عبثاً حاولت الكتابة أمس. خلال المحاولة، وجدتني أنحو كثيراً نحو الحديث عن الدروز منذ أن هربوا من الاضطهاد الفاطمي وأتوا إلى بلاد الشام، وكيف عاشوا مع محيطهم وتعايشوا مع حكّام المنطقة، ولاحقاً مع الدول الناشئة بعد نهاية الانتداب الفرنسي. ثُمّ شاهدت فيديو إهانة شيخ في السويداء. بدا الشيخ وكأنّه لا يعرف ما الذي يحصل له، ولا يقوى على إدراك أنّ هناك من يقوم بحلق شاربَيه وإهانته وتصوير هذه الإهانة على الملأ. سرعان ما توقفت؛ فالوقت ليس وقت الغوص في علاقة الدروز بمحيطهم، إنما هو وقت الحديث عما يحصل اليوم، وعمّا سيكون عليه الغد.
الصور والفيديوهات الآتية من السويداء وقبلها من الساحل ومناطق أخرى، لا تشي بأيّ شيء له علاقة بالدولة، ولا تؤسس بالحد الأدنى لكل ما نادى به السوريون منذ عام 2011. سقطت شعارات الحرية كلها. "الضحايا" تحوّلوا إلى جلّادين بلمح البصر، وجلّادو اليوم لم يكونوا كلهم ضحايا، أمس. ما غرسه نظام البعث على مدى عقود، عاد ليتحكم بعقلية غالبية الذين يحملون السلاح ولديهم السلطة كي يُمارسوا ما مورِس في حقّهم على مدى عشرات السنوات. الانتقام من كُلّ شيء هو عنوان مرحلة قد لا تؤسس إلا لمزيد من تدمير المجتمع السوري الذي عانى كثيراً، وعلى ما يبدو، سيظلّ يعاني.
الحديث عمّا يجري في السويداء يطول لكنه يتوقف أمام مشاهد الحقد الآتية من مناطق متفرقة من السويداء. الحقد والانتقام يولّدان حقداً وانتقاماً، والدم يستسقي الدم لا أكثر. وسط ذلك كله، يسيطر جنون رسمي على التعاطي مع ما يحصل
يطول الحديث عمّا يجري إذا ما تمّ تناوله في السياسة، إن لجهة موقف الدروز من حكومة دمشق الجديدة، أو لجهة ما تريده الأخيرة منهم. يطول أيضاً الحديث عن العامل الإسرائيلي، وتورّط بعض الدروز في هاجس حماية لن ينالوها، وإذا نالوها فستكون على حساب الكثير من المكتسبات التي حققوها، وعلى حساب انتمائهم الفكري والعقائدي والوطني، وستفتح الباب أمام انسلاخ كلّي عن الدولة السورية، سيدفع ثمنه الدروز اليوم وغداً، مهما حلّقت طائرات الجيش الإسرائيلي فوق محافظتهم، وقصفت من يهاجمهم.
لكن هذا الحديث الطويل يتوقف أمام مشاهد الحقد الآتية من مناطق متفرقة من السويداء. الحقد والانتقام يولّدان حقداً وانتقاماً، والدم يستسقي الدم لا أكثر. وسط ذلك كله، يسيطر جنون رسمي على التعاطي مع ما يحصل؛ رؤوس حامية ودعوات دينية من الغالبية الغالبة، والأسوأ أنها خرجت من شخصيات وناشطين كانوا إلى الأمس القريب محافظين على الحد الأدنى من الوعي، ومن العقل الراجح في مقاربة ما يحصل، وعدم الانجرار وراء الشارع وأفخاخه. لا عقل ولا من يعقلون. كُل شيء صار مباحاً. دعوات القتل على الجبهتين، ولا من يدعو إلى حقن الدماء أو فتح حوار، أو أي شيء يقي المدنيين شرّ المذبحة/ المقتلة.
في دمشق، كشّرت الحكومة عن أنيابها "الطائفية"، أو بالحد الأدنى تواطأت وغطّت مقاتلين هم أبعد بكثير عن أن يكونوا جنوداً في جيش وطني؛ مجموعات من المرتزقة الموتورين الذين لا يشبعون من الدمّ، والغارقين في وهم الانتقام، وفي مؤامرات زُرعت في رؤوسهم، وغذّتها سنوات الحرب بأنواع البروباغندا الدينية كافة. من يشاهد ذلك الموتور الذي قرأ "محو الأمّية" على أنها إهانة إلى بني أميّة، يُدرك تماماً إلى أيّ نوع من البشر أُعطيت سلطة فرض الأمن. من أعطاهم هذه السلطة يعرف تماماً أنه خوّلهم القدرة على القتل لمجرّد القتل، أو ربما فعل ذلك لأنه مُقتنع بأنّ ما يقومون به فرض من "الشريعة"، أو عدالة ربّانية صار هؤلاء وكلاءها الجدد!
في المقلب الآخر، طائفة تنتظر مشايخها ليُفتوا بسياستها. كبيرها، أو الذي له السلطة الأكبر عليها، لم يعرف كيف يشتري الوقت أو يقرأ المرحلة التي تمرّ بها بلاده وطائفته. لم يرَ ما جرى في الساحل، ولا كيف سكت العالم عنه. لم يرَ أيضاً التحوّل التاريخي للأكراد الذين يدركون تماماً ما يحصل من حولهم. فضّل أن يلعب على أكثر من حبل؛ أبقى الخطّ مع الإيراني، وفتح أبواب التواصل مع الإسرائيلي، فأدخل طائفته بأسرها في نفق مُظلم لا أحد يقوى على إخراجها منه. ثم عاد، بعد أن رأى "الدعم الإسرائيلي"، ليُكمل ما بدأه.
يسأل سائل: كيف يُمكن التعايش مع سلطة لا تريد التعايش بل فرض سطوتها فحسب؟ هذا صحيح، ربما تريد السلطة الجديدة ممارسة سطوتها، وتقديم نفسها على أنها الحاكم السياسي الوحيد لسوريا كلها، وفي أسرع وقت ممكن. لكن هذا لا يعفي من يعتبر نفسه حامل طائفته وحاميها في سوريا من التفكير في حياة الناس، وفي أنّ التعايش الآن، في ظلّ الموجود، قد يكون مرحليّاً جداً. أن آخذ القليل وأضمن البقاء، خير من الانتحار ومن إراقة الدماء. العقّال هم من يظهرون ساعة يكون الخيار محصوراً بين الانتحار أو البقاء والتقيّة، وسواء أحببنا الأخيرة أو لا، فلطالما مارسها الدروز، وساهمت في بقائهم في بلادهم، لا العكس. فلماذا تغيب اليوم؟
كيف يُمكن التعايش مع سلطة لا تريد التعايش بل فرض سطوتها فحسب؟... ربما تريد السلطة الجديدة ممارسة سطوتها، وتقديم نفسها على أنها الحاكم السياسي الوحيد لسوريا كلها، وفي أسرع وقت ممكن
ويسأل سائل آخر: هل يتحمّل من قرر أن يواجه، المسؤولية عن زجّ الطائفة في تحالف ضمني مع إسرائيل التي ستستغلّ شعور الدروز أو غالبيتهم بخطر وجودي، وتدفعهم ليطالبوا بأي حماية ممكنة؟ الجواب واضح. ما حصل أمس من اعتداءات إسرائيلية واسعة في سوريا يُظهر ما الذي تريده إسرائيل منها، وكيف تستغل الدروز وواقعهم، وتستغل كذلك سذاجة السلطة الجديدة لتُقسّم سوريا وتجعل من الدروز حرساً لحدودها، وتفصلهم عن وطنهم في الوقت نفسه.
في مرحلة من أشدّ المراحل حساسيةً في تاريخ سوريا الحديث، لا تطلّ إلا الرؤوس الحامية بينما تستمرّ التعبئة الطائفية على قدم وساق، وكأنّ قدر هذه البلاد أن تنحو نحو الجنون المطلق، وأن تهرول إلى الموت، وأن تُشارك الغالبية في تراجيديا ممتدة، وتشعر، إلى أي طرف انتمت، بأنها أمام موقف حاسم وتاريخي، وعليها أن تقاتل كي تبقى على قيد الحياة، وحيدةً.
بعد وقف إطلاق النار الهشّ، بدأ يتكشّف حجم الكارثة؛ المجزرة المرتكَبة بحق الدروز، النفوس المحقونة، والعمليات الانتقامية اللاحقة التي بدأت تطلّ برأسها سريعاً. وهذا كلّه مصحوب بجنون رسمي على وسائل التواصل الاجتماعي. جنون في كُل اتجاه، فيما مؤشرات كثيرة تشي بأنّ العقل قد غُيّب تماماً. محافظة بدأت تُكرّس انسلاخها عن سوريا، وطائفة غلبت وبدأت تمارس هيمنتها وسطوتها وجبروتها على الآخرين، وناسها صاروا وقوداً لكراهية لا تعرف الحدود.
هذا الواقع المأساوي مستمرّ على ما يبدو. المرحلة لا تحتاج فقط إلى بيانات واتفاقات تتناقلها الشاشات. المرحلة تحتاج إلى من يجرؤ على القبض على الجمر، فيدعو إلى التهدئة والحوار، ويقابله صاحب السلطة بدعوة إلى حكومة إنقاذ تضمّ الجميع، جميع من فعلوا هذا بأنفسهم، ليُنقذوا أنفسهم ووطنهم.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.