يُنشر هذا النص ضمن ملف "لنتخيّل"، وهو ملف مفتوح يضمّ نصوصاً، مدوّنات، قصصاً، مقابلات، وتقارير صحافية، يتيح مساحة للخيال ولضرورته، سواء في تخيّل ماضٍ بديل، أو واقعٍ مختلف، أو مستقبلٍ نودّ أن نعيش فيه، أو ذاك الذي قد يُفرض علينا.
لعلّ أنجع وأغرب أساليب النقاش السياسي وغير السياسي، هو أسلوب افتراض العكس للشيء أو للحدث موضوع النقاش؛ أن تكون جاهزاً لمفاجأة خصمك بسؤاله عن الاحتمال النقيض لما لا يعجبه، أو لما يقدّم حوله مرافعةً يعتقد أنها محكمة.
يعتمد أسلوب النقاش هذا على الخيال أولاً وأخيراً، فالافتراض ليس أكثر من خيال في نهاية المطاف، أو هو شيء لم يحدث، ونحن نسعى إلى برهنة أفضليته على ما حدث فعلاً، ونعايشه ونراه ماثلاً أمامنا. لو لم يكن كذا لكان كذا… الكذا الأولى حاصلة وقائمة وموجودة، لكن من يضمن كذا الثانية؟ لا أحد. ومع ذلك فنحن نصرّ على أنها كانت ستحدث شئنا أم أبينا. وما الذي يؤكد ذلك؟ لا شيء سوى انعدام الخيارات الأخرى، أو فاعلية خيالنا وقوة حجته.
لعلّ أنجع وأغرب أساليب النقاش السياسي وغير السياسي، هو أسلوب افتراض العكس للشيء أو للحدث موضوع النقاش؛ أن تكون جاهزاً لمفاجأة خصمك بسؤاله عن الاحتمال النقيض لما لا يعجبه، أو لما يقدّم حوله مرافعةً يعتقد أنها محكمة. يعتمد أسلوب النقاش هذا على الخيال أولاً وأخيراً...
أدرتُ نقاشاً قبل مدة مع شخص من أعداء اتفاقية أوسلو، فأسهب في حججه ضدها وضد ما نتج عنها. قال إنها اتفاقية خيانية، وما أفرزته من سلطة ليس أكثر من مشروع للتنسيق الأمني مع الاحتلال. وقال إنها استثنت فلسطينيي الشتات، وألغت تالياً حق العودة. توسع بسببها الاستيطان، وتم قضم الأرض من تحت أرجلنا، ولم تمنحنا سيادةً حقيقيةً لا على القدس ولا على الموارد، ولا على مناطق شاسعة من الضفة الغربية نفسها.
أجبت: لكنها أعادت نصف مليون لاجئ إلى وطنهم، وتوّجت الشخصية الفلسطينية بجواز سفر معترف به عالمياً، وأنشأت نظاماً صحياً وتعليمياً وإدارياً متطوراً، ورفعت علم فلسطين على تسع محافظات، وأجبرت العدو والصديق على أن يعترفا بنا وبحقوقنا، ودخلنا بسببها إلى كل منظمات الأمم المتحدة وصرنا دولة مراقبة في الجمعية العامة، وكان بالإمكان، بنضال أكثر، أن نحصل على ما هو أكثر. وحين أردت الحديث عمن كان السبب في إجهاض مسارها، وتوقفه عند هذا الشكل من الحكم الذاتي الذي يبغضه محاوري، خطرت لي فكرة فسألته: هل تستطيع أن تتخيّل معي وضعنا كفلسطينيين، لو لم يتم اتفاق أوسلو؟ وأرجو ألا تجيبني انطلاقاً من ظروف عالم اليوم، بل من ظروف لحظة التسعينيات، ولحظة خروجنا من الانتفاضة الأولى واستنفاد كل أدواتها، من ظروف ما بعد انهيار المعسكر الشرقي واستفراد أمريكا بالمنطقة وبالعالم، ومن ظروف هزيمة العراق وانكفاء العرب. خذ بعين الاعتبار يا صديقي أنّ ما أسوقه لك، هنا، ليس تبريراً للاتفاق، بل هو لتحفيز خيالك ومساعدته على توقع ما كنا سنؤول إليه لو لم تكن أوسلو. اعتبر أنّ هذا الاتفاق لم يحصل بتاتاً، ولعن الله الخيانة ومرتكبيها والمدافعين عنها، لكن قل لي أين وكيف تتخيّلنا الآن، كشعب، لو لم يكن هناك أوسلو؟
دعكم من إجابته، وإن شئنا الموضوعية أكثر دعكم من هذا النقاش العقيم من أساسه، ودعونا نتخيل معاً ماذا لو لم يقع هجوم السابع من أكتوبر؟
أنا أيضاً أستطيع أن أتخيل ما سينتج عن خيالكم، وكيف سيقدّم إجابته الأولى، وهي بكل بساطة ودون كثير من الجهد والتفكير: كنا سنحافظ على أكثر من مئة ألف روح تم إزهاقها في مجزرة القرن الواحد والعشرين. أليس هذا هو ما سيخطر في بالكم أولاً؟ جميلة هذه الإجابة برغم ما فيها من عدد مهول من الجثث، فهي على الأقل تؤشر على أنّ الإنسان أغلى ما نملك ولو بعد أن نفقده، أي أنه أغلى ما نملك حين لم نعد نملكه. لكن برغم جمال هذه الإجابة، إلا أنها ليست خيالاً، بل هي مجرد نقيض لما حدث، فما هو الخيال الحقيقي إذاً؟
أنا أيضاً أستطيع أن أتخيل ما سينتج عن خيالكم، وكيف سيقدّم إجابته الأولى، وهي بكل بساطة ودون كثير من الجهد والتفكير: كنا سنحافظ على أكثر من مئة ألف روح تم إزهاقها في مجزرة القرن الواحد والعشرين. أليس هذا هو ما سيخطر في بالكم أولاً؟
الخيال الحقيقي هو الخيال النافع، القادر على البناء، أي على تجميع قطع الأحجية، وتالياً على التوقع. إنه الخيال الذي يقودك إلى معرفة النتيجة الممتلئة بالجثث، بناءً على رؤيتك للمقدمة الممتلئة بالسلاح والجنون، إذ لا يمكنك أن ترى دبابةً، ثم يشطح بك خيالك لتستنتج حفلاً موسيقياً، كما لا يمكنك أن تستمع إلى خطاب المجانين ولا تتوقع مذبحة قادمة.
إذاً، ليس الخيال نقيضاً للحدث، أو بمعنى من المعاني؛ ليس نقيضاً للواقع، إلا حين يكون هروباً من هذا الواقع أو عجزاً مطلقاً عن استشرافه قبل أن يصبح واقعاً. وهو ليس نشاطاً متأخراً للدماغ ليقول لنا كمن يكتشف الذرة: لو لم يحدث هجوم السابع من أكتوبر لما خسرنا مئة ألف فلسطيني، بل هو من يقول لنا مسبقاً: انتبهوا، ستخسرون مئة ألف فلسطيني. لكننا لم ننتبه، ومن لم ينتبه لا يحق له بكاؤهم قبل أن يبكي نفسه الأمّارة بالكسل، وعقله المستكين إلى التكلّس.
لماذا لم ننتبه؟ ولماذا تركنا الأمور تنزلق بنا إلى مربع التهلكة؟ لأننا نمتلك خيالاً مريضاً بالأنا لا بالجماعة، وهو خيال ناتج عن الذات وموجه إلى الذات؛ إلى عظَمتها وغرورها وكرامتها الآنية. وليس الآخر إلا موضوعاً جانبياً تبرز أهميته بمقدار ما يحقق لنا هذه العَظَمة وهذه الكرامة. والآخر المقصود هنا ليس العدو، أو المختلف عنّا فكرياً، أو حتى البعيد جغرافياً لكنه منا، بل كل ما هو ليس أنا.
نحن لا نفكر كشعب، بكل ما تحمله هذه الكلمة من مدلولات هوياتية، بل كأفراد في حيّز جغرافي واحد وأمام عدو يستهدفنا جميعاً، وربما لا أبالغ إن قلت إنّ العدو المشترك هو أسوأ عنصر من عناصر الهوية. إنه العنصر الذي نقيس تحققنا بمرآته، ونقيس مآسينا بمقدار ما يقتل منا وينتهك من إنسانيتنا، ونقيس نجاحاتنا فقط، بمقدار ما نتسبب له بأذى، حتى وإن انقلبت الأمور علينا في ما بعد.
نحن لا نفكر كشعب، بكل ما تحمله هذه الكلمة من مدلولات هوياتية، بل كأفراد في حيّز جغرافي واحد وأمام عدو يستهدفنا جميعاً، وربما لا أبالغ إن قلت إنّ العدو المشترك هو أسوأ عنصر من عناصر الهوية.
لكل ذلك، فنحن لا نتأمل ونفكر ونكتب لنمنع كارثة، بل لكي نصفها، ويا حبذا لو كان هذا الوصف شعرياً أو موسيقياً أو تشكيلياً، وليس مهماً لو اتسعت القصيدة لمئة ألف شهيد دفعةً واحدةً، أو لو ضمّت اللوحة مدينةً كاملةً من الركام، أو لو استخدمنا نحيب طفل خلفيةً موسيقيةً للفناء.
أعرف قسوة هذا الحكم، وهو بالتأكيد ليس إدانةً لأي نوع من الفنون والآداب، بقدر ما هو إدانة للاكتفاء بها واستخدامها كملحق للجريمة، وليس كوسيلة في امتحان الجدارة أو عنصر من عناصر الهوية. ولكي تكون كذلك، فعليها أن تكون أوّليةً، ابتدائيةً، ومنطلقاً لصناعة شعب، أو كما كانت قُبيل أوسلو بقليل.
أما سؤال العنوان، فلا إجابة علمية عنه، وكل إجابة ليست إلا نقيضاً لما حدث، أو ربما شبيهاً أقل قسوةً، فالمقدمات العبثية، منّا جميعاً، كانت ستؤدي إلى هناك لا محالة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.