شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!
تفاصيل مؤلمة... رصيف22 مع مهاجرين غير نظاميين إلى أوروبا برّاً عبر تركيا

تفاصيل مؤلمة... رصيف22 مع مهاجرين غير نظاميين إلى أوروبا برّاً عبر تركيا

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة نحن والمشرّدون

الاثنين 20 يناير 202506:03 م

قصص علينا معرفتها

شهد عام 2023، أعلى عدد من حالات عبور الحدود غير النظامية منذ أزمة اللاجئين في 2015/ 2016، وفق "تقرير اللجوء لعام 2024"، الصادر عن وكالة الاتحاد الأوروبي للجوء (EUAA). ووثّقت الوكالة الأوروبية لحرس الحدود والسواحل (فرونتكس)، 385 ألف حالة عبور غير نظامية للحدود الخارجية للاتّحاد الأوروبي، بزيادة قدرها 18% عن 2022.

استمر السوريون والأفغان والأتراك في تقديم طلبات اللجوء بأكبر عدد، حيث مثّلوا أكثر من ثلث جميع الطلبات المقدّمة إلى دول الاتّحاد الأوروبي. قدّم المواطنون السوريون، الذين يمثّلون سدس جميع طالبي اللجوء تقريباً، 181 ألف طلب لجوء، بزيادة قدرها 38% مقارنةً بـ2022، تلاهم الأفغان بـ114 ألف طلب لجوء، بينما تقدّم الأتراك بـ101 ألف طلب، كثالث أكبر مجموعة من طالبي الحماية. كذلك، قُدِّم عدد قياسي من طلبات اللجوء من جنسيات أخرى، منها الفنزويليون والكولومبيون، الذين احتلوا المرتبتين الرابعة والخامسة على التوالي. ومنذ بداية حرب الإبادة الإسرائيلية على غزّة، في 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، تقدّمت أعداد كبيرة من الفلسطينيين بطلبات لجوء.

ووصل ﻧﺤﻮ 15 ألف ﺷﺨﺺ إلى الاتّحاد الأوروبي الموسّع في عام 2023، من دول ثالثة في سياق "إعادة التوطين" أو اللجوء الإنساني، في أدنى عدد منذ 2016، باستثناء عام 2020 الذي تعطّلت فيه عمليات التنقّل بسبب جائحة كورونا.

بحسب المجلس الأوروبي، فإنَّ "عمليات تهريب المهاجرين تطوّرت بشكل كبير منذ بدء أزمة الهجرة في عام 2015. فوفقاً لليوروبول والإنتربول، يدفع أكثر من 90% من المهاجرين غير النظاميين المال للمهرّبين لمحاولة الوصول إلى أوروبا. وتشير التقديرات إلى أنَّ أرباح تهريب المهاجرين السنوية تتراوح بين 4.7 و6 مليارات يورو على مستوى العالم".

عادةً ما يدفع المهاجرون هذه المبالغ الضخمة للمهرّبين، ويخاطرون بحياتهم وسلامتهم في رحلات غير آمنة، بسبب الظروف الصعبة في بلادهم، اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً، وفي ما يتعلّق بالحريات واحترام حقوق الإنسان، فضلاً عن الشعور بالأمان من الملاحقات والثارات العشائرية، والتهديدات التي تواجه الأقليات الدينية والجندرية والجنسية.

بعد اتخاذ الاحتياطات الكاملة لمخاطرها، قرّر رصيف22 -عبر معدّ التحقيق- اصطحاب قرّائه في رحلة للحصول على المعلومات الكاملة التي تزيل الغمام عن كواليس رحلات الهجرة غير النظامية، التي يسلكها عشرات المواطنين العرب نحو أوروبا بانتظام، وهذه المرّة، برّاً انطلاقاً من تركيا، وذلك في أيار/ مايو 2023.

طريق "التهريب" البرّي

"الطريق الذي يسلكه المهاجرون العرب، ينطلق من تركيا إلى بلغاريا، ثم صربيا، وهنغاريا (المجر)، وبعد ذلك سلوفاكيا، فالتشيك وصولاً إلى ألمانيا"، يقول أنور علي* (21 عاماً)، وهو مهاجر عمل فترةً في مجال تهريب المهاجرين.


خريطة توضيحية للطريق الذي يسلكه المهاجر العربي، من تصميم رصيف22.

يردف أنور: "يختلف الطريق الذي يسلكه المهاجرون الأتراك عن طريق العرب، لأنَّهم لا يستطيعون الدخول إلى سلوفاكيا أو التشيك، لأنهم إذا أُمسك بهم في أي من البلدين، ستتم إعادتهم إلى بلدهم فوراً لعدم وجود أي ظرف قهري يستحقون معه اللجوء".

ويتابع: "لذا فإنّ التركي يبدأ من صربيا، ثم النمسا، وصولاً إلى ألمانيا. وهناك طريق يُستخدم حديثاً بسبب إغلاق الطريق السابق، يبدأ من صربيا إلى البوسنة، ثم كرواتيا -يمرّ إجبارياً في غابات كرواتيا- مروراً بسلوفينيا وإيطاليا وسويسرا وصولاً إلى ألمانيا".

خريطة توضيحية للطريق الذي يسلكه المهاجر التركي، من تصميم رصيف22.

كيف يبدأ المهاجر رحلته؟

يقول المهرّب سعد إبراهيم* (38 عاماً)، وهو سوري الجنسية يعيش في تركيا منذ سنوات طويلة، لرصيف22، إنّ الرحلة تبدأ من "مدينة إسطنبول التركية، حيث التجمّع في مكان/ سكن واحد، وبعد ذلك تكون انطلاقة الرحلة في سيارة إلى الحدود بين تركيا وبلغاريا، مقابل مبلغ يتراوح بين 7.500 إلى 10 آلاف يورو للشخص الواحد. ولا توجد أخطار في هذه المرحلة وإنما فقط إرهاق، و/ أو قلق من توقيف السلطات التركية للركّاب (تسمية تُطلق على المهاجرين)".

ويضيف سلام سعيد* (24 عاماً)، وهو قريب سعد ويعمل معه في مجال تهريب المهاجرين بشكل غير نظامي، لرصيف22: "نقطة التحميل، هي آخر نقطة يصل إليها المهاجرون. بعدها تأتي إليهم السيارة، وتكون بلغاريةً، لكن السائق ليس بلغارياً عادةً، ويأخذهم إلى صوفيا عاصمة بلغاريا"، موضحاً: "السيارة لا تكون نظاميةً وليست ملكاً للسائق، وقد تكون مستأجرةً أو مسروقةً، وبلا لوحات (أرقام). ويأخذ السائق من المهرّب 2،000 يورو عن كل راكب من نقطة التحميل التي تبعد عن الحدود البلغارية 7 إلى 12 كم، في حين أن إجمالي المبلغ الذي يدفعه 'الراكب' الواحد من تركيا إلى صوفيا هو 5،000 يورو".

"أحياناً نرى هياكل عظميةً بشريةً وجثثاً مرميةً في الغابات"... رصيف22 يصطحب قرّاءه في مغامرة الكشف عن كواليس رحلات الهجرة غير النظامية التي يسلكها عشرات المواطنين العرب نحو أوروبا بانتظام، وهذه المرّة، برّاً، انطلاقاً من تركيا

يعترف سلام: "هذا العمل نعرف من اسمه 'تهريب' أنَّه غير قانوني، لكن الموت والحرب والجوع والقصف هي ما تدفع إلى ذلك. لم يغامر الناس بهذه التجربة لمجرد الوصول إلى أوروبا، بدليل أن كثيرين يفضلون العودة إلى سوريا الآن بعد التحرير"، مستدركاً: "لا تؤاخذني، الدول هي التي فتحت الأبواب وغضّت النظر، ومن يتم مسكه (من المهاجرين) يحاول مرةً واثنتين وثلاثاً".

ويوضح أنور: "كل شخص عمره فوق الـ10 سنوات تقريباً، وحتّى لو كان عمره 90 عاماً، سيُحسب بسعر البالغ. لكن من هم أقل، يتم حساب كل ثلاثة أطفال كشخص واحد، وفي السيارة يوضع كل اثنين على كرسي واحد".

ويشرح: "عندما يصل الراكب إلى صربيا، يأخذه الريبر (أو الريبري، وهو الدليل الذي يعرف الطريق والمواقع على الخرائط، وهو أحد معاوني المهرّب الرئيسي الذي يدير الرحلة عن بعد)، إلى الحدود الصربية الهنغارية، ثم يعبر التيل (سياج حديدي عليه كاميرات وشفرات من الأعلى، وأحياناً تكون هذه الشفرات سامّةً، وينبغي قصّه للعبور واستئناف الرحلة). وبعد ذلك يذهب إلى سلوفاكيا، ومن ثم إلى التشيك، وبعدها يصل إلى ألمانيا".

وينبّه أنور إلى أنّه "يوجد طريق آخر يشمل عبور الحدود الهنغارية، والتنقّل بعدها بالسيارة إلى داخل هنغاريا، ثم النمسا، فألمانيا، لأنّ الحدود مفتوحة"، متابعاً: "عناصر في السلطات التركية يتعاونون مع المهرّبين". وفي هذا السياق، تجدر الإشارة إلى أنه خلال العام الماضي، أُحيل اللواء بلال تشوكاي، إلى التقاعد بعد إدانته بتهريب مهاجرين سوريين إلى تركيا بشكل غير نظامي مقابل المال، ولاحقاً حُكم عليه بالسجن نحو 11 عاماً بالتهمة نفسها. وكشفت التحقيقات تورّط عدد من الضباط معه في هذا النشاط.

ويضيف أنور: "أحياناً تقوم الجندرما التركية (قوات حرس الحدود)، بالسماح للمهاجرين بالمرور، ولديها المجال لذلك، لكن عندما ترغب في ضبط الحدود تقوم بذلك بالفعل على طول الحدود، ولكن في العادة يقوم بعض العناصر بالتغطية على المهاجرين مقابل المال، لذا يهدّد أردوغان دوماً دول أوروبا بفتح الحدود أمام المهاجرين من أجل مصالح معيّنة، وهو يعلم قدرة قواته".

"تهريب الاتفاقية"

بتفصيل أكبر، يشير أنور، إلى نوع آخر من أنواع التهريب يسمّى "الاتفاقية"، قائلاً: "هذا النوع من التهريب يحصل كثيراً بين الحدود التركية السورية، وسابقاً في 2019 و2020، كان يحصل على الحدود التركية البلغارية لكنه توقّف لاحقاً. وخلاله، يُبرم اتفاق بين المهرّب وأحد الضباط على الحدود، ليقوم الأخير بإطفاء الكاميرات ويخبر عساكره بأن يناموا أو يتفق على توقيت معين للعبور -مثلاً من الساعة 12:00 إلى 1:00 فجراً- بينما تكون الحدود مفتوحةً من الطرفين، ويتم تهريب العدد المتفق عليه مع المهرّب، ثم يعطي المال إلى الضابط التركي الذي اتفق معه".

ويردف: "حصل تهريب الاتفاقية سابقاً بين بلغاريا وتركيا لفترة قليلة ثم انتهى، إذ كان المهربون يتفقون مع بعض الضباط البلغار لفتح الحدود من ساعة محددة إلى أخرى، لتمرير المهاجرين، ويقوم بتغطية العيون عنهم، وخلال ساعتين مثلاً يعبر من 300 إلى 400 مهاجر، ومن ثم يتم تبديل المناوبة. لكن في دول الاتحاد الأوروبي هذا الأمر صعب، لأنّ القوات هناك لا تأخذ الرشاوى والمال، ولا تستجيب مهما تمت المحاولة معها".

مخاطر الرحلة

ويعدّد سلام "مخاطر" هذه الرحلة، مستذكراً: "كنت سابقاً 'راكباً من الركّاب' الذين حاولوا الهجرة عبر حدود تركيا وبلغاريا، وبالطبع أخذتنا السيارات مقابل مبلغ كبير جداً، وكانت تنظّم الرحلة مافيات وعصابات مسلّحة. لكننا كنّا خائفين كثيراً من الجندرما التركية لأنهم يضربون. كما توجد عصابات ومافيات كبيرة من جنسيات مختلفة، تعمل على خطف المهاجرين وطلب الفدية من ذويهم أو إجبارهم على فك شيفرة السفرة (إعطاء الإذن لمكتب التأمين المالي كي يحول/ يحرِّر الأموال، يُشرح لاحقاً بالتفصيل)، تحت التهديد قبل وصولهم إلى النقطة التي يريدونها".

"أما عناصر الشرطة البلغاريون، فعندما أمسكوا بنا ضربونا بالعصي وهدّدونا بالسلاح، وأطلقوا الرصاص بقصد تخويفنا، وهدّدونا كذلك بالكلاب البوليسية وظلوا يتفرجون عليها وهي تهجم علينا وتعضّ بعضنا، وأخيراً ألقوا بنا في الأراضي التركية، وفتحوا لنا السياج بعدما أجبرونا على رمي أحذيتنا، وسراويلنا، فعدنا إلى تركيا عراةً… هذا ما حدث معي شخصياً"، يضيف.

ويتابع سلام حديثه: "وجدنا عصابةً في غابة داخل الأراضي التركية وقبل التيل بـ100 متر، في منطقة العبور حمزة بيلّي. هجموا علينا بالآلات الحادة والعصي وضربونا، فقط لأننا سوريون ونريد العبور إلى بلغاريا. يحدث هذا مثلاً عندما يكون هناك مهرّبان على خلاف يقومان بالتخريب على بعضهما البعض والركاب يكونون الضحية".

ما يتحدث عنه سلام، تؤكده منشورات مهاجرين غير نظاميين عبر الإنترنت، وتقارير المنظمات الحقوقية المعنية. ولا يغفل سلام مخاطر وتحديات أخرى تواجه المهاجرين في تلك الرحلة، على غرار "الجوع والتعب، والإرهاق النفسي، غير الخنازير والدببة والأفاعي والحيوانات الأخرى التي تواجههم في الغابة…".

ويؤكد: "أحياناً نرى هياكل عظمية بشريةًَ وجثثاً مرميةً في الغابات. في إحدى المرّات، وجدت أنا وقريبي ومجموعة من 20 مهاجراً، جثّةً متحلّلةً لمهاجر بدا عربياً من ملامحه. في حادثة منفصلة، قابلنا طفلين يبلغان من العمر 5 و6 سنوات تقريباً، أضاعهما أهلهما، فحملناهما وذهبنا بهما إلى إسطنبول حيث عثرنا على عائلتهما عن طريق مجموعات فيسبوك".

ينشط المهرّبون والمهاجرون في مجموعات خاصّة وعامّة على فيسبوك، بحسابات أغلبها وهمية وغير معرّفة الهوية، يستخدمونها في معظم الأحيان للإبلاغ عن المفقودين، أو المتوفين على مسار "الهجرة/ التهريب"، بالإضافة إلى طرح الأسئلة وتبادل المعلومات حول رحلات التهريب تلك.

نماذج من منشورات المجموعات الخاصة بتهريب البشر على فيسبوك.

يتّفق أنور على أنّ "هناك مخاطر كثيرةً جداً"، ويضيف إلى ما سبق: "مشكلة صيادي الحيوانات والطيور الذين يتواجدون في المناطق الحدودية التي تقع على الطريق، لأنّ الصياد عندما يراك فإنه يطلق النار عليك". والأخطر من ذلك برأيه، "أنه 'ما حدا لحدا' خلال هذه الرحلة. فالريبر يمشي معك في البداية لكن عندما يشعر بأنك تعبت، يرميك في الطريق ولا يساعدك أحد… شاهدت فيديو لأبٍ يدفن ابنه في غابة في بلغاريا بعد أن توفي على الطريق بسبب التعب. كذلك شرطة الحدود البلغارية والحرس اليوناني والجندرما التركية، جميعهم سيئون جداً في التعامل مع المهاجرين، بالإضافة إلى صربيا التي سجنت في وقت سابق 500 مهاجر دون سبب، فضلاً عن الخنازير البرية والدببة في غابات كرواتيا".

ويشدّد أنور على أنه "حالياً أصبح الأمر اتّجاراً بالبشر ولم يعد تهريباً بالمفهوم السائد سابقاً، إذ إنَّ المهرّب يرى المهاجر 2،000 أو 3،000 دولار، لا إنساناً. ويتعرّض المهاجرون للضرب كثيراً أحياناً لمجرد الانتقام من المهرّب المسؤول عن تهريبهم لأنه لم يمنح الريبر أمواله، أو عندما يكون الريبر قد تناول جرعةً من المخدرات ومزاجه سيئ أو منزعجاً من كثرة عدد 'الركاب'، أو لمجرد أنّ 'الركّاب' لا يمشون بسرعة ويتكلمون في الطريق".

شارك كريم، وهو أحد المتعاونين مع المهرّبين، رصيف22، مجموعةً من الصور والفيديوهات التي توثّق حوادث تعرّض لها مهاجرون خلال رحلات تهريب واكبها.

دبّ يهاجم مهاجرين سوريين في غابة بين البوسنة وكرواتيا قبل أن يقتلوه.


دبّ يهاجم مهاجرين سوريين في غابة بين البوسنة وكرواتيا قبل أن يقتلوه.

دبّ يهاجم مهاجرين سوريين في غابة بين البوسنة وكرواتيا قبل أن يقتلوه.

تعذيب بالعصي والنيران خلال الرحلة

يروي كريم لرصيف22، كيف تعرّض "6 مهاجرين أتراك لهجوم من عصابة أجنبية عند حدود كرواتيا والبوسنة، وطلبوا مبالغ ماليةً منهم، وعندما رفضوا، قاموا بتهديدهم بالسلاح وضربوا أحدهم بالسكين، وبدأوا بتعذيبهم في الغابة، ثم صوّروهم وأرسلوا الفيديوهات إلى ذويهم وإلى صاحب المكتب الذي أمّنوا لديه أموالهم، وهنا قام صاحب المكتب بتحويل مبلغ ثمانية آلاف يورو للمعتدين ليتركوهم".

مشاهد لمهاجرين تعرضّوا للتعذيب من قبل إحدى العصابات.


مشاهد لمهاجرين تعرضّوا للتعذيب من قبل إحدى العصابات.

ما بعد "الوصول"

وعمّا يحصل بعد أن يصل المهاجر إلى وجهته، توضح الاستشارية شيماء فرحان، المختصة في قانون الهجرة واللجوء الألماني، لرصيف22، الإجراءات التي يمرّ بها المهاجر غير الشرعي عند وصوله إلى ألمانيا: "عندما يصل المهاجر إلى ألمانيا، يتوجه إلى مركز الاستقبال الأوّلي، حيث يتم تسجيل بياناته الشخصية، وأخذ بصماته وصورته، وبعدها يتم تقديم طلب اللجوء، ويجب عليه توضيح أسباب طلب اللجوء (مثلاً الاضطهاد السياسي أو الخوف من الحرب… إلخ)".

وتكمل: "ينتقل إلى التحقيق الأولي وتسجيل الطلب، ويتم في هذه المرحلة التحقّق من إمكانية معالجة طلب اللجوء في ألمانيا، ويشمل التحقّق الأمني والتوزيع على الولايات. وبعد التسجيل، يتم توجيه طالب اللجوء إلى ولاية ألمانية معيّنة، يقيم فيها خلال مدة الإجراءات، وعادةً تكون هي الولاية التي وصل إليها أولاً، ثم يجري مقابلة اللجوء في المكتب الاتحادي للهجرة واللجوء (BAMF)، حيث يُستدعى لإجراء مقابلة يُسأل فيها عن تفاصيل أسباب لجوئه، وهذه المقابلة هي الجزء المركزي من إجراءات اللجوء".

وتتابع: "ثم تأتي مراجعة الطلب والقرار الأولي. في هذه المرحلة يقوم BAMF، بمراجعة ما إذا كانت الشروط المتعلقة بحماية اللجوء مستوفاةً، وتستغرق هذه المراجعة عادةً بضعة أشهر، يبقى خلالها طالب اللجوء في مركز الإقامة".

"'ما حدا لحدا' خلال هذه الرحلة. فالريبر يمشي معك في البداية لكن عندما يشعر بأنك تعبت، يرميك في الطريق ولا يساعدك أحد… شاهدت فيديو لأبٍ يدفن ابنه في غابة في بلغاريا بعد أن توفي على الطريق بسبب التعب. كذلك شرطة الحدود البلغارية والحرس اليوناني والجندرما التركية، جميعهم سيئون جداً في التعامل مع المهاجرين"

وتضيف: "بعدها تأتي مراجعة إجراءات دابلن، إذا كان الشخص قد تقدّم بطلب لجوء في دولة أخرى من دول الاتحاد الأوروبي (خلال رحلة اللجوء عندما مرّ بدول أوروبا الشرقية أو اليونان وأعطى بصماته في إحدى تلك الدول)، وقد يحوّل طلبه إلى تلك الدولة وفقاً لقانون دابلن. وعادةً أغلب اللاجئين لديهم هذه البصمة".

وتستطرد: "ثم هناك مرحلة إصدار القرار الذي يكون إيجابياً إذا رأى BAMF أنّ الشخص يستحق اللجوء، ويتم منحه الحماية، سواء على شكل لجوء، أو حماية اللاجئين أو حماية مؤقتة. أما عند الرفض، فيتلقى الشخص قراراً يوجب عليه مغادرة ألمانيا خلال فترة زمنية معيّنة، إلا إذا كان يحق له الطعن في القرار أو تقديم دعوى قضائية أمام المحكمة الإدارية، لكن يستغرق هذا شهوراً أو سنوات".

وتشرح: "القرار النهائي يكون بعد الانتهاء من الإجراءات القانونية كافة. قد يؤدي القرار النهائي إلى منح الحماية أو إلى طلب مغادرة ألمانيا. وفي حال تم رفض الطلب وانتهاء جميع وسائل الطعن، قد يتم ترحيل الشخص إلى بلده الأصلي أو إلى دولة أخرى يمكنه طلب اللجوء فيها. أما إذا كان الترحيل غير ممكن (مثلاً بسبب عدم وجود وثائق سفر)، فقد يُمنح تصريح إقامة مؤقت يُسمى (Duldung)، وفي بعض الحالات، قد يُمنح حق الإقامة بعد مرور سنوات، خاصةً إذا تغيرت الظروف في بلده الأصلي أو لأسباب إنسانية أخرى".

وتتابع فرحان: "مرحلة الاندماج والعمل تسمح للّاجئين الحاصلين على الحماية أو إقامة اللجوء بالالتحاق بدورات للاندماج تشمل تعليم اللغة الألمانية وتوفير معلومات حول الحياة في ألمانيا، وهناك امتحان سياسي يؤهل للحصول على الجنسيه في المستقبل، وبعد فترة معينة، يمكن لهم الحصول على إذن للعمل في ألمانيا".

إجراءات اللجوء في ألمانيا.

ماذا يحلّ بالمهاجر الذي يُعاد من بلغاريا إلى تركيا؟

وفق مصادرنا، عندما يتم توقيف المهاجر على الحدود داخل الأراضي البلغارية، فإنّ حرس الحدود يقومون بإرجاعه إلى تركيا، عن طريق فتح إحدى البوابات الصغيرة في السياج الحدودي ثم "يتركونه بحال سبيله" هائماً في الأراضي التركية. حينها يصبح التحدي الأكبر الوصول إلى إسطنبول دون اعتقال من الشرطة التركية كونها منطقةً "مشبوهةً".

ويوضح أنور: "هناك سائقون في منطقة معبر حمزة بيلّي والقرى الحدودية الأخرى، يكونون من أبناء المنطقة ويعرفون بعضهم البعض. لذلك عندما تقوم بلغاريا بإرجاع المهاجرين إلى تركيا، يقوم السائقون بالاتفاق في ما بينهم، ويحددون الأسعار ويتحكمون بها؛ مثلاً 200 أو 100 دولار أمريكي للتوصيل من الحدود التركية إلى إسطنبول، وحتّى لو لحقتهم الشرطة، فلا تمسك بهم ويهربون، لأنهم يعرفون الطرق بالتفصيل وإلى أين تؤدي".

رحلة رصيف22

لاختبار التجربة الشاقة وغير المأمونة التي يعيشها المهاجرون عبر الحدود التركية الأوروبية، وخلال فترة إقامة معدّ التحقيق في إسطنبول، وبعد اتّباع إجراءات السلامة الكافية والتي ربما لا تتوافر لبقية المهاجرين، بدأت رحلة رصيف22، بالتنسيق مع العديد من المصادر، خاصةً في منطقة أكسراي (أو آق سراي)، التي يكثر تواجد العرب فيها، وتُعدّ معقلاً للكثير من المهرّبين أيضاً.

كان اللقاء بين أحد المهرّبين الكبار، ومعدّ التحقيق بوصفه طالباً للهجرة إلى أوروبا، في منطقة أفجلار (غربي إسطنبول). بتوصية من المصادر، استقبلنا المهرّب سوري الجنسية "سعد"، في شقّته وبعد التعارف جرى الحديث عن تفاصيل الرحلة "البرّية"، وأخبرنا بالتفصيل عن المسؤوليات التي تقع عليه كمهرّب وعلى معدّ التحقيق كمهاجر.

قال سعد: "عليك تأمين مبلغ الرحلة (8،500 يورو)، لدى شركة صرافة عالمية وموثوقة. الاتفاق يكون بدفع المبلغ إلى الشركة بصفتها طرفاً ثالثاً، ثم تعطيك الشركة شيفرة تحفظها عندك، وبعد أن تذهب في الرحلة وتصل إلى البلد الذي تريده، تقوم باتصال فيديو معي ومع صاحب الشركة، لتعطيه الشيفرة كي يسلّمني المبلغ، أي أنَّك ستضمن وصولك إلى أوروبا وبعدها تسلّمني المبلغ".

اتفقّنا في بادئ الأمر على أنَّ الثقة في هذه العملية هي أساس كل شيء، لذلك ولتلافي أي مشكلات، قرّر معدّ التحقيق أن يتدخّل الأشخاص (المصادر) الذين عرّفوه على سعد، لإخباره بطريقة مناسبة عن سبب ذهابه إليه وهدفه من الرحلة. بالفعل، وبعد تطمينات عديدة قدّمناها له، أبدى سعد استعداداً للتعاون لم نتوقعه.

وفّر سعد، لمعدّ التحقيق، مرافقاً هو مهاجر حقيقي اتّبع الخطوات المعتادة كافة بما في ذلك إيداع المال في الشركة المالية، والاطلاع على العملية وكيف تتم. ذهب معدّ التحقيق مع المهاجر، وكان سورياً أيضاً، إلى شركة في سوق في منطقة الفاتح في إسطنبول، كانت عبارةً عن مكتب في الطابق السادس في إحدى البنايات، كان مثيراً للشكوك ولم يحتوِ على أي أثاث، فقط طاولة عليها جهاز صرّاف، وموظف. لاحظنا أن اسم الشركة المتداول يختلف عن الاسم الموجود على لافتة صغيرة أمام مقرّ الشركة المفترض.

داخل "الشركة"، أخبر المهاجر الشاب الموظف بأنَّه "من طرف سعد"، وقدّم له الأموال على أن تصل إلى سعد بعد ضمان وصوله إلى أوروبا. لم يستلم المهاجر إيصالاً أو أي وثيقة بالمبلغ المودع، وحين تدخّل معدّ التحقيق وطلب إيصالاً بالأموال، ردّ الموظف: "لا نعمل بالوصولات".

سألنا سعد عن المهاجرين الآخرين، فقال إنَّهم "مجتمعون في منزل كنّا قد استأجرناه لهذا الغرض، وهم ينتظرون موعد التحرّك". وافق سعد على انضمام معدّ التحقيق لبقية المهاجرين شريطة عدم التصوير.

انطلق الجميع ليلاً إلى المنزل الذي يقع في "أفجلار". كان الوضع مزرياً إذ كان البيت صغيراً (صالة صغيرة وغرفتان)، وغير مؤثّث على الإطلاق، مع أرضية من الإسمنت فقط، وكان غير نظيف وتفوح منه الروائح الكريهة. جلس معدّ التحقيق في إحدى الغرفتين مع سعد ورفيقه. كان هناك قرابة 15 مهاجراً من مختلف المناطق السورية، بينهم سيدة متقدّمة في العمر، وأبّ من أكراد عفرين مع ابنيه، وكانت مشاعر الخوف والحيرة واضحةً على عيون الجميع بينما ينتظرون بدء الرحلة.

كان لافتاً حديث الجميع عن شاب مهاجر من أقارب سعد، فُقدت أخباره في غابات بلغاريا ولم يعد مع رفاقه.

ضجّت مجموعات فيسبوك الخاصة بالمهاجرين بخبر فقدان أحد الشباب السوريين في غابات بلغاريا.

في المنزل أيضاً، تعرّف معدّ التحقيق على الريبر ومساعديه اللذين من المقرر أن يقودا الرحلة، وأخبرهما سعد بحقيقته وطلب منهما حمايته، وبشكل استثنائي، السماح له بحمل هاتفه المحمول واستخدام الإنترنت خلال الرحلة. عادةً، الريبر هو الوحيد المسموح له باستخدام الهاتف لمتابعة خريطة الطريقة والاتصال في حالة الطوارئ.

بعد ذلك، كانت العودة إلى منزل سعد، والتحضير للرحلة التي يمكن أن تبدأ في أي وقت بعدما ألغي موعدها الأوّلي بسبب تشديد الإجراءات على الحدود، كما أبلغه متعاونون معه على الحدود التركية البلغارية.

حقيبة الرحلة وكيس النوم لمعدّ التحقيق.

تتضمن "لوازم الرحلة" حقيبة ظهر لسهولة حملها والتنقّل بها والمشي لمسافات داخل الطرق الوعرة والغابات، فضلاً عن كيس النوم، وسترات وبوالين النجاة، وجميعها متاحة في محال عديدة وعلناً في منطقة أكسراي.

المحال التي تبيع لوازم رحلة الهجرة.

المحال التي تبيع لوازم رحلة الهجرة.

بعد شراء المعدّات الضرورية، مع الطعام والماء ومشروب الطاقة، بالقدر الذي يسهل حمله والتنقّل به، بات معدّ التحقيق جاهزاً للتحرّك. وبعد أيام قليلة في شقّة سعد، حان وقت التحرّك والانطلاق من مكان التجمّع. بدت مشاعر الفرحة الممزوجة بالخوف على وجوه المهاجرين واضحةً. وصلت السيارات وبدأت الرحلة عند الساعة الواحدة بعد منتصف الليل. كانت من نوع يُطلق عليه "درمش أو دلمش"، وهي عبارة عن حافلات نقل صغيرة بيضاء اللون، مظلّلة بالزجاج. كان سائقوها أتراك يتبعون مافيا تهريب كبيرة في إسطنبول، وفق ما أخبرنا سعد.

شكل سيارة الدرمش.

كانت السيارة الواحدة تتسع لسبع ركّاب، لكن مجموع الركاب في السيارتين كان 19 شخصاً (15 مهاجراً والريبر ومساعداه وأنا). انطلقت السيارتان من إسطنبول إلى أدرنة، في رحلة كان يفترض أن تستغرق أربع ساعات، لكن بعد ثلاث ساعات وصلنا إلى الحواجز الحدودية، وعند أحدها كان على السائق تخفيف السرعة مع احتمال خضوع السيارة للتفتيش، وبالفعل خفّف سرعته، وقال فجأةً: "تمسّكوا" ثم قام بالهرب بسرعة هائلة، بعد ضرب الحاجز. كما أبلغ سائق السيارة الثانية بأن يغيّر طريقه، ثم دخل طريقاً ترابياً معتماً، وقال: "أخرجوا من السيارة وأبقوا مختبئين إلى أن أخبركم"، وهو ما حصل.

في أثناء النزول من السيارة، لاحظ معدّ التحقيق أنّ السائق فتح زجاجة بيرة وبقي واقفاً. وفي أثناء الاختباء فوق تلّة قريبة والنوم بجانب الصخور، سأل المساعد عن سبب النزول، فأجاب: "ربما ستلحق بنا الجندرما التركية لأننا ضربنا الحاجز، وفي حال أمسكوا بالسائق وهو يهرّب 'ركّاباً'، ستكون عقوبته شديدةً، لكن العقوبة لن تكون بهذا السوء إن كانت التهمة هي القيادة تحت تأثير الكحول".

رحلة "القلق"

بقي الجميع مختبئين نحو ساعة، قبل أن يناديهم السائق لاستكمال الرحلة. لكن بعد الركوب والتحرك من جديد في الطريق الترابي، اقتربت سيارة شرطة تركية على بعد نحو 50 متراً، وطلب السائق مجدّداً من الجميع النزول من السيارة والاختباء، وواصل طريقه نحو سيارة الجندرما، وتوقف بجانبها وبدا أنَّ حديثاً دار بينهم، لتعود سيارة الشرطة دون مشكلات، بينما عاد السائق لاصطحابنا قائلاً: "اركبوا، انتهى الأمر"، ليس واضحاً إن كان السائق قد نجح في خداع الشرطة، أو قام بتقديم الأموال للسماح لسيارته بالمرور.

من داخل الحافلة أثناء التنقّل داخل تركيا.

وخلال المسير في الطريق الترابي في الغابات وتحت السماء المعتمة، تفاجأنا بسيارة شرطة الحدود التركية واقفةً على الطريق الترابي، ينبعث منها ضوء قوي جداً مصمّم لسيارات حراسة الحدود، وكانت تبعد عنّا مسافة 10 أمتار تقريباً، وفيها عنصران. وعلى الرغم من أنَّ السائق خفّف سرعته بشكل كبير، ومرّ بجانب سيارة الشرطة، إلا أنّها لم تحرّك ساكناً ولم تعترض طريقنا، وهنا اتصل السائق برفيقه في السيارة التي خلفنا وقال له: "ستصادفك سيارة شرطة، خفّف سرعتك ولا ترتبك، لن يعترضوا طريقك" (هذا ما ترجمه لنا مساعد الريبر الذي يفهم اللغة التركية). 

عند الساعة السادسة صباحاً، وصلت السيارتان إلى نقطة النزول وبدأ المسير في الغابات التركية الحدودية مع بلغاريا. مشى الجميع نحو 2 كم داخل الغابة، قبل أن يأمر الريبر الجميع بالتوقّف للنوم من أجل الراحة ومن أجل انتظار الليل لاستكمال المسير. بقي معدّ التحقيق يتحدَّث مع أحد الشباب الذي سرد له قصته وكيف دمّرت الحرب الأهلية في سوريا قريته في ريف إدلب. وفي هذه الأثناء، سمع الاثنان صوت حركة قادماً من بين الأشجار، ليتبين لهما أنّه صدر عن مجموعة مهاجرين أفغان يحاولون الوصول إلى بلغاريا أيضاً.

تحدّث المهاجرون الأفغان معهما، وخيّموا على بعد 5 أمتار منهما. وبعد دقائق، سمع معدّ التحقيق ورفيقه صوتاً آخر، ثم وجدا مجموعةً أخرى تحمل العصيّ والسكاكين والزجاج المكسّر وتتجه نحوهما. للوهلة الأولى ظنّا أنَّهم مجموعة أخرى من المهاجرين، لكنهم هاجموا المهاجرين الأفغان المخيّمين بالقرب منهما وضربوا بعضاً منهم بالسكاكين وسرقوا أغراضهم. كان معدّ التحقيق قد أيقظ الريبر وبقية المجموعة قبل أن يركض هرباً من "العصابة"، إلى أن ابتعد عن منطقة الخطر، ووجد نفسه مع ستة مهاجرين آخرين من مجموعته، وقد أضاعوا البقية.

معدّ التحقيق ومرافقه قبل دقائق من هجوم "العصابة".

غيّر المهاجرون الستّة رأيهم وقرّروا العودة إلى إسطنبول بعد فقدان أثر المجموعة، ولم يعرفوا كيف يتصرفون بعد فقدانهم المجموعة وبقائهم في العراء في مكان لا يعرفونه والأخطار فيه متعددة. استخدم معدّ التحقيق هاتفه للتواصل مع سعد، الذي أوصله بالريبر، إذ شارك معه موقعه ليعثر عليهم الأخير، ثم يعثر على البقية بعد ذلك. تبيّن أنّ "العصابة" اعتدت على بعض أفراد المجموعة المرافقة لمعدّ التحقيق، واستولت على بعض متعلقاتهم بما فيها مقصّ التيل. طمأن الريبر الجميع: "هذا طريق تهريب، وسنجد فتحةً في التيل فتحها آخرون قبلنا".

مقصّ التيل وهاتف الريبر وشاحنه وحقيبته الصغيرة.

اختار الريبر نقطة تخييم جديدةً، ونام الجميع من جديد ومعهم معدّ التحقيق، ثم استيقظوا عند الغروب. قال الريبر: "كلوا طعامكم واشربوا القهوة المثلجة التي جلبتموها معكم"، ثم قدّم نصف حبّة طبيّة لكل شخص ما عدا الأطفال، وقال إنها "تساعد على السير وعدم الشعور بالتعب". اكتشف معدّ التحقيق أنها حبوب كبتاغون، وتظاهر بأنه تناولها -ولم يفعل- أمام إصرار الريبر على أن يتناولها الجميع.

نقطة التخييم في الغابات التركية.

بعدها، أمر الريبر الجميع بـ"السير والصمت"، فيما كانت الشمس قد غابت بالكامل. واصلت المجموعة السير داخل الغابة وسط الظلام، وعانى معدّ التحقيق بشكل خاص عقب فقدانه نظاراته الطبيّة التي تعلّقت بأحد الفروع الصغيرة للأشجار، ونهره الريبر مانعاً إياه من البحث عنها، لأنّ تشغيل ضوء الهاتف يشكّل خطراً على المجموعة. لذا، واصل الجميع المسير وصولاً إلى التيل، حيث جمعهم الريبر في أرض منخفضة بالقرب منه وقال: "سأبحث عن فتحة في التيل وأعود إليكم. يجب أن تعلموا أنني حالياً صديقكم وحبيبكم، لكن بعد أن نفتحه وندخل الأراضي البلغارية، سأتحوّل إلى خنزير، ولن أسمح بأيّ صوت، أو عطس، أو سعال، أو تدخين، أو توقّف أو أيّ حركة أخرى. عليكم السير فقط، ومن يخالف ذلك سأقوم بضربه أو تركه في الغابة". وافق المهاجرون واعتبروا أن هذا لمصلحة المجموعة كي لا تُمسك بهم السلطات.

وقبل أن يذهب للبحث عن فتحة في التيل، التفت الريبر إلى المرأة المهاجرة، وقال لها: "يا خالتي، لا أستطيع أخذك معنا في هذه الرحلة، لأنك لا تستطيعين المشي، وما مشيناه قليل مقارنةً بما سنمشيه بعد حتّى أنكِ لم تقاومي المشي لـ2 كم، ولا نستطيع الانتظار في الطريق، ومحطّات الاستراحة قليلة ومحدودة، ووجودك في رحلتنا يشكل خطراً على الجميع لذا ستعودين إلى إسطنبول، وسيعود معك أحد المساعدين ليرافقكِ، أنتِ مثل والدتي، ولا أستطيع أن آخذكِ معنا وأضطر إلى ترككِ وسط الغابة".

استمعت المرأة للكلام وهي تبكي بحرقة وخيبة أمل، لأنها كانت تريد الذهاب إلى أبنائها الذين كانوا قد هاجروا قبلها، ولا يستطيعون استدعاءها عبر قوانين "لمّ الشمل" لكبر سنّهم، ولا حلّ لها سوى في أن تذهب بصورة غير نظامية، وفقاً لما روته لي. مع ذلك، تفهّمت الأمر بصعوبة ووافقت على العودة إلى تركيا ومعها أحد مساعدي الريبر.

فتح الريبر التيل وعبرنا من خلاله، وهنا قال: "انطلقوا في صفّ، واحداً تلو الآخر بأقصى سرعة مشي، دون توقف وسأكون على رأس الصفّ". فانطلق الجميع داخل مساحة مفتوحة في الأراضي البلغارية، وكانت الساعة حينها الواحدة بعد منتصف الليل، وفجأةً سمعنا صوت أجراس قريبة، فأمر الريبر: "انبطحوا حالاً". بقيت المجموعة في وضع الانبطاح إلى أن تبيّن أن مصدر الصوت هي أجراس معلّقة في رقبة مجموعة من الأبقار. غيّر الريبر جهة المسير بعيداً عنها لعدم افتضاح أمر المجموعة.

لم يمرّ سوى وقت قليل قبل أن تلوح عقبة أخرى؛ الأسلاك المكهربة التي تملأ الطريق، وكانت متنوّعةً، منها ما يجب القفز فوقه ومنها ما يجب الزحف من تحته، ومنها ما يجب المرور من بينها.

كان معدّ التحقيق آخر شخص في الصفّ بسبب التعب والعطش الشديدين اللذين أصاباه، فضلاً عن صعوبة الرؤية عقب فقدانه النظّارة، لذلك تعرّض لصعقات عديدة من الأسلاك، لأنه لم يستطع ملاحظتها إلا عبر تحسّسها بيده كي يعرف كيف يتجاوزها.

بدأ التعب يسيطر عليه وعلى الجميع شيئاً فشيئاً، ولم يكن الريبر متعاطفاً أبداً مع معاناة الجميع. حمل الشباب حقيبة معدّ التحقيق كي يخفّفوا عنه ولو قليلاً. مع ذلك، بلغ ذروة التعب واستسلم وأخبرهم بأنه سينهي مسيرته ويعود إلى تركيا. لكن مساعد الريبر رفض وقام بلكمه كي "يتنشط"، قائلاً: "سأساعدك، هذا المكان خطير ولا يمكنك البقاء وحدك هنا". وافق معدّ التقرير وسار برفقة ومساعدة مساعد الريبر وأحد المهاجرين بينما واصلت المجموعة طريقها دون أن تلتفت إليهم.

بصعوبة لا يمكن وصفها، واصل الثلاثة المسير، وحمّل مساعد الريبر والمهاجر معدّ التحقيق مسؤولية فقدان أثر بقية المجموعة. حاول الثلاثة التواصل مع الريبر عبر هاتف معدّ التحقيق، لكنه لم يكن متصلاً بالإنترنت. تواصل معدّ التحقيق مع سعد، وأخبره بما حصل، فأرسل له نقاطاً محددةً على الخريطة للمشي عليها، فواصل الثلاثة المشي حتى شروق الشمس، واستقرّوا في مكان وسط الغابة، ثم ناموا.

استيقظ الثلاثة ليلاً، ووجدوا أن الريبر لا يزال غير متصل بالإنترنت، فأكملوا السير وفقاً للنقاط التي أرسلها سعد. وخلال الطريق، سمعوا صوتاً من بين الأشجار الكثيفة، فاختبأوا اعتقاداً منهم أنها شرطة الحدود البلغارية، لكن تفاجأوا بأنّ الصوت صادر عن الريبر وبقية المجموعة، فأشاروا إليهم وتوجهوا نحوهم، ليجتمعوا مرةً أخرى حيث تبيّن أنهم كانوا قد خيّموا في مكان قريب.

قال الريبر إننا لن نستطيع المسير الآن لأنّ الشرطة البلغارية منتشرة في المكان، وتبحث عن المهاجرين غير النظاميين، فبقينا في مكاننا، وكان بعضنا نائماً وبعضنا يرتجف من الخوف والبرد، وصوت أوراق الشجر الساقطة على الأرض هو المسموع، فضلاً عن صوت ارتجاف أجسادنا.

قال الريبر إننا لن نستطيع المسير الآن لأنّ الشرطة البلغارية منتشرة في المكان، وتبحث عن المهاجرين غير النظاميين، فبقينا في مكاننا، وكان بعضنا نائماً وبعضنا يرتجف من الخوف والبرد.

مع شروق الشمس، قال الريبر إنّ الوقت قد حان، ويمكن استئناف السير هذه المرّة نهاراً، لأننا اقتربنا من الوصول إلى النقطة المحدّدة حيث السيارات التي تنقل المجموعة إلى العاصمة صوفيا. وبدأ السير وصولاً إلى طريق معبّد. قال الريبر إنه ينبغي "عبوره جرياً إلى الجانب الآخر من الغابة". كان معدّ التحقيق منهكاً تماماً وعاجزاً عن فعل ذلك، وتخيّل ما قد يحل به إن حاول الركض كل هذه المسافة بهذه الحالة. لذلك، اعتذر من الجميع وتركهم يذهبون بينما حاول هو العودة إلى إسطنبول وهو يشاهدهم يركضون لعبور الطريق.

بعد ذلك، قرّر معدّ التحقيق التخلّص من المعدّات التي كان يحملها، ومن حقيبته، واحتفظ بكيس النوم فقط. تواصل معدّ التحقيق مع سعد الذي غضب جداً من الريبر لأنه سمح ببقائه عند هذه النقطة. تواصل سعد مع الريبر بدوره، فأخبره بأنّ على معدّ التحقيق اللحاق بالمجموعة، فوعد معدّ التحقيق سعداً بالمحاولة على أقل تقدير لـ"الخروج من هذه المتاهة والعودة إلى تركيا". سار معدّ التحقيق وحيداً يبحث عن قطرة مياه أو أي طعام يسدّ جوعه بينما يتبع خريطةً شاركها معه سعد. كان يمشي دقيقةً ويستريح نحو 10 دقائق إذ لم تعد قدماه تقويان على المواصلة.

كما واجهته في الطريق العديد من الصعوبات، منها العبور من خلال الأشواك واضطراره إلى تسلّق بعض التلال، التي يجب المرور فوقها ليبقى على الطريق المحدد، والخوف من الحيوانات التي كان يسمع صوتها ويلتفّ بعيداً عنها، حتّى شاهد من بعيد بقعةً غامقةً وسط حقل زراعي، فتوجّه نحوها ليتبيّن أنها بركة ماء صغيرة. ما إن وصلها حتى بدأ يشرب الماء دون اكتراث لأيّ أمر آخر.

ثم واصل السير آملاً اللحاق بالمجموعة، أو أن يحلّ الليل فيرتاح، إلى أن وصل إلى ما اعتبرها "نقطة النهاية" حيث لم يستطع إكمال المسير، وكانت بطارية هاتفه قد شارفت على الانتهاء، فاستلقى تحت شجرة، وأخبر سعداً: "أنا انتهيت"، فغضب سعد جدّاً، وأجرى اتصالاً جماعياً مع معدّ التحقيق والريبر الذي أغراه: "أريد منك العودة إلى هذا الشخص لأنه أمانة برقبتي، ورح أعطيك 500 يورو إذا عدت إليه وساعدته يرجع تركيا". وافق الريبر وقال إنه سيعود خلال 15 دقيقةً.

مضت نصف ساعة ولم يعد الريبر، فاتصل سعد بمعدّ التحقيق وحسم الأمر: "أعلم أن هذا خنزير ولن يعود، ابقَ مكانك إلى الغد، وإن لم يعد افعل أي شيء يلفت نظر الشرطة أو المزارعين كي يصلوا إليك ويساعدوك". كانت الساعة 12 ظهراً، حين أقفل معدّ التحقيق هاتفه الذي بقي فيه 5% من الطاقة، ونام. استيقظ وكان الوقت ظهراً، فظنّ أنه نام ساعةً أو ساعتين، لكن بعد فتح الهاتف، اكتشف أنها الـ11 صباحاً، وأنه نام 23 ساعةً متواصلةً.

تلاشي الأمل

قبل أن ينطفئ الهاتف تماماً، تواصل معدّ التحقيق مع زميل مقرّب له، وأخبره بما حصل، وبأنَّ احتمالية عودته "ضعيفة جداً"، ثم التقط آخر صورة له وانطفأ الهاتف بعدما أرسل محتواه وموقعه إلى زميله، وانقطعت كل الاتصالات عنه. مشى معدّ التحقيق قليلاً، فرأى من بعد مجسّماً أبيض اللون يشبه البناء، فتوقّع أنَّه منزل أو كرفان، وظل يمشي نحوه إلى أن وصل وإذ بها قرية كبيرة، قربها بركة ماء شعر بأنها من الجنّة بسبب فرط العطش.

قريباً من البركة، شاهد معدّ التحقيق شاباً بلغارياً في حديقة منزله الخارجية. نادى عليه وطلب منه المساعدة باللغة الإنكليزية لكنه لم يفهم، فاتصل بالشرطة التي وصلت بعد دقائق، ولم تفهم ما كان يحاول إخبارهم به أيضاً. كان أحد الأشخاص العابرين يجيد الإنكليزية فقام بالترجمة بين الطرفين.

أخبر معدّ التحقيق الشرطة البلغارية بالقصة كاملةً، وكشف عن هويته وسبب دخوله بلدهم، فتعاطفوا معه، وجلبوا له الماء النظيف وسندويشات الجبن الذي تشتهر بها بلادهم، ثم سألوني: "إلى أين تريد أن نوصلك؟"، فقلت لهم إنَّ مهمّتي في بلغاريا انتهت وأريد الذهاب إلى تركيا، فاتصلوا بحرس الحدود الذي أرسل سيارةً لنقلي.

وصلت سيارة حرس الحدود، ونزل منها جنود غاضبون، لكنّ عناصر الشرطة أخبروهم بالقصة فوراً فهدأوا وقاموا بتفتيش معدّ التحقيق وأخذوا منه القداحة والهاتف ثم اصطحبوه في السيارة حيث قدّموا له البسكويت المحشو وقنينة ماء كبيرة، وقاموا بشحن الهاتف وطلبوا منه فتحه، لكنه أخبرهم بأنه هاتف صديقه واحتفظ به ولا يعرف رمز فتحه.

وصلت السيارة إلى مكان قريب من الحدود التركية، وأنزلت معدّ التحقيق الذي ركب من جديد في سيارة زيل (وهي سيارة نقل كبيرة عسكرية معروفة باستخدام حرس الحدود البلغاري لها)، حيث وجد ثمانية مهاجرين شباب جميعهم سوريون، من دير الزور وحلب والدرباسية، قُبض عليهم عند حدود صربيا وعاد بهم حرس الحدود نحو تركيا. كانوا خائفين جداً ويمزّقون المناميات (المصنوعة من الجلد والقماش الخشن)، ويلفّونها على أجسادهم. وقال أحدهم: "نحن من مجموعة اسمها مسافرون بلا حدود، نتجمّع ونمشي على الخرائط من دون مهرّب، وكثيراً ما جئنا إلى هذا الطريق وقُبض علينا… بعد شوي لمّا نوصل الحدود رح يضربونا، ويجبرونا ننزع ملابسنا وأحذيتنا ويهدّوا علينا الكلاب البوليسية مثل كل مرّة، وبعدها يزتّونا بتركيا".

طمأنهم معدّ التقرير وأخبرهم بأنّ هذا لن يحدث. فردّ أحدهم: "أنت ما بتعرف لأن أول مرّة تجي". بعد القيادة على طرق ترابية، وصل الجميع إلى الحدود، وأنزل الجنود المهاجرين دون اعتداء، بل صافح أحدهم معدّ التحقيق وودّعه. وفتح الجنود بوابة التيل الكهربائية، وأدخلوهم إلى الأراضي التركية. كان المهاجرون الشباب فرحين ومتفاجئين لأن الحرس لم يعتدوا عليهم هذه المرّة. بالتأكيد لم يدلّ هذا على رأفة شرطة الحدود البلغارية مطلقاً حيث كانت مئات الحقائب والملابس والأحذية مكوّمةً على شكل تلال بالقرب من بوابة التيل.

بعدما دخل المهاجرون الأراضي التركية، طلب معدّ التحقيق من المهاجرين ألّا يتركوه وحده لأنه متعب جداً، فتعهّدوا له باصطحابه معهم. مشى الجميع، لكنه عجز عن مواكبة خطاهم، فقاموا هم أيضاً بتركه وسط الغابات التركية.

معدّ التحقيق يعاني الإرهاق في إحدى مراحل الرحلة.

عاود معدّ التحقيق المشي وحيداً، إلى أن وصل إلى مكان فيه طواحين هوائية ضمن منطقة معبر حمزة بيلّي، قبل أن يستسلم وينام في مكانه بعد أن استنزفت قواه تماماً. لكنه استيقظ فجأةً على صوت أذان صلاة من بعيد، فوقف وإذ به يرى قريةً بعيدةً جداً، فاستجمع قواه وتوجّه نحوها، وعندما وصل وجد مجموعة سيارات أخبره سائقوها بأنه يمكنهم نقله إلى إسطنبول مقابل 100 دولار. فوافق على العرض وصعد إحدى السيارات وتواصل من هاتف السائق -بعدما أخذ الجنود البلغاريون هاتفه- مع سعد الذي كان قد سجل رقم هاتفه على ورقة خبّأها في ملابسه.

فرح سعد لأنّ معدّ التحقيق بخير، وعندما وصل بعد ساعات، قام بالاستحمام وتبديل ملابسه ليكتشف أنَّ جسده مغطى بالدماء والجروح بسبب الأشواك والأغصان التي أصابته، وعندما بدأ بتناول أول لقمة من الطعام، لم يستطع ابتلاعها أو مضغها، كما شعر بانفجار حين نزلت إلى معدته، من أثر الجفاف والنقص الغذائي الذي أصابه.

في اليوم التالي، استيقظ معدّ التحقيق صباحاً في شقّة سعد، التي كان قد وصلها الشاب المهاجر الذي كان مفقوداً، وكان سعد ورفاقه ومجموعات فيسبوك يبحثون عنه في غابات بلغاريا دون أخبار عنه.

العثور على الشاب السوري المفقود.

قال سلام، قريب سعد: "هذا أحمد*، كان ضائعاً، وتبيّن أنّه تاه في الغابات 5 أيام، تركه رفاقه من دون ماء ولا هاتف ولا طعام، وبعد 5 أيام أتت به مجموعة من المهاجرين الذين قُبض عليهم في بلغاريا، وهم عائدون إلى تركيا، رأوه وحملوه معهم إلى تركيا، وعاد إلى إسطنبول منهكاً، وضعيف البنية". احتفت مجموعات فيسبوك الخاصة بالمهاجرين بعودة أحمد سالماً.

كان أحمد في حالة مأساوية يصعب وصفها. لم يكن يستطيع الحديث، أو الأكل، أو الحركة، بل كان نائماً طوال الوقت، وكانوا يجبرونه على أكل ملاعق محدودة من الشوربة من أجل العلاج، واستمر على هذه الحالة لسبعة أيام تقريباً، ليستعيد صحته بعدها شيئاً فشيئاً، ويروي قصته وما حصل معه في رحلة الهجرة غير النظامية، لرصيف22.

يقول أحمد: "في 2018، اقتحم النظام السوري قرانا، فتركنا بيوتنا وأراضينا وكل شي خلفنا، ونزحنا منها جميعاً نحن قبيلة الموالي، وبعد النزوح صبرنا أكثر من سنة كي تعود الأمور إلى مجاريها وتُحلّ، لكنها لم تفرج وضاقت علينا، اعتقلتني جبهة النصرة، واستولت على كل ما أملك. ودفعت نحو 40 ألف دولار للخروج من السجن بعد الإهانات والضرب. وبعد الخروج بشهرين، دهمتني سيارتان وأطلقتا عليَّ الرصاص، لكنني استطعت الهرب وتركت إدلب، وذهبت إلى منطقة الباب التابعة لحلب وكان يسيطر عليها الجيش الحر. سكنت وحيداً لمدة عام بلا عمل، وكانت جبهة النصرة قد استولت على كل ما أملك، ولم يبقَ أمامي غير السفر، فقرّرت الهجرة إلى ألمانيا".

ويتابع: "غادرت سوريا أواخر عام 2022، إلى تركيا، وحاولت الهجرة عبر طريق بلغاريا، لكن مسكتني الشرطة التركية في المحاولة الأولى، وبسبب عدم امتلاكي أوراقاً ثبوتيةً وإقامةً، اعتقلتني وأودعتني السجن ستة أشهر في مخيم مرعش. حين ضرب الزلزال تركيا، في آذار/ مارس 2023، استطعنا الهرب من المخيم وبقينا في الغابات 3 أيام هاربين، وبعدها وصلت إلى إسطنبول برفقة أصدقاء من قريتي في إدلب، وقررنا تكرار محاولة الهجرة معاً. بالفعل انطلقنا ضمن مجموعة من 26 شخصاً، لكنني تعبت في أول يومين للرحلة بسبب المشي، وقلت لهم إنني لن أستطيع المواصلة. أصرّوا عليّ لأتابع السير لكنني لم أستطع فاستأنفوا رحلتهم".

"حالياً، أصبح الأمر اتّجاراً بالبشر ولم يعد تهريباً بالمفهوم السائد سابقاً، إذ إنَّ المهرّب يرى المهاجر 2،000 أو 3،000 دولار، لا إنساناً. يتعرّض المهاجرون للضرب كثيراً أحياناً لمجرد الانتقام من المهرّب المسؤول عن تهريبهم لأنه لم يمنح الريبر أمواله، أو عندما يكون الريبر قد تناول جرعةً من المخدرات ومزاجه سيئ أو منزعجاً من كثرة عدد 'الركاب'، أو لمجرد أنّ 'الركّاب' لا يمشون بسرعة ويتكلمون في الطريق"

يوضح أحمد: "تركوني بالفعل في غابات بلغاريا عند النقطة 79 (نقاط مرقّمة على الطريق العام)، دون أكل أو شراب أو أي شيء يساعدني على الحياة. نمت ساعتين، وأفقت وأنا أشعر بالصداع ولا أعرف الجنوب من الشمال، وصرت تائهاً في الغابات مدة خمسة أيام، أركض هنا وهناك، والدنيا تمطر بغزارة. كنت أشرب ماء المطر، وحاولت أكل العشب، وفي اليوم السادس بدأ النزيف يجري من أنفي ولم يتوقف. وفي الساعة 12 أو 1 ليلاً، بدأت أتخيّل ابني عبد الرحمن أمامي. أناديه يا عبد الرحمن تعال، لكنه كان يضحك ويهرب".

"في النهار السابع قلت لنفسي يجب أن أخرج من هذه الغابة، وبدأت بالزحف على يديّ ورجلَيّ، فوصلت إلى طريق عليه أثر سيارة، فنمت على هذا الطريق"، يردف أحمد الذي لا يتذكر الكثير من تفاصيل هذه الفترة التي اختلط فيها الواقع بالخيالات الناجمة عن تردّي وضعه الصحي والنفسي. لكن يتذكّر أنه استيقظ من إحدى الإغماءات ليجد نفسه عارياً وقد صُبّ عليه الماء ليستفيق على ما يبدو ومن حوله سيارات الشرطة البلغارية.

يستطرد: "في حالتي، كان يجب على الشرطة البلغارية أن تأخذني إلى مستشفى في بلغاريا، لكنها أخذتني عند الواحدة ليلاً وألقت بي داخل الحدود التركية حيث صادفت مهاجرين من حلب، قُبض عليهم أيضاً، وحملوني على أكتافهم من أمام الشرطة البلغارية، ووضعوني في جورة (حفرة) داخل الأراضي التركية وأكملوا مسيرهم. بعدها جاءت مجموعة شباب من عفرين وإدلب ودير الزور، فحملوني وأوصلوني إلى السيارات التي تعيد المهاجرين إلى إسطنبول، حيث نُقلت إلى المشفى وبقيت 10 أيام تحت الرعاية الطبية ومنها إلى منزل قريبي سعد".

بقي أحمد، عند سعد، خلال فترة التعافي (مدتها شهر تقريباً). يقول لرصيف22: "عانيت بسبب معدتي التي لم تعد تحتمل الأكل بعد نحو 10 أيام من الجوع المستمر. عشت على الشوربة والمغذّيات. وبعد التعافي، قلت لنفسي ليس لديّ حل وسط؛ إمَّا العودة إلى سوريا أو الوصول إلى ألمانيا، فذهبت من جديد لكن هذه المرة عبر شاحنة، من تركيا إلى بلغاريا ثم إلى رومانيا، وبقيت في رومانيا 35 يوماً، وبعدها حاولت الذهاب إلى ألمانيا. لكن كل محاولاتي فشلت وكانت السلطات تمسك بي إلى أن حاولت الخروج من خلال صندوق العدّة الخاص بالشاحنة. كانت الرحلة صعبةً جداً واستمرت 24 ساعةً، إذ اختنقت في الطريق وانقطع نفسي مرّتين، لكنني نجوت ووصلت، وكلفتني الرحلة بالكامل نحو 12 ألف يورو، والآن أنا في ألمانيا".

لا يمكن تعميم تجربة معدّ التحقيق أو تجارب أحمد المتكررة على كل رحلات الهجرة غير النظامية البرية التي تنطلق عبر الأراضي التركية إلى أوروبا. فكل رحلة لها ظروفها ومعطياتها، ويختلف كل مهرّب عن نظيره في طريقة الهروب وترتيب الرحلة. حتّى نتائج هذه الرحلات قد تختلف، فمنها ما ينتهي بالمهاجر في وجهته المنشودة، ومنها ما يعيده إلى نقطة الصفر وربما ما هو أدنى. احتمال عدم النجاة وارد أيضاً، وحوادث الإهانة والتعذيب والترويع والضياع واردة بقوة، في حين أنّ الاستغلال والسرقة والاحتيال مؤكدة ومتكرّرة.

إلى ذلك، تكشف تجربة معدّ التحقيق، وتجربة أحمد أيضاً، المعاناة التي يعيشها المهاجرون غير النظاميين منذ اتخاذ قرار المغامرة والمخاطرة بحياتهم وأموالهم، والبحث عن المهرّبين والتواصل مع أحدهم، ودفع المال والذهاب في الرحلة، والمعاناة التي لا تقلّ مشقةً ورعباً خلال طريق الهجرة الذي تتخلّله أخطار في مقدمتها "الحيوانات"، و"العصابات والمافيات" وعنف السلطات الأمنية، وخطر التيه في الغابات، والجوع، والجفاف.

كما تكشف عن مؤشرات تساهل السلطات أحياناً في دول مسار الهجرة هذا مع المهرّبين، والمبالغ الطائلة التي يجنيها هؤلاء المهرّبون من هذه العمليات، والتي تقدَّر أحياناً بـ127 ألف يورو للرحلة الواحدة التي تضم 15 مهاجراً على الأقل، توزّع على المهرّب الرئيسي، والريبر، ومساعديه، بالإضافة إلى تكاليف النقل المتفرّق بالسيارات، ودفع إيجارات أماكن تجميع المهاجرين. لا يمكن تحديد عدد الرحلات لأنها تعتمد على عوامل عدة منها الموسم، والطقس، والظروف التي تمرّ بها البلدان ومدى إقبال المهاجرين، ولكنها لا تزال قائمةً.

تواصل رصيف22، مع السلطات في تركيا وبلغاريا للردّ على الادّعاءات المتضمّنة في التحقيق، ولم نحصل على ردّ حتّى نشر هذه السطور.

*اسم مستعار بناءً على طلب المصدر.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

أكثر من مجرد أرقام

نظراً إلى الحروب والأزمات الاقتصادية والكوارث الطبيعية، شهد العقد الماضي تشريد ملايين الأشخاص في منطقتنا.

سواء كانوا نازحين داخلياً، أو اضطروا إلى عبور القارات بحثاً عن منزل جديد، فإن الأشخاص الذين تم تشريدهم غالباً ما يتم تمثيلهم على أنهم أرقام ثقيلة العبء في وسائل الإعلام.

نحن مهتمون بقصصهم الشخصية. نؤمن بأن وسائل الإعلام لديها واجب تسليط الضوء على الكرامة الإنسانية، لا التقليل منها.

Website by WhiteBeard
Popup Image