شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!

"الشاهدة"... فيلم إيراني يتوسل بالجريمة لتصوير التحولات والمصائر

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة نحن والحريات الشخصية

الخميس 5 ديسمبر 202401:07 م

حتى لو كان فيلم "الشاهدة" من إنتاج ألمانيا والنمسا فإن كل مشهد يكفي للدلالة على إيرانيّته. قوة الأفلام تتمثل في عمق أبعادها الإنسانية، وخصوصية بيئتها، وطبائع حمولاتها الثقافية بالمعنى الشامل، لا النخبوي، لاصطلاح الثقافة كأسلوب حياة. ولا يحتاج المشاهدون إلى معرفة جنسية هذا الفيلم الذي أخرجه الإيراني نادر ساعي وَر، وإن دارت أحداثه في متن، وعلى هامش جريمة قتل يحدث مثلها في أي مكان، إلا أن ما يطرحه الفيلم، بالهمس والخفض المتعمد لدرجة توتر الحوارات، يتهم السلطة السياسية التي ينتمي إليها الزوج القاتل، كما يدين قهراً اجتماعياً يتسلط على خيارات الأفراد، ويحدد بقوة السلطة ما يجب أن يلبسوه، وما لا يجب.

فيلم "الشاهدة" كتبه ساعي وَر بالاشتراك مع المخرج جعفر بَناهي، وعرضه مهرجان القاهرة السينمائي الدولي في الدورة الخامسة والأربعين (13ـ22 تشرين الثاني/نوفمبر 2024)، خارج المسابقة. الشاهدة هي تَرلان (الممثلة مريم بوباني)، معلمة الرقص المتقاعدة، رمز الجيل الذي شهد إيران قبل الثورة، وفي الفيلم جيلان تاليان، جيل الوسط تمثله ابنتها بالتبني زارا، والجيل الأصغر تمثله غزال (الممثلة غزال شجاعي) ابنة زارا.

لا ألغاز يسعى الفيلم إلى حلّها، هناك قاتل وقتيلة، وبينهما شاهدة تصرّ على القصاص من قاتل يتسلح بمنصبه الحكومي، ويخبرها بأن أحداً لن ينصت إليها، ثم يهددها إذا تمادت في اتهامه بالقتل

جيل الوسط ضحية، كبر مع صعود قبضة الثورة؛ ضحّى بالحرية واحتمل ومات قبل التغيير. والجيل الذي تمثله الشابة غزال شهد إجهاض الثورة الخضراء عام 2009، ويتفاعل مع عالم مفتوح، ويواصل الحلم بالحرية حياةً وغناءً وتفاؤلاً، وهكذا ينتهي الفيلم بأغنية "وشاحك".

معظم مَشاهد الفيلم ليلية، في أماكن ضيقة، مغلقة تدعو إلى الشعور بالانقباض. ترلان شريكة في معظم المشاهد، في السجن تزور ابنها سالار (الممثل عباس إيماني)، ومع سالار في البيت الضيق. وفي المشاهد الخارجية النهارية تُغلق السيارة على الأشخاص، ترلان وصولت (الممثل نادر نادربور) زوج زارا. وقبل هذا المشهد تتوقف زارا وترلان بالسيارة، فتسارع موظفة تراقب النساء في الشارع، تتحرى الانضباط والالتزام بما يعتبرونه "الأخلاق"، تأمرها بتغطية شعرها؛ لأنها تثير شهوة الرجال. زارا مهمومة بزوجها المتسلط فلا تبالي بالنصيحة التحذيرية، فتهددها المرأة باستدعاء الشرطة، لخروجها على القانون، لولا أن ترلان تدرك العواقب، فتقول إن زارا بأزمة نتيجة سفر زوجها إلى الخارج.

ملصق فيلم "الشاهدة"

السم الذكوري في الفيلم، وفي ظل حكومة تقول إنها إسلامية، أشبه بمرض عمومي يشمل الزوج القامع لزوجته، ويتسرّب إلى نساء منهن المسؤولة عن حجاب النساء، لعلها موظفة حكومية متحمسة لتقديم كشف إنتاج، أو متطوعة ترشد الشرطة إلى تمرد خصلة شعر تفتن رجالاً يكتسبون حق التلصص على امرأة في سيارتها، وحق الفتنة بالنساء، ولا يغضّون البصر.

من العبث مشاركة نساء في سلوك سلطوي قاهر للنساء، يؤكد نفاقاً دينياً واجتماعياً، فليس في كشف الشعر أزمة، والقضية تخصّ الإخضاع لقانون لم يشاركن في وضعه، ولم يُستشرن في الرضا عن تطبيقه. يكفي وشاح على مؤخرة الرأس، غطاء رمزي لبعض الشعر، لمنح السلطة نشوة الانتصار.

فيلم "الشاهدة"

تفاصيل الفيلم دالة على حصار نفسي وبصري. يبدأ بترلان وسط مجموعة من النساء، في قاعة مغلقة، تبدو المرأة قوية الشخصية رغم تقدم السن، تتحدى الإظلام في مسرح سرّي تؤدي فيه غزال رقصات تعبيرية. القاعة خلفيتها قاتمة، والقتامة إذا لم توجد اصطنعها سولات الثري الذي يحاصر زوجته، فيسدل الستائر ويغلق النوافذ في البيت، ويتمادى فيضرب زارا، ثم يقتلها، وتعرف ترلان بالمصادفة من دون أن تتأكد. دخلت ورأت شبح جثة. فيقول لها سولات إنها جثة رجل كانت زارا على علاقة به. لكن زارا لا تظهر، وبعد الدفن يبدأ التحدي أمام ترلان، العجوز العنيدة التي لا تريد لسيرة ابنتها بالتبني أن يمسّها تشويه.

لا ألغاز يسعى الفيلم إلى حلّها، هناك قاتل وقتيلة، وبينهما شاهدة تصرّ على القصاص من قاتل يتسلح بمنصبه الحكومي، ويخبرها بأن أحداً لن ينصت إليها، ثم يهددها إذا تمادت في اتهامه بالقتل.

مِن المَشاهد الأولى، تبدو ترلان وحدها في مواجهة العالم القاسي، وحدها تتأذى من الفئران في الشقة الصغيرة، وصاحب البيت يعدها بالتخلص من الفئران ولا يفعل، يتقرّب إليها بإيحاءات لا تخفى على المرأة، وحين تتجاهل مودته الملغومة يُظهر وجهه الحقيقي غير المبالي بالفئران ولا بالمرأة، ويخيّرها بين سداد الإيجار المتأخر والخروج من البيت. خيارٌ أكثر صعوبة تتعرض له ترلان حين ترفض الشرطة التحقيق في اتهامها لسولات بقتل زوجته زارا.

ترلان وابنها

فيلم نادر ساعي وَر ينمّط إيران، يسجنها في لون واحد، أسود له ظلال رمادية. باستثناء المشهد الأول، في المسرح السرّي حيث تؤدي ثماني بنات يرتدين الأبيض والأحمر رقصة تعبيرية، فإن اللون الأسود يطغى... في أجواء كربلائية، وفي غرفة الزيارة بالسجن، وفي الشارع، وفي ثياب الرجال والنساء، حتى تلميذات المدارس، يبدو الأسود أكثر قتامة في شادور مسؤولة مراقبة الأخلاق، بل في ثياب ترلان نفسها وهي تعطي ظهرها للكاميرا، يأساً من العالم، وينهض أمامها جبل يسد الأفق، لا منفذ إلى العدالة، ولا سبيل إلى تحقيقها إلا بحيلة فردية، قصاص شخصي تضطر العجوز العاجزة إلى اللجوء إليه، بعد أن خذلتها سلطة تحمي أحد أفرادها.

الفيلم ينمّط إيران، يسجنها في لون واحد، أسود له ظلال رمادية. اللون الأسود يطغى... في أجواء كربلائية، وفي غرفة الزيارة بالسجن، وفي الشارع، وفي ثياب الرجال والنساء، حتى تلميذات المدارس

في نهاية مئة دقيقة، هي زمن الفيلم، يمسح عامل بمدرسة خاصة بالفتيات شعاراً مكتوباً على الجدار، لعله أمي لا يعرف القراءة؛ فلا يعي أنه يزيل كلمة "آزادي"، بمعنى الحرية، وذلك على خلفية أغنية "انزعي وشاحك" للمطرب مهدي يراحي، ومن كلماتها:

 انزعي وشاحك، فالشمس قاربت على المغيب

  انزعي وشاحك، دعي عطرك الجميل يملأ الهواء.

ترلان في الفيلم

الوشاح رمز يختزل قيماً ومعانيَ ودلالات، في فرضه بالإجبار، وفي ارتدائه اختياراً، وفي نزعه. وقد تجاوب مهدي يراحي مع أشواق إيرانيات قُدن حركة تطالب بحرية ارتداء الحجاب، فعاقبته محكمة ثورية، في كانون الثاني/يناير 2024، بالسجن والجلد، بسبب أغنية الوشاح.

سجنوا المغني، واستعصت عليهم الأغنية التي خلدت وسيخلدها هذا الفيلم.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

نؤمن بأن للإنسان الحق في التفكير وفي الاختيار، وهو حق منعدم في أحيانٍ كثيرة في بلادنا، حيث يُمارَس القمع سياسياً واجتماعياً، بما في ذلك الإطار العائلي، حيث أكثر الدوائر أماناً، أو هكذا نفترض. هذا الحق هو الخطوة الأولى نحو بناء مجتمعات ديمقراطية، فيها يُحترم الإنسان والآخر، وفيها يتطوّر وينمو بشكل مستمر. لا تكونوا مجرد زوّار عاديين، وانزلوا عن الرصيف معنا، بل قودوا مسيرتنا!/ رحلتنا في إحداث الفرق. اكتبوا قصصكم. أخبرونا بالذي يفوتنا. غيّروا، ولا تتأقلموا.

Website by WhiteBeard
Popup Image