يتكشّف، يوماً بعد يوم، حجم الدمار المهول الذي خلّفته حرب الإبادة الإسرائيلية على قطاع غزة، منذ يوم السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023. دمار غير مسبوق في التاريخ الحديث، بحسب تقارير أممية، وغير مسبوق، بطبيعة الحال، في التاريخ الفلسطيني وتجربة الفلسطينيين مع الحروب والدمار، على مدار أكثر من سبعة عقود.
لم يسبق للفلسطينيين أن اختبروا معنى أن تُنسف مدنهم كاملةً، كما حصل في غزة، فقد محا التدمير المنهجي 69 عاماً من التقدم التنموي في القطاع، بحسب تقرير لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي، وهو ما يتفق مع جملة وزير الأمن الإسرائيلي الأسبق، التي دقّ فيها طبول الحرب حين قال: "سنُعيد غزة إلى العصر الحجري".
دمّر الجيش الإسرائيلي، في حربه المسعورة، الغالبية العظمى من مرافق البنية التحتية والمؤسسات والجامعات والمدارس والمستشفيات والمنازل والطرق ومحطات الكهرباء والمياه والخدمات المدنية، فقُدّرت الخسائر المباشرة فقط بأكثر من 50 مليار دولار.
ولا شكّ بأنه هذا التدمير خدم الأهداف المعلنة للحرب من الجانب الإسرائيلي، وجعل قطاع غزة غير صالح للحياة، وبالتالي تهجير الفلسطينيين قسراً أو طوعاً، كما يخدم الرؤية الأمريكية بإدارتها الجديدة، والتي عبّر عنها ترامب مؤخراً، حين دعا إلى تهجير الغزيين وتحويل غزة إلى "ريفييرا" الشرق الأوسط.
صورة تُظهر حجم الدمار في قطاع غزة
ركام أكبر بـ11 مرة من الهرم الأكبر
بحسب تقارير الأمم المتحدة، فإن أكثر من 120 ألف مبنى تضرّر في قطاع غزة بشكل كلي أو جزئي، بما في ذلك المنازل، المستشفيات والبنية التحتية، يشمل ذلك أكثر من 215 ألف وحدة سكنية، وتقدّر نسبة المباني المتضرّرة أو المدمرة حوالي 70% من إجمالي مباني القطاع.
وقد أورد المكتب الإعلامي الحكومي في غزة أرقاماً مشابهة للتي أوردتها التقارير الأممية، لكنها أكثر إيضاحاً، حيث قال إن إسرائيل دمّرت 216 مقراً حكومياً، و137 جامعة ومدرسة بشكل كامل، و357 بشكل جزئي، وأن 823 مسجداً قد دمّر بشكل كلي، بينما دُمر 158 مسجداً بشكل بليغ، و3 كنائس بشكل جزئي، كما أُخرجت 34 مستشفى، على مستوى قطاع غزة، من الخدمة ودمّرها كلياً وجزئياً، وأنها استهدفت أكثر من 160 منشأة ومؤسسة صحية، ودمرت 170 ألف وحدة سكنية، وجعلت 82 ألف وحدة سكنية غير صالحة للسكن، كذلك، دمر الجيش 206 مواقع أثرية وتاريخية، لتصل نسبة الدمار في قطاع غزة حوالي 88%.
وقد أوردت وكالة "بلومبيرغ" تقديراً للخسائر التي لحقت بالمباني والبنى التحتية، لمدة ثلاثة أشهر فقط؛ منذ تشرين الأول/ أكتوبر 2023 وحتى كانون الثاني/ يناير 2024، فتبين أن خسائر المباني السكنية وصلت إلى 13.3 مليار دولار، مقارنةً بالخسائر التي مُنيت بها هذه المباني في حرب عام 2014، والتي قُدرت بـ 780 مليون دولار.
ويبيّن الإنفوغراف الخسائر التي لحقت بقطاعات أخرى، كالصحة والطاقة والتعليم والمواصلات والمياه.
حجم خسائر القطاع السكني والصحي والتعليمي وقطاعي المياه والطاقة منذ بدء الحرب وحتى شهر كانون الثاني/ يناير 2024، مقارنة بحجم الخسائر لنفس القطاعات في حرب عام 2014 (المصدر: وكالة بلومبيرغ)
خلّف هذا الدمار ركاماً، قدّرت الأمم المتحدة أنه يبلغ أكثر من 42 مليون طن، بما في ذلك الصروح المحطمة التي لا تزال قائمة والمباني المدمّرة، وأن هذا هو 14 ضعف كمية الأنقاض المتراكمة في غزة بين عام 2008 وبدء الحرب الأخيرة، وأكثر من خمسة أضعاف الكمية التي خلفتها معركة الموصل في العراق، بين 2016 و2017، فوصفت الأمم المتحدة كمية الركام في غزة بأنها أكبر بـ11 مرة من الهرم الأكبر في الجيزة في مصر.
ولعلّ الدمار الذي حلّ في شمال قطاع غزة هو الأكبر، بحسب الأمم المتحدة، حيث تعرّضت مدينة غزة، التي كانت في السابق أكبر مركز حضري في الأراضي الفلسطينية، لأضرار جسيمة، ما يمثل أكثر من نصف أنقاض قطاع غزة.
هل ستخلق إزالة الركام موجة نزوح أخرى؟
"يكفي الـ42 مليون طن من الحطام، لملء خط من الشاحنات القلابة الممتدة من نيويورك إلى سنغافورة"، وفق تقارير الأمم المتحدة، وقد تستغرق إزالتها سنوات طويلة، وقد تصل تكلفة ذلك إلى مليار دولار. ولن تكون عملية إزالة الأنقاض سهلة بسبب القنابل غير المنفجرة والملوثات الخطيرة والرفات البشرية تحت الأنقاض، حيث تقدّر وزارة الصحة الفلسطينية أن هناك أكثر من 10 آلاف مفقود تحت الأنقاض في قطاع غزة لم يتم انتشالهم.
ستكون تكلفة إعادة البناء باهظة. ويجب أن تكون مواقع البناء بهذا الحجم خالية من الناس، ما قد يخلق موجة أخرى من النزوح. بغض النظر عما سيتم فعله، فإن غزة ستعاني لأجيال عديدة من هذا الأمر
وعلى الرغم من أن إزالة الأنقاض هي عملية استباقية ضرورية لإعادة البناء، إلا أنها تواجه صعوبات وتحديات هائلة، خاصة في مسائل حقوق الملكية والصعوبة في العثور على مواقع للتخلّص من الركام الملوث، وليس واضحاً حتى الآن كيف سيتم التخلص من الركام، فهناك الكثير من الأفكار التي يطرحها باحثون ومسؤولون أمميون، لكنها لا تزال تحدث في النقاش العام؛ كاستخدام الركام في بناء ألسنة بحرية، أو بيعه لدول أخرى، أو نقله إلى خارج غزة، لكن على المستوى العملي، فإن هذه الأفكار تحتاج إلى قدرات هائلة لا تمتلكها غزة، وإلى برنامج مساعدة دولي مكثّف، بحسب وكالة "بلومبيرغ".
مراحل تراكم الحطام في قطاع غزة، حتى وصل في شهر تموز/ يوليو 2024 إلى 42 مليون طن من الحطام (المصدر: وكالة بلومبيرغ)
وقد طُرحت كذلك فكرة إعادة استخدام وتدوير هذا الركام، بيد أنها تبدو فكرة صعبة وغير قابلة للتطبيق، لما في هذا الركام من ملوثات خطيرة ومواد سامة وقنابل غير منفجرة ورفات بشرية، وهي سيرورة دقيقة ومكلفة وبطيئة، ولا تخدم الحاجة العاجلة إلى إعادة البناء لأكثر من مليون ونصف مليون غزي، يعيشون اليوم بلا مأوى.
وبالنسبة لمارك جارزومبيك؛ أستاذ التاريخ المعماري في معهد "ماساتشوستس للتكنولوجيا"، والذي درس إعادة الإعمار بعد الحرب العالمية الثانية، فإن "الأمر لا يقتصر على تدمير البنية التحتية المادية فحسب، بل تدمير المؤسسات الأساسية للحوكمة والشعور بالحياة الطبيعية"، واصفاً ما نراه في غزة بأنه "شيء لم نشهده من قبل في تاريخ التمدن"، وعن عملية إعادة بناء غزة، يقول لوكالة "بلومبيرغ": "ستكون تكلفة إعادة البناء باهظة. ويجب أن تكون مواقع البناء بهذا الحجم خالية من الناس، ما قد يخلق موجة أخرى من النزوح. بغض النظر عما سيتم فعله، فإن غزة ستعاني لأجيال عديدة من هذا الأمر".
من سيبني غزة ومن سيدفع؟
تشير التقديرات الأولية إلى أن إعادة بناء غزة قد تتطلب ما بين 40 إلى 80 مليار دولار، وهي تكلفة لا تستطيع حكومة أو هيئة وحدها التكفّل بها، سيما وأن الناتج المحلي الإجمالي لقطاع غزة انخفض بأكثر من 80% خلال الحرب، وهي نسبة تؤكد أن التمويل المحلي أو الوطني لإعادة البناء يبدو مستحيلاً، وأن القطاع سيعتمد بشكل كامل وكلي على الدعم الخارجي.
وعلى الرغم من أن إعادة بناء غزة قد وُضعت كشرط من شروط اتفاق وقف إطلاق النار بين إسرائيل وحماس، إلا أنه ليس واضحاً من هي الجهات التي ستتكفّل بإعادة البناء وتمويل السيرورة التي ستحتاج إلى طاقات وجهود دولية هائلة، وقد وردت تقارير إسرائيلية سابقة، أشارت إلى أنه من المتوقع أن تبادر دول خليجية لإعادة البناء في غزة، وخاصة السعودية والإمارات وقطر، بمشاركة هيئات أممية، وتحت مظلة السلطة الفلسطينية، كونها هيئة سياسية معترفاً بها دولياً، إلا أن هذه المساهمات لم تُوضّح حتى اللحظة، وتم إرجاؤها إلى المرحلة الثالثة من تنفيذ اتفاق وقف إطلاق النار.
كتب جدعون راشمان؛ كبير المعلقين بقسم الشؤون الخارجية في صحيفة "فايننشال تايمز": "لقد سمعت كبار المسؤولين في الاتحاد الأوروبي يقولون بشكل صريح إن أوروبا لن تدفع تكاليف إعادة إعمار غزة، خاصة وأن ما تحتاجه أوكرانيا من مبالغ مالية، يعد كبيراً".
لكن هل ستدفع إسرائيل شيئاً لإعمار ما دمرته؟ برزت دعوات تطالبها بدفع ثمن الأضرار التي تسبّبت بها، سيما في سياق اعتبارها قوة احتلالية، من قبل الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي ومنظمات دولية، وعليه، يجب عليها أن تتحمّل مسؤولية إعادة البناء.
لكن إسرائيل لم تدفع تعويضاً ولم تجبر ضرراً، إلا مرة واحدة في تاريخ الصراع، وذلك عام 2010، حين وافقت على دفع مبلغ 10 مليون دولار لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "الأونروا"، مقابل المباني التي دُمّرت خلال الحرب، وعلى الرغم من قانونية هذه التعويضات، إلا أنها أثارت آنذاك جدلاً في إسرائيل، حيث تساءل مسؤولون إسرائيليون عما إذا كانت هذه التعويضات تحمل في طياتها اعترافاً اسرائيلياً ضمنياً بالمسؤولية.
ويبدو واضحاً من خلال تصريحات المسؤولين الإسرائيليين أن الحكومة اليمينية الإسرائيلية لن تساهم في دفع شيء في عملية إعادة بناء غزة، هرباً من مسؤوليتها عن الدمار الذي أحدثه جيشها في قطاع غزة في حرب الإبادة، بل قالت إن "على العرب أن يدفعوا لإعمار غزة".
هل ينبعث الفينيق من جديد؟ خطط نظرية لإعادة البناء
اقترحت الأمم المتحدة أربع مراحل لإزالة الركام وإعادة البناء. تتلخص المرحلة الأولى بأنها مرحلة تحضيرية، تشمل جمع التمويل من المجتمع الدولي، وتحديد المجالات ذات الأولوية بناءً على الاحتياجات الإنسانية، وتحديد حقوق الملكية، وتحديد وإعداد المواقع للتخلص من الركام وإعادة تدويره، ثم تشمل المرحلة الثانية الإزالة الأولية؛ إزالة القنابل غير المنفجرة وفرز المواد القابلة لإعادة التدوير، وإزالة بقايا الجثامين التي لم يتم انتشالها من تحت الركام. أما المرحلة الثالثة فتتمثل بإزالة ما تبقى من ركام وهدم المباني غير الآمنة للسكن، والتي تعاني هياكلها من احتمال السقوط، والمرحلة الرابعة تشمل إزالة المواد غير القابلة لإعادة التدوير، وأخذها إلى مدافن النفايات، ونقل النفايات الخطيرة وبقايا الركام الخطرة إلى مرافق تخزين، للتصرّف بها فيما بعد.
مراحل إزالة الركام بحسب برنامج الأمم المتحدة (المصدر: صحيفة بلومبيرغ)
يقترح برنامج الأمم المتحدة للبيئة مكانين في غزة لتبني إزالة هذه الأنقاض، أحدهما في الشمال والآخر في الجنوب، على طول السياج مع إسرائيل، وفي تصريح لوزير الدولة لشؤون الإغاثة الطارئة في السلطة الفلسطينية لوكالة "بلومبيرغ"، يقول: "هناك حاجة إلى 20 ميلاً مربعاً لهذه المواقع، ويجري النظر أيضاً في المناطق القريبة من البحر".
وبحسب هذا البرنامج، يمكن استخدام الحطام غير الملوث لإعادة الإعمار، بعد سحقه إلى خرسانة، وتقدر الأمم المتحدة أن إعادة معالجة نصف هذه الأنقاض فقط ستكون كافية لإعادة بناء شبكة الطرق في غزة بأكملها. اقترح المسؤولون استخدامها لهياكل الدفاع البحري؛ مثل الألسنة البحرية للحماية من تآكل السواحل والفيضانات.
وتشمل الاستخدامات المحتملة الأخرى كتل الأرصفة وقنوات الصرف والقنوات الجارية. إذا أرادت المنطقة إعادة تدوير نصف هذه الأنقاض فقط، فيمكنها استرداد حوالي ثلث تكاليف إزالة الركام؛ أي ما يقارب 143 مليون دولار من إجمالي الفاتورة، بحسب "بلومبيرغ".
وتضيف الوكالة أن السلطة الفلسطينية قدمت خطة لإعادة بناء غزة، إلى المجتمع الدولي، في بروكسل في أيار/ مايو 2024، ووفقاً للخطة، سيتم تفكيك جميع الذخائر غير المنفجرة بمجرد حصولها على الضوء الأخضر للبدء في إعادة الإعمار، على أن يتم بعد ذلك تنظيف الطرق للسماح بالوصول إلى مواقع الإقامة المؤقتة التي لم يتم بناؤها بعد.
يمكن استخدام الحطام غير الملوث لإعادة الإعمار، بعد سحقه إلى خرسانة، وتقدر الأمم المتحدة أن إعادة معالجة نصف هذه الأنقاض فقط ستكون كافية لإعادة بناء شبكة الطرق في غزة بأكملها
وفي غزة، أعلن اتحاد بلديات قطاع غزة عن خطة عمل، أطلق عليها اسم "فينيق غزة" لإعادة الإعمار. يقول رئيس اتحاد بلديات القطاع، يحيى السراج، لصحيفة "الإندبندنت": "جرى إعداد خطة (فينيق غزة) بواسطة خبراء محليين من غزة والضفة الغربية، بالتعاون مع متخصّصين دوليين، وهي تمثل إطار عمل خلال فترة إعادة الإعمار". ويضيف السراج: "الخطة تجمع بين الاستجابة الإنسانية السريعة ووضع الأسس للاستدامة، وتعتمد على إعادة البناء، والحفاظ على هوية غزة التاريخية والثقافية والمعمارية، ومن خلالها، تنهض غزة نحو مستقبل مستدام بعمارة حديثة".
ويوضح أن "خطة إعادة الإعمار تحتاج إلى نحو 15 عاماً. وجرى تجهيز خرائط جديدة لغزة تعتمد على توصيات البنك الدولي في تحسين عملية البناء للمباني التي كانت قائمة قبل الحرب، كما تشمل الخطة رسوماً هندسية وتوصيات فنية تنفّذ خلال عملية الإعمار، وبنوداً متعلقة بتطوير الاقتصاد الفلسطيني في القطاع بصورة تحاكي التطورات الهندسية".
يقول الباحث الفلسطيني السياسي عزيز المصري، لرصيف22، إن "أي عملية لإعادة بناء قطاع غزة تواجه تحديات هائلة، حتى في حالة توافر التمويل والإرادة الدولية والإقليمية. ولعل التحدي الأكبر يتعلق بمساحة قطاع غزة، حيث يجب إزاحة السكان من أجل إزالة الركام وتوفير أماكن إقامة مؤقتة داخل القطاع لهم. ويحتاج ذلك إلى عدد كبير من البيوت المتنقلة والخيام، والإغاثة المستمرة، والتنظيم الاجتماعي والاقتصادي في هذه المخيمات المؤقتة".
من جانبه، يؤكد بلال عاشور، الخبير في الشؤون الإنسانية والاستجابة الطارئة، في حديثه لرصيف22، على أن "عملية إعادة بناء قطاع غزة تحومها الكثير من التساؤلات عن قدرة الأمم المتحدة في الانخراط في مثل هذه الجهود الضخمة، وهي تعاني من نقص هائل في القدرات والتمويل".
ويردف: "تحتاج العملية أيضاً، إلى حرية عمل وفتح للمعابر وتسهيل حركة الشاحنات والسفن وتأمين سلاسل توريد لاحتياجات البناء، وسيحكم ذلك قرار سياسي، يتلخّص في معرفة من سيحكم غزة في اليوم التالي، وبناءً عليه، فإن وجود الطرف الفلسطيني ضروري حتى يتم تنظيم كل هذه القضايا".
ويشير عاشور إلى أنه ليس واضحاً بعد ما إذا كان سيكون لـ "الأونروا" القدرة على القيام بمهامها في ظل الحظر الإسرائيلي لعملها، والذي يدخل مفعوله بحسب قرار الكنيست نهاية الشهر الجاري".
صورة تُظهر حجم الدمار في قطاع غزة
إعادة البناء محط للابتزاز السياسي
لا يتحدث المتخصّصون المحليون والدوليّون عن إعادة إعمار مجموعة من المباني التي قصفتها إسرائيل، أو عن تضرّر جزء من البنى التحتية، بل يدور الحديث عن مدن كاملة تم محوها وتسويتها بالأرض؛ كمدينة رفح وخانيونس ومدن الشمال؛ جباليا وبيت حانون وبين لاهيا.
ومع توقعات بارتفاع فاتورة إعادة بناء غزة، تُطرح تساؤلات حيال الجهة التي سوف تتحمل المسؤولية الأكبر وتدفع الجانب الأكبر من التمويل، ولا تبدو الإجابة سهلة في ضوء اتسام قضية التمويل والمساعدات، في الحالة الفلسطينية، بالشحن السياسي.
تواجه دول إقليمية ودولية ومنظمات دولية وجهات مانحة، مشكلة وسط تساؤلات حيال كيفية إيصال المساعدات والأموال التي يحتاجها القطاع، دون التورط في تمويل حماس، فوضعت هذه الجهات السلطة الفلسطينية كبوابة قانونية وشرعية لاستقبال وتنظيم عملية إعادة البناء والتمويل.
ولكن حسبما صرح رئيس وزراء الاحتلال نتنياهو، فإنه لن يسمح للسلطة الفلسطينية بالعودة إلى غزة، وبطبيعة الحال، فقد كرّر مراراً أنه لن يسمح لحماس بأن تستمر في حكم غزة، وبهذا، تتحول مشكلة إعادة بناء غزة من تحد هائل في حشد الطاقات والجهود والتمويل الدولي والإقليمي، إلى مشكلة أكبر وأكثر تعقيداً؛ مرتبطة بالحالة السياسية، ومن سيحكم غزة، وما هو شكل اليوم التالي، وقد تم ربط ذلك بملف إعادة بناء غزة، حتى على جدول أعمال الولايات المتحدة الأمريكية؛ الداعم الأول لإسرائيل في حربها ضد قطاع غزة.
"ملف إعادة الإعمار والبناء في غزة هي معركة سياسية منفصلة، تحكمها شروط على السلطة الفلسطينية، وعلى الإدارة المستقبلية لقطاع غزة"، يقول المصري.
ويتابع: "وفي سياق إعادة الإعمار، وضمن المعركة السياسية، سُتطالَب السلطة الفلسطينية بإجراء إصلاحات في هياكلها ووزاراتها، وخاصة في الشؤون المالية".
"هناك رغبة لدى بعض الدول التي ستساهم في عملية إعادة البناء، للحصول على نفوذ إقليمي معين في غزة، مقابل مشاركتها بدفع جزء من أموال عملية إعادة البناء. وهذا بدا واضحاً من خلال عقد اتفاقيات بين دول وشركات محلية لإعادة البناء والإغاثة، دون الرجوع إلى السلطة الفلسطينية أو حماس في غزة"، يضيف المصري.
أي عملية لإعادة بناء قطاع غزة تواجه تحديات هائلة، حتى في حالة توافر التمويل والإرادة الدولية والإقليمية. ولعل التحدي الأكبر يتعلق بمساحة قطاع غزة، حيث يجب إزاحة السكان من أجل إزالة الركام وتوفير أماكن إقامة مؤقتة داخل القطاع لهم. ويحتاج ذلك إلى عدد كبير من البيوت المتنقلة والخيام، والإغاثة المستمرة، والتنظيم الاجتماعي والاقتصادي في هذه المخيمات المؤقتة
إلى جانب ذلك، استخدمت إسرائيل ملف إعادة البناء والمساعدات الإنسانية العاجلة كأداة ابتزاز وأداة حرب، وذلك من خلال حظر عمل وكالة غوث وتشغيل الفلسطينيين "الأونروا"، في الأراضي الفلسطينية، حيث صوّت الكنيست الإسرائيلي على قانون الحظر، وطالبها بتسليم مقراتها في القدس بحدود 30 كانون الثاني/ يناير الجاري.
سيفاقم هذا الحظر الأزمة الإنسانية والغذائية، وسيمنع أهم منظمة دولية تعنى باللاجئين الفلسطينيين من العمل، ومن تقديم الخدمات الأساسية للفلسطينيين في قطاع غزة ومناطق فلسطينية أخرى، وعلى الرغم من أن دولاً ومنظمات دولية كانت قد عبّرت عن أهمية وجود "الأونروا" لما تقدّمه من خدمات صحية وتعليمية للفلسطينيين، إلا أن إسرائيل أصرّت على حظرها، واتهمتها بالتعاون مع حماس في غزة. وتبرز خطورة ذلك لما تمثله الوكالة كرمز لهوية اللجوء الفلسطيني وحق العودة، وفي سحب شرعيتها، إزالة لصفة اللاجئ عن الفلسطيني الذي ينتظر العودة.
تقديرات الوقت المتشائمة
وفقاً للتقديرات الدولية والمحلية، فإن عملية بناء غزة ستحتاج إلى سنوات طويلة، في أقلها تشاؤماً، قد تمتد إلى ما يقارب 15 سنة، حتى تعود غزة إلى وضعها في عام 2022.
وترافق عملية البناء تحديات عملية؛ كمخاطر التهجير الطوعي الذي تسعى إسرائيل والولايات المتحدة إلى تنفيذه، سيما بعد أن كشف الرئيس الأمريكي عن خطة السيطرة على القطاع، وتهجير سكان غزة إلى الأردن ومصر، وتحويل غزة إلى "ريفييرا" الشرق الأوسط.
فضلاً عن مخاطر تجهيل جيل فلسطيني كامل، في حال تباطأ أو تأخّر بناء المدارس والجامعات، فهناك نحو 700 ألف طالب وطالبة لم يذهبوا إلى مدارسهم التي دمرتها إسرائيل منذ عامين، وربما لن يذهبوا بانتظام إلى مدارسهم لسنوات قادمة.
تُضاف إلى ذلك التحديات الإنسانية والخدمية، فثمة مليون ونصف مليون غزي على الأقل بدون مأوى ومرافق بنية تحتية وكهرباء ومياه، وسيحتاجون إلى الاعتماد الكامل على المساعدات بكافة أشكالها، وهي حتى اللحظة مرتبطة بالطرح السياسي الذي يفرضه اتفاق وقف إطلاق النار.
وتعني هذه التحديات، أن عملية إعادة البناء، يجب أن ترافقها عملية علاج للواقع المنهار والكارثي في قطاع غزة، كي يحافظ سكان غزة على بقائهم بكرامة، وهي عملية تحتاج إلى أكثر من اتفاق لوقف إطلاق نار؛ إلى جهود دولية وحلول سحرية وسريعة، تشمل التدخّل العاجل من قبل كافة الأطراف، للوقوف إلى جانب الغزيين.
هذا التقرير أُنتج بدعم من منظمة Civil Rights Defenders.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Europe in Arabic-Tarek Saad أوروبا بالعربي -
منذ يومالمقال بيلقى الضوء على ظاهرة موجوده فعلا فى مصر ولكن اختلط الامر عليك فى تعريف الفرق بين...
مستخدم مجهول -
منذ يوماحمد الفخرناني من الناس المحترمة و اللي بتفهم و للاسف عرفته متاخر بسبب تضييق الدولة علي اي حد بيفهم
Europe in Arabic-Tarek Saad أوروبا بالعربي -
منذ يومينمقال رائع..
مستخدم مجهول -
منذ 5 أيامالحبة الحمراء أيديولوجية يقتنع بها بعض من النساء والرجال على حد السواء، وبرافو على هذا الشرح الجميل
Hani El-Moustafa -
منذ 5 أياممقال أكثر من رائع واحصائيات وتحليلات شديدة الأهمية والذكاء. من أجمل وأهم ما قرأت.
حوّا -
منذ أسبوعشي يشيب الراس وين وصل بينا الحال حسبي الله ونعم الوكيل