن يتحمّل الفلسطينيّون الأغنياء المسؤولية. على أولئك الذي جمعوا ثروات كبيرةً في أمريكا الشماليّة وأمريكا الجنوبيّة وفي الشتات ودول الخليج، وداخل فلسطين أيضاً، أن يقوموا بتخصيص الأموال، كنوع من المسؤولية المدنيّة، لتجميع الموارد البشرية، ليس من أجل الحفاظ على الوثائق في صناديق في مبنى لا يمكن أن يتعرض للتدمير بسهولة فحسب، بل من أجل تسجيل نسخ متعدّدة من تلك الوثائق ثم توزيعها".
ويضيف بلومي، في حديثه إلى رصيف22: "لم يفكّر المؤرّخون السّابقون في هذا الأمر. لكن على هذه العقلية الآن أن تتغيّر تجاه ما هو موجود، من خلال الرقمنة التي تنتهجها الكثير من الدول. كما على الفلسطينيّين الضّغط من أجل الحصول على تمويل لتوظيف مؤرّخين يعملون لسنوات طويلة في المستقبل، ويصلون إلى الأرشيفات الوطنيّة حول العالم، سواء في تركيا أو فرنسا أو البوسنة أو ألبانيا أو الولايات المتّحدة وغيرها، التي تحمل تاريخ فلسطين الممتدّ ثلاثة آلاف سنة، ثمّ رقمنة الأرشيف وإعادة إنتاجه بأشكال ماديّة".
ويشير المؤرّخ إلى أنّ الشعوب التي تقوم بحفظ تاريخها، سيكون لأجيالها القادمة ما تفكّر فيه، وما تسهم به في كتابة التاريخ بطريقة مختلفة.

الأرشيف ومحاسبة مرتكبي الإبادة
هذا المحو تعدّى كونه محواً للأرشيف الجماعيّ والمؤسساتيّ. فخلال حرب الإبادة على القطاع، دُمّرت أرشيفات شخصيّة وإنسانيّة وعائليّة، على نحو غير مسبوق. هرب الناس من النّار دون أن يفكّروا إلا في نجاة أجسادهم، وكلّ ما تركوه في بيوتهم من ممتلكات وملفّات وألبومات ووثائق، تحوّلت إلى رمادٍ أو فُتات تحت الحطام.
لكنّ الأرشيف الذي كوّنه الفلسطينيّون في غزّة بعد هذا الخروج، هو أرشيف بصريّ ومكتوب يوثّق التجارب الجماعيّة والشّخصيّة. فقد شاهد العالم فيديوهات وصوراً لا حصر لها، تُسجّل لحظاتٍ من الإبادة، والحياة اليومية القاسية، وصعوبات النزوح، ومعاناة النساء الحوامل، ووحدة الأطفال في المستشفيات، ورحلة البحث عن الماء أو الدقيق.
بيد أنّ هذه اللحظات، التي ربّما تمثّل شكلاً جديداً من الأرشفة، لا تزال متناثرةً على منصّات التواصل الاجتماعيّ، وفي هواتف الأفراد الذين وثّقوها، ما يجعل جمع هذه المواد بشكل منظّم وممنهج، تحدّياً كبيراً. لكن إن حصل ذلك، سيكون له الدور المفتاحيّ في مشاريع ذات رؤى تحليليّة عميقة لسرديّة الإبادة وعواقبها الاجتماعيّة والإنسانيّة وتأثيرها على الوعي والهويّة والذاكرة، تسهم في إعادة بناء المجتمع في أعقاب الكارثة.
لدينا القدرة، بتكلفة بسيطة، على تصوير كلّ شيء. ينبغي علينا أن نصوّر الدمار الحاصل في غزّة والضفّة، وما تبقّى من تذكارات أجدادنا. علينا الحفاظ على ما نسمّيه 'قمامتنا'؛ على الأشياء الصّغيرة التي نميل غالباً إلى رميها
في هذه الهواتف، ثمّة في الغالب مواد توثيقيّة عشوائيّة وغير منظمة. وأحياناً، كانت تتحوّل، مصادفةً، الصورة أو الفيديو الذي يسجّله أحد ما عن لحظة تخصّه، إلى مستند قانونيّ أو جنائيّ حاسم في الجرائم المُرتكَبة في قطاع غزّة، أو إلى لحظة تاريخيّة تدلّل على الأبعاد الإنسانيّة الأشمل والأكثر عُمقاً من الأخبار العاجلة.
برزت مؤسسة هند رجب، التي تم تأسيسها في أيلول/ سبتمبر 2024، ومقرّها بروكسيل، كإحدى المؤسسات التي تعاطت مع الأرشيفات الشخصيّة والتسجيلات والفيديوهات والصّور كأدّلة دامغة على ارتكاب هذه الجرائم.
انتهجت المؤسّسة طريق المساءلة والملاحقة للجنود الإسرائيليين في دول عدّة في العالم، وكانت الشكوى الأخيرة التي قُدّمت في المحكمة الجنائيّة الدوليّة ضد وزير الخارجية الإسرائيليّ جدعون ساعر في شباط/ فبراير الجاري.
وفي مقابلة أجرتها مجلّة "The Cradle"، مع مدير مؤسسة هند رجب، دياب أبو جهجاه، قال: "نحن لا نرى الفيديو كفيديو عادي. بالنسبة لنا، هو يمثّل جريمةً. نسأل: ماذا حدث هناك؟ ما الجرائم التي ارتُكبت؟ ثم يتعيّن علينا دائماً تحديد الموقع. أين حدث ذلك؟ إذا كان قد حدث في منزل، فأين يقع هذا المنزل؟ من هو المالك؟ ما هو السياق الزمني؟ أيّ الوحدات أو الألوية أو الكتائب الإسرائيلية التي كانت تعمل هناك؟ نسأل أيضاً عن الضحية والجيران؟ فإذا ارتُكبت الجريمة بحقّ الضحيّة، فمن المرجّح أنّها ارتُكبت بحقّ الجيران في المنزل المجاور".
وعلى الرّغم من توافر جميع هذه المواد كوثائق في قضيّة المساءلة، إلّا أنّ جمع الأرشيف وصونه يواجهان تحدّياتٍ عدّة. فهناك خطر فقدان الأرشيف الإلكتروني، إما من خلال الرقابة التي تمارسها منصّات التواصل على المحتوى الفلسطيني، والتي شهدت تصعيداً ملحوظاً منذ بدء الإبادة، أو من خلال ضياع مصادرها الفرديّة من أرشيفات النّاس في حال لم تُوثَّق من قبل مؤسّسات أو جهات معنيّة.
بالإضافة إلى الأساليب التي تتبنّاها مؤسسة هند رجب، في التوثيق والمساءلة، يمكن تتبّع جهات أخرى بحثيّة وقانونيّة وثقافيّة عملت على أرشفة أو توثيق الانتهاكات بشكل منظّم، منها مؤسسة الدراسات الفلسطينية التي قدّمت مجموعةً من الموارد التي تتعلق بتوثيق الإبادة في غزّة، وتشمل منصات مثل توثيق استهداف الثقافة في قطاع غزة، التي تجمع بيانات حول الأضرار التي لحقت بالمؤسسات الثقافية منذ السابع من تشرين الأوّل/ أكتوبر 2023.
هناك أيضاً منصة "توثيق استهداف وتدمير التعليم"، التي تسجّل معلومات دقيقةً عن المنشآت التعليمية، وكيف تم استهدافها خلال الإبادة، بالإضافة إلى مشروع "توثيق استهداف وتدمير القطاع الصحيّ"، الذي يوثق الأضرار التي طالت المرافق الصحيّة، والجهود الإنسانية المبذولة لدعم الطواقم الطبية. أمّا منصة "توثيق واقع الأسرى منذ السابع من أكتوبر"، فتقدّم معلومات دقيقةً ومفصّلةً حول واقع الأسرى والأسيرات الفلسطينيّات، بما في ذلك تفاصيل متعلقةً بالعنف والتعذيب الممنهج داخل السجون والأحوال الصحيّة للأسرى.
ما الأرشيف بالنسبة للغزّيين؟
"أرشيفي احتوى على أشياء كثيرة. لكن بكلّ بساطة، غداً حين أقول لابني إنّ أول كتاب اشتريته في حياتي في غزّة كان كتاب 'الرحيق المختوم'، سيردّ طفلي قائلاً: أين الكتاب؟"، يقول باهر، وهو طبيب فلسطينيّ من غزّة.
ويضيف في حديثه إلى رصيف22: "لقد أسّس هذا الغياب لأرشيفنا الشخصيّ، حالة قطعٍ مع المكان والذاكرة وحتى الهوية. فما هو الأرشيف؟ هو أشياء محسوسة نعود إليها؛ شكل الطريق للبيت، رائحة الفِراش وطعام بيوت الجيران، رائحة الشابورة (حيّ قديم في رفح)، أشياء جمعناها من هنا وهناك… كلّها أشياء اختفت".
ويواصل: "لقد قام أخي بتصوير شقّته التي تحوّلت إلى ركام قبل أن يخرج منها، والآن يخاف من تشغيل الفيديو، لأنّ مواجهته مع غياب البيت صارت فكرةًً مرعبةً. يصبح الأرشيف الشخصيّ الذي حاولنا توثيقه في هذه المرحلة، رحلة ألم".
"ومع هذا الغياب، قد تصبح الأرشفة الآن بالنسبة لي، حديثاً مع الأصدقاء الذين عاشوا الإبادة، نتذكر خلاله الأماكن ونعيش الجرح معاً. حالة التذكر هي الأرشفة. لم يعد الأرشيف شيئاً حيّاً ومحسوساً بالنسبة لي، لقد أصبح في عداد التذكارات التي أحاول الحفاظ عليها"، يضيف باهر.
فيديو وثّقه شقيق باهر يبيّن حجم الدمار في منزله
أمّا كريم أبو ضاحي، وهو محامٍ من غزّة، فيقول لرصيف22: "في لحظات الإبادة والقصف، فكّرت في الأشياء التي تستحقّ أن أنقذها معي. كنت أنظر إليها وأشعر بأنّ قيمتها تتضاعف ألف مرة. لم يعد البرواز على الحائط مجرّد برواز؛ لقد تجاوز بُعده الماديّ ليصبح قطعةً من روحي".
وعن السّؤال حول توثيقه رحلة النزوح، قال: "لم يكن لديّ وقت للتوثيق. حملت معي من بيتي أوراقاً مهمّةً وغادرت برفقة أطفالي، لكنّي احتفظت بمفتاح البيت".
يعيد لنا مفتاح البيت الذي ذكره كريم، قصّة الأجداد الذين هُجّروا قسراً من منازلهم عام النكبة، واحتفظ معظمهم بمفاتيح بيوتهم التي اعتقدوا أنّهم سيعودون إليها، ليصبح المفتاح، لدى الطّرد النهائيّ والشامل، رمزاً ثقافياً وأرشيفياً له خصوصيته في السرديّة الفلسطينية.
ربّما بعد عشرين عاماً حين أقول لابني: هنا كان مخيّم جباليا، لن يصدّقني، أو لن يستطيع أن يتصوّر كيف كان المخيم. فبحسب المخطّط الجديد، قد تُبنى مدينة فوق ركام المخيّم
عزيز المصريّ، باحث من غزّة، نزح خلال الإبادة سبع مرّات، ونجا 11 مرّةً من الموت المحقّق. "أرى أنّ حياة الفلسطينيين قائمة على التّوثيق والأرشفة؛ من مفتاح العودة حتّى مفاتيح بيوتنا التي دُمّرت اليوم في غزّة"، يقول لرصيف22.
ويردف: "الصّورة الشخصية التي التُقطت قبل خمسين عاماً، أو حتّى عامين في جباليا، وثيقة تاريخية. فالصور الحديثة والصور الموجودة لدى كلّ عائلة فلسطينية، تساهم في بناء الموروث الثقافيّ والهويّة على مدى أجيال قادمة. بعد سنوات طويلة، ستصبح هذه دلائل ماديةً تدلّل على الوجود وتبعاته".
الحفاظ على "قمامتنا"
من خلال هذه الفيديوهات والصّور، تمكّن الكثير من الناس حول العالم من رؤية واقع المأساة في غزّة، والتفاعل مع القصص الشخصيّة التي تدلّل على حجم المعاناة. كذلك، أصبحت هذه الأشرطة المرئيّة والشهادات الحيّة وتسجيلات الصوت، أدوات مهمةً لنقل الحقائق ومرجعاً لتحقيق العدالة، فقد استندت منظّمات دوليّة إليها في تقاريرها، وكذلك دعوى جنوب إفريقيا أمام محكمة العدل الدوليّة في قضيّة الإبادة الجماعيّة ومحاسبة مرتكبيها.
يقول المؤرّخ عيسى بلومي: "للأسف، أخذنا، في فلسطين كما في العديد من أنحاء العالم، لحظتنا الحيّة كأمر مسلّم به. نتخلّص من العديد من الأشياء التي تساعدنا في سرد قصتنا وشرحها". ويضيف: "الآن، لدينا القدرة، بتكلفة بسيطة، على تصوير كلّ شيء في العالم الرقميّ. ينبغي علينا أن نولي الأمر أهميّةً ونصوّر الدمار الحاصل في غزّة والضفّة، وما تبقّى من تذكارات أجدادنا. علينا الحفاظ على ما نسمّيه 'قمامتنا'؛ على الأشياء الصّغيرة التي نميل غالباً إلى رميها".
يرى بلومي، أننا نحتاج إلى توثيق وحفظ تجاربنا الشّخصيّة وقلقنا وصدماتنا، وقصصنا الشفويّة والقصص الشفوية. "علينا أن نفكّر كيف سنحتفظ بهذه القصص ونسجّلها ونحمّلها في قاعدة بيانات، بحيث تُتيح للمتخصّصين الفلسطينيين العثور عليها وصونها من الوحوش الذين يحاولون تدمير كلّ شيء والاستيلاء على ذاكرتنا"، يضيف بلومي.
ويتابع: "من المهم جداً بدء حملة لتعليم الجميع أن يكونوا أرشيفيّين، وأن يحفظوا اللحظة للأجيال القادمة. إن لم نفعل ذلك، لن يتوقّف أعداؤنا إلا حين يدمّروننا تماماً".

التاريخ الشفويّ يعوّض عن الفقدان
التاريخ الشفوي، كما يراه المؤرّخ إيلان بابيه، هو أداة مهّمة من أدوات التأريخ، ومن أدوات التحقّق من صحّة الأدلة الوثائقيّة. مهمّته الأساسيّة تأتي لملء الثّغرات التي تكوّن الصورة الشموليّة للأحداث التاريخيّة، إلى جانب التأريخ المكتوب.
يتفق مع ذلك المؤرّخ حسام أبو النصر، إذ يشير إلى أنّ التاريخ الشفويّ استُخدم كعلم لرصد توجهات وأحداث من الحياة الاجتماعية في فترات الحروب. وتمّ إسقاط هذا العلم على فترة ما بعد عام النكبة 1948، والنكسة 1967، حيث فقدنا، نحن الفلسطينيين، الكثير من الوثائق، فلجأنا إلى المقابلات الشخصيّة مع من تبقّوا أحياء وعاصروا تلك الحقبة"، يقول.
ويردف: "لكن فعلياً، لا يمكن إخضاع التاريخ الشفويّ للتأريخ دون الدلائل الماديّة لمنهجيّة علميّة. فالدلائل مطلوبة مثل الآثار والمخطوطات والوثائق والميكروفيلم والصور وغيرها من المواد الأرشيفيّة".
وعن تجربته في أرشفة التّاريخ الشفويّ في غزّة، يقول عزيز المصري: "حين عملنا على مشروع التّاريخ الشفوي عام 2008، أجرينا مقابلات مع كبار في السنّ عاصروا النكبة. واعتمدنا في التوثيق على الصور الشّخصية والوثائق، كشهادات الميلاد، وعقود بيع وشراء البيوت والأراضي. واستطعنا بواسطتها أن نضع تصوراً للحياة في قرية المجدل أو حمامة أو يافا أو برقة أو عاقر المهجّرة".
ما هو الأرشيف؟ هو أشياء محسوسة نعود إليها؛ شكل الطريق للبيت، رائحة الفِراش وطعام بيوت الجيران، رائحة الشابورة (حيّ قديم في رفح)، أشياء جمعناها من هنا وهناك… كلّها أشياء اختفت
ويضيف: "اليوم مُحيت المخيمات. ليس هناك جباليا ولا مخيّمات رفح. ومع مخطّطات الإعمار، سيتم هدم ما تبقّى منها. وعليه، لم يعد لدينا شيء يدلّل على هذا الوجود سوى الصور والفيديوهات والوثائق. ربّما بعد عشرين عاماً حين أقول لابني: هنا كان مخيّم جباليا، لن يصدّقني، أو لن يستطيع أن يتصوّر كيف كان المخيم. فبحسب المخطّط الجديد، قد تُبنى مدينة فوق ركام المخيّم. وعليه، سيحتاج الجيل القادم إلى الأرشيف حتّى يدرس هذه الحقبة ويعرفها".
ولعلّ الاعتماد الأكبر، خلال توثيق الإبادة، من قبل المؤسّسات الحقوقيّة والإعلاميّة والصحافيين، كان على القصة الشفويّة والشهادات الحيّة، إذ أضافت بُعداً معمّقاً إلى التجربة الاجتماعيّة والإنسانيّة التي دفعت ثمن الإبادة.
وهنا نرى أنّ التوثيقين الشفويّ والرقميّ، اللذين تجلّيا في زمن الإبادة، يمنحاننا شكلاً من أشكال التعويض عن فقدان الأرشيف الماديّ الكبير في قطاع غزّة. فمن لا يمتلك وثيقةً لملكيّة البيت، يمتلك صورةً أو فيديو له.
… والآداب والفنون أيضاً
وفي الحديث عن أدوات التوثيق، لا يمكن تجاهل الأدب والموسيقى والفنون، فاللوحة التي شُكّلت خلال الإبادة، ستكون في المستقبل مادةً توثيقيّةً تعتمد عليها الأجيال القادمة.
خلال عام ونصف العام، كُتبت في غزّة نصوص تدوينيّة ويوميّة، قرأها العالم وتُرجمت إلى لغات عدّة، وقُرئت في منصّات مناصرة للقضيّة الفلسطينيّة ومناهضة للإبادة، بالإضافة إلى المعارض الفنيّة والعروض الموسيقيّة التي قدّمها الفلسطينيّون، وقدّموا معها الروايتين الشخصيّة والجمعيّة.
في بروكسيل، كان إسماعيل مطر، الفنان والرّسام فلسطيني، يرسم ردّ فعله تجاه الإبادة التي يعيش بعيداً عنها جغرافيّاً. وفي وصفه للوحاته، يقول لرصيف22: "اللوحة هي انعكاس للّحظات والصّدمات التي أعيشها". ويرى مطر، في ظلّ المعاناة التي يعيشها أهله، أنّ اللوحة هي حالة تأمّل في التفاصيل، ووسيلة لنقل الحقيقة المتأثّرة بشكل مباشر من الأحداث في غزّة".

وفي تعليقه عن علاقة فنّه بتوثيق الإبادة، يقول الفنّان حمادة القبط، من غزّة، لرصيف22: "ما أرسمه يشبه حالة النزوح إلى حدّ كبير. هذه اللطخات والبُقع والألوان في لوحاتي، جاءت من مستنقع الآلام والعجز والقهر. ولا شكّ أنّ الفنّ أداة سيتعاطى معها المستقبل القريب والبعيد".

تُبيّن تجربة الأرشيف الفلسطينيّ أنّ الدمار الذي لحق بالذاكرة الثقافية، ليست مجرّد محاولة لتعويض فقدان الأشياء المادّيّة، بل محاولة لكتابة تاريخ جديد يضع تجربة الشّعب في المركز.
ووسط حجم كارثة كهذه، على النّفس والحجر والتاريخ واللحظة، يتجلّى دور الأفراد في الحفاظ على قصصهم، من خلال توثيق اللّحظات التي تبدو شديدة العاديّة، لكنّها تُشكّل صلب هويتهم، وفي الاستفادة من التكنولوجيا، التي باتت مسألةً ضروريةً ليظلّ صوت الفلسطينيين مسموعاً في عالم يسعى في أحيان كثيرة إلى تجاهلهم.
الآن، أكثر من أيّ وقت مضى، يحتاج الفلسطينيّون إلى توحيد جهودهم من أجل حفظ أرشيفهم في وجه النسيان والمحو. فكلّ الخطوات التي تؤخذ اليوم، ستُحدّد شكل الغد والقصّة التي ستُروى فيه، أمام التاريخ وإحقاق حقوق الأجيال القادمة بالمعرفة والعدالة.
هذا التقرير أُنتج بدعم من منظمة Civil Rights Defenders.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Apple User -
منذ يوماتمنى الرد يا استاذ ?
Apple User -
منذ يومهل هناك مواقف كهذه لعلي بن ابي طالب ؟
Assad Abdo -
منذ 4 أيامشخصية جدلية
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 5 أيامأن تسخر التكنولوجيا من أجل الإنسان وأن نحمل اللغة العربية معنا في سفرنا نحو المستقبل هدفان...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 5 أياملم تسميها "أعمالا عدائية" وهي كانت حربا؟
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعnews/2025/03/12/nx-s1-5323229/hpv-vaccine-cancer-rfk في هذا المقال بتاريخ لاحق يشدد الأطباء على...