قضت أم ربيع خليل (55 عاماً)، أغلب حياتها وهي تحاول حماية ابنها الوحيد ومساعدته للتوقّف عن تناول العقاقير، منذ أول مذكرة توقيف صدرت بحقه، حين كان عمره 16 عاماً، بتهمة تعاطي المخدرات. بعد ذلك، وفي كل مرة كانت تحاول فيها إخراجه من السجن، كان يعود إليه بالتهمة نفسها حتّى جاوز الثلاثين سنةً من العمر، وأصبح "مدمن هيرويين داخل سجن رومية"، على حدّ قولها لرصيف22.
وسجن رومية هو أكبر سجون لبنان وأكثرها اكتظاظاً. يتكوّن من مبانٍ عدة، أبرزها المبنى (أ)، وفيه يُحتجز المدانون في قضايا جنائية بأحكام نهائية، والمبنى (ب) وإليه يُحال المتهمون في قضايا تتعلّق بالإرهاب، والمبنى الأزرق (الاحترازي)، ويُحتجز فيه المسجونون الذين يعانون من مشكلات وأمراض نفسية وعقلية، والمتعايشون مع الإيدز، بالإضافة إلى مبنى السيدات ومبنى الأحداث، ومبنى مستحدث لمحكمة خاصة بالسجن.
تروي أمّ ربيع: "كان ابني في الأصل متعاطياً بكمية خفيفة، ولكن بدلاً من إعادة تأهيله داخل السجن يُدخلون المخدرات للمسجونين لأنّ القوى الأمنية لا تستطيع مواجهتهم أو ضبطهم. أخبرني حرّاس بـ'وجود كل شيء' في الداخل. المسجون الذي يتعاطى المخدرات يجب أن يوضع في التأهيل لا مع القاتل والسارق والمروّج حتى يصبح أكثر إدماناً".
تسجيل صوتي لأم ربيع. تم تعديل الصوت بناءً على طلب المصدر.
"هناك العديد من الأمهات اللواتي يحدثونني عن الموضوع ذاته وقصصهم تشبه قصة ابني؛ أولادهم أدمنوا المخدرات داخل السجن، والمسجون كلما تأخّر ملفه داخل السجن أصبح أكثر إدماناً لأنه لا يخضع للعلاج داخله. تكفي مشاهد الأمهات عند جهاز التفتيش على مدخل السجن وهنّ يحملن الأدوية لأبنائهنّ لما يعانون منه في انتظار محاكمات مؤجّلة، والوضع المعيشي السيئ في الداخل"، تتابع الأمّ اللبنانية.
"مافيات" داخله وخارجه، وطرق تهريب مستحدثة أبرزها الدرون و"الخوبرة"… رصيف22 يتتبّع طرق تهريب المخدرات إلى سجن رومية، وشبكات المتورطين في ذلك، مع تقصّي أسباب تفاقم هذه الظاهرة، وعدم قدرة السلطات إلى الآن على وقفها
دفعت أمّ ربيع مبالغ باهظةً على ابنها الوحيد، تجاوزت 50 ألف دولار أمريكي، على مدى 10 سنوات، آخرها مقابل تخلية سبيله في 7 آذار/ مارس 2023، وعلمت به فقط خلال العام الجاري، قبل خمسة أشهر. لكنها قررت أخيراً منع الأموال عن نجلها لكيلا يشتري بها مخدرات داخل السجن.

انطلاقاً من رواية أمّ ربيع، يتتبّع رصيف22 قضية إدخال المخدرات إلى سجن رومية. وسبق أن أشارت تحقيقات وتقارير سابقة إلى ظاهرة تفشّي المخدرات في سجن رومية، بما في ذلك "تحقيق" نشره معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى، تضمّن ثلاثة مقاطع مصوّرة لعملية تصنيع المخدرات من مواد محظورة جرى تهريبها إلى داخل السجن. لكن رصيف22، في هذا التحقيق، يتتبّع طرق تهريب المخدرات إلى رومية، مع كشف المتورطين في ذلك، من داخل السجن وخارجه، وتقصّي أسباب تفاقم هذه الظاهرة، وعدم قدرة السلطات إلى الآن -على ما يبدو- على وقفها، وما إذا كانت لها حلول جذرية قابلة للتطبيق.
كيف تدخل المخدرات إلى سجن رومية؟
ردّاً على سؤال: كيف تدخل المخدرات إلى السجن؟ تروي أمّ ربيع: "عندما كان ابني مسجون أحداث، كانت تزوره إحدى الجمعيات وبحسب ما كانوا يخبرونني: كانت حبوب المخدرات توضع في السندويشات. أما حالياً، فأصبح ابني مدمن هيرويين. أحدهم في الداخل أخبرني بأنهم يُدخلون حتى الإبر إلى السجن لغرض التعاطي".
وتلفت إلى أنها، وخلال زياراتها المتكررة إلى سجن رومية عام 2024، سمعت عن القبض على ضابطَين وأربعة عناصر لاتهامهم بالمساعدة في إدخال مخدرات إلى السجن، مؤكدةً أنّ بعض الأهالي يتورّطون في إدخال المخدرات لأبنائهم المسجونين. تقول: "بعض الأهالي لا يُستهان بهم، ومنهم نساء يُدخلن المخدرات بالتنسيق مع حرّاس وعناصر داخل السجن إذ يصعب أن تمرّ على جهاز التفتيش. كما يتم خلع ثياب المرأة من الأسفل والكشف عليها".
في هذا الصدّد، ينبّه مصدر قضائي تواصل معه رصيف22، واشترط عدم ذكر اسمه لحساسية منصبه: "لا أعلم إذا كانت عملية إدخال المخدرات إلى رومية تحصل يومياً عبر العناصر، لكن يمكن القول إنّ قوى الأمن الداخلي تبذل جهوداً كبيرةً لايقاف المروّجين والعناصر المتعاونة معهم"، لافتاً إلى أنّ المسجونين باتوا يفكرون في طرق متطورة لتهريب المخدرات إلى داخل السجن، بعد كشف الطرق المعتادة مثل الطعام، مضيفاً: "الموقوف لا يستطيع أن يرى أقاربه إلا من خلف الزجاج، أي لا يستطيع لمسهم، أما المحكوم فلديه دار الزيارات العائلية ويستطيع أن يراهم وجهاً لوجه، وبرغم التدابير الأمنية يتمّ إدخال المخدرات، والمخالفات ليست أكثريتها من قبل الأهالي بل من قبل إما العناصر أو أناس لديهم صلاحية إدخال الأشياء إلى السجن، وعادةً يكون ذلك داخل الثياب، أو في الجسد أو الفم أو المؤخرة".
سجين حالي في رومية لرصيف22: "دخلت مجموعة من المخدرات إلى السجن عن طريق موظف شركة الاتصالات الذي أُلقي القبض عليه مع 13 مسجوناً وتمّ تحويلهم إلى المحكمة العسكرية".
تمكنّنا من الوصول إلى أحد المسجونين راهناً في "رومية"، للوقوف على مدى استمرار هذه الظاهرة. علي حسن، اسم مستعار لموقوف منذ عام 2023 في قضية اتّجار بالمخدرات، مع اثنين من القوى الأمنية عبر آلة موسيقية كانت متجهةً إلى خارج لبنان، وأوقِف سابقاً عام 2022 مع اثنين من الدرك وشخص ثالث في عملية تهريب مخدرات إلى خارج لبنان. يقول حسن، لرصيف22، عبر الهاتف، إنه كان شاهداً على إحدى محاولات تهريب مخدرات إلى مسجون بمساعدة عنصر أمني.
يروي: "قبل أشهر، ألقت قوى الأمن الداخلي القبض على مسجون بحوزته مخدرات من نوع 'بيبومورفين' داخل علبة دخان 'مارلبورو' في محكمة بعبدا خلال جلسة استماع. عادةً، خلال الذهاب إلى بعبدا لحضور جلسات المحكمة، يتم تفتيش المسجونين وساحة المحكمة. خلال الجلسة المذكورة، كان أحد ضباط قوى الأمن يراقب علبة دخان ملقاةً على الأرض، رماها أحد العناصر بالاتفاق مع مسجون آخر بالتزامن مع موعد جلسته. أحد المسجونين توجّه نحو العلبة والتقطها من الأرض بالفعل، فتمّ القبض عليه من قبل قوى الأمن الداخلي واعترف على العنصر الذي تعاون معه".
تكلفة هذه العلبة خارج السجن 100 دولار أما داخل "رومية"، فتناهز نحو 5،000 دولار، يلفت حسن، مضيفاً أنّ بعض الضباط والعناصر يتعاونون مع مروّجي المخدرات لأجل هذه المكاسب الكبيرة، رافضاً تزويدنا بأسماء أي من الضباط والعسكريين المتعاونين في إدخال مخدرات إلى سجن رومية خوفاً من تعرّضه للأذى.
سائق التاكسي حسين هادي (48 عاماً، اسم مستعار)، سجين حالي آخر في سجن رومية منذ 72 شهراً، في قضية سرقة وتشليح وخطف، يقول لرصيف22، إنّ غرضها كان تأمين الدواء لابنته المصابة بسرطان الدم وورم في الدماغ آنذاك، وتوفيت لاحقاً بعد رفض جهات عدة مساعدته في تأمين المبلغ اللازم لإجراء عملية تكلّف نحو 48 ألف دولار.
وعن طرق إدخال المخدرات إلى السجن، يروي هادي: "كثيراً ما تتم هذه العملية خلال نقل المسجونين إلى المستشفى حيث يدخل المسجون ويكون متفقاً مع عنصر في القوى الأمنية أو أحد الممرضين ثم يتسلّم المخدرات ويبلعها أو تتم 'خوبرتها' أي إدخالها داخل المؤخرة بعد وضعها في واقٍ ذكريّ لمنع ذوبانها. وبعد أن يصل إلى السجن، يقوم بإخراجها وتوزيعها".
في قضية مماثلة، أوقف المؤهل أول (رتبة عسكرية) "م. ن" و"م. ص" و"م. م"، على ذمة القضية في المحكمة العسكرية، التي يتحفّظ رصيف22 على ذكر رقمها، ولا تزال المحاكمة جاريةً منذ عام 2023 إثر محاولة إدخال كمية كبيرة.

من طرق الاستلام والتسليم الأخرى للمخدرات بين المسجونين، يذكر هادي: "ضمن جلسات المحاكمة في بعبدا حيث يتركون المخدرات داخل الحمامات، أو من خلال النظارة في الأسفل حيث لا يوجد عناصر من قوى الأمن بل مسجونون فقط".
"من بين من أُلقي القبض عليهم مراقب عام برتبة مؤهل أول م. ن، كان 'مخوبراً' ويخبئ كميةً كبيرةً خارج السجن على وشك إدخالها وهو مراقب عام والمراقب لا يتم تفتيشه خلال دوامه. كان هناك اتفاق بينه وبين عنصر مسؤول على الباب مهمته تفتيش العسكر والضباط في أثناء الدخول والخروج واسمه زياد ولا أعرف كنيته"، يقول لرصيف22.
ويضيف: "توجد أنواع عدة أخرى مثل باف، وكوكايين، وحشيش كبتاغون فراولة وهي مادة شبيهة بالكبتاغون تجعل المسجون يسهر لأيام عدة. كما يوجد البانسيستول والريبودريل والترامادول بديل الترامال، حيث دخلت دفعة إلى السجن عن طريق موظف شركة الاتصالات الذي أُلقي القبض عليه مع 13 مسجوناً تمّ تحويلهم إلى المحكمة العسكرية". مصدر في مكافحة المخدرات يؤكد لرصيف22، أنّ الموظف المشار إليه والذي أدخل مخدرات إلى سجن رومية جرى تحويله إلى مخفر حبيش بتهمة إدخال المخدرات ثم إلى سجن القبة وبعدها أُخلي سبيله.
بحسب هادي، فإنّ الموظف في شركة الاتصالات كان يدخل بانتظام إلى السجن لإصلاح هواتف السجن ومعه حقيبة معدّات كبيرة، وعادةً لا يتم تفتيشه أو تفتيش الحقيبة بشكل مشدّد. وفي أثناء عمله، يتم إلهاء الشاويش المشرف عليه، ويقدّم الممنوعات (مخدرات أو هواتف محمولة… إلخ) إلى المسجونين.
"قبل نحو عامين، دخل الموظف إلى السجن بشكل اعتيادي. لكن شُكّ في أمره بسبب الحقيبة الضخمة والثقيلة التي كانت بحوزته إذ كان يحملها بصعوبة. فعرض عليه الحرّاس أخذ ما هو ضروري لعمله منها على أن يساعدوه في حملها للداخل. فوافق وأغلقها بمفاتيح خاصّةً وأخذ ما يحتاجه ودخل، فقاموا بفتح الحقيبة ووجدوا في داخلها كميةً كبيرةً من الهواتف المحمولة والخطوط وكميةً كبيرةً من المخدرات فألقوا القبض عليه في باحة السجن وحققوا معه في مبنى أمن السجن وتبيّن أنه أدخل مخدرات مرات عدة.
تقول لين علي، وهي محامية لبنانية تنشط في مجال الدفاع عن حقوق المسجونين من خلال المركز اللبناني لحقوق الإنسان، وهو اسم مستعار أيضاً بناءً على رغبتها، إنّ لديها معلومات تفيد بأنّ بعض المسجونين يفتعلون إصابات جسديةً بأنفسهم للذهاب إلى المستشفى لغرض نقل المخدرات، وكذلك عن طريق الحمامات والنظارة في المحكمة.
"من خلال كفّ طبي، تتم تعبئة الأصابع بالمخدرات -حبوب حشيشة- كي لا تتحلل داخل المعدة ثم يبتلعها العنصر في معدته، لذا لا تظهر عندما يمرّ على جهاز التفتيش. لاحقاً، يسترجع العنصر هذه المواد عبر التبرّز أو الاستفراغ (القيء)".
رحلة الترويج… من الخارج إلى رومية
داخل أحياء بيروت الغربية، التقينا حسين يوسف (اسم مستعار بناءً على طلب المصدر)، الذي تعرّض للضغط من أحد أقاربه في سجن رومية لإدخال مخدرات لغرض التعاطي الشخصي. يقول لرصيف22: "المواد القليلة يتم إدخالها عن طريق عنصر أمني يبتلع الممنوعات داخل معدته. أما الكميات الكبيرة والهواتف المحمولة وغيرها من 'الممنوعات'، فيدخلها إلى السجن ضباط كبار".
ويشرح: "من خلال كفّ طبي، تتم تعبئة الأصابع بالمخدرات -حبوب حشيشة- كي لا تتحلل داخل المعدة ثم يبتلعها العنصر في معدته، لذا لا تظهر عندما يمرّ على جهاز التفتيش. لاحقاً، يسترجع العنصر هذه المواد عبر التبرّز أو الاستفراغ (القيء)".
يجزم يوسف بأنّ جميع الأسماء التي طُرحت عليه لضباط وعناصر للمساعدة في تهريب مخدرات إلى قريبه في سجن رومية، أسماء وهمية"، مضيفاً: "خلال هذه التجربة، اتّضح لي أنّ المخدرات تصل إلى كل مباني السجن، لكن لكل مبنى 'سكّته' الخاصّةً"، أي الأشخاص القادرين على إدخال الممنوعات. ويوضح أنه يتم استلام وتسليم الأموال إما عن طريق الكاش في الخارج، أو مقابل علب سجائر في الداخل.
كما يشرح يوسف أنّ عملية تهريب المخدرات لا بد أن تتم عبر مسجون لديه شخص في الخارج يجهّز هذه المواد ثم يقوم بتسليمها لـ"السكّة"، مقابل مبلغ مالي. في نهاية المطاف، استشعر يوسف مخاطر العملية، وعدل عن التورّط في إدخال المخدرات إلى قريبه.
يتطابق حديثه مع واقعة مشابهة لإدخال مخدرات إلى سجن رومية في 11 كانون الأول/ ديسمبر 2022، حيث أوقفت قوى الأمن شخصاً حاول إيصال مواد مخدرة إلى مسجون بعد استخراجها من "مكان حساس في جسمه". ولم تحدّد هوية هذا الشخص وما إذا كان مروّجاً أو قريباً لأحد المسجونين أو من الضباط والعسكريين.
ما أبرز أنواع المخدرات التي تروّج داخل السجن؟
عضو لجنة أهالي المسجونين، المحامية نيفين عمّار، وهو اسم مستعار بناءً على رغبتها حيث تتعامل بشكل شبه يومي مع أناس في سجن رومية وتخشى أن يعرقل كشف هويتها عملها الذي يشمل تنظيم الوقفات مع الأهالي للمطالبة بحقوق المسجونين وبتسريع محاكمتهم، تؤكد كلام أمّ ربيع وهادي.
وتشدّد عمّار على أنّ "المخدرات منتشرة خاصّةً في سجن القبة في طرابلس وسجن رومية. هناك الكثير من المخدرات ولكن الأكثر انتشاراً هو الكبتاغون لكن أسعاره مرتفعة، و'البيب أو بيبومورفين' وهي عبارة عن حبوب يتم تذويبها ثم حقنها عن طريق الوريد، وهناك الحشيشة. هذه المعلومات يخبرني بها أهالي المسجونين، وبعضهم دخل ذووهم في تهم غير التعاطي لكنهم خرجوا مدمنين".
يؤكد السجين حسين هادي، الشهادات السابقة بقوله إن هذه العملية مربحة مادياً للغاية حيث تباع حبة "البيب" أو "بيدرومورفين" أو "الساشيه" (الظرف وفق المصطلح الدارج في السجن)، في الخارج بـ300 دولار. أما داخل السجن، فيتراوح سعرها بين 600 و800 دولار، موضحاً أنها تُعدّ بديلاً للهيرويين وأنها منتشرة بكثرة في مبنى المحكومين حيث يوجد، وأن العديد من المسجونين أدمنوها وأنّ الأهالي يعانون بسببها. أما الحشيش، فيقول إنه متوفر بكثرة أيضاً داخل السجن لكنه برأيه "أقلّ ضرراً".
ما أسباب انتشار المخدرات في سجن رومية؟
بحسب عمّار، الأسباب عديدة، بعضها يتعلّق ببيئة السجون والنظام القضائي، والبعض الآخر بتبعات الأزمات العامة التي يعاني منها لبنان إذ تقول إنّ "هناك أشخاصاً في السجن منذ 15 عاماً لم يحاكَموا وغير مدمنين على المخدرات، مثلاً في المبنى ب هناك أشخاص منذ 20 عاماً لم يصدر الحكم الاتهامي في قضيتهم وليسوا مدمنين، في المقابل هناك أشخاص لديهم قابلية للإدمان… المخدرات يتم ترويجها ويأخذها المسجون كي ينسى وضعه. ولا يوجد فرز داخل السجون، فيوضع مروّج المخدرات مع المغتصب، ومع السارق، ومع المزوّر، وكل مسجون يتعلم من الآخر، لأنه أيضاً لا يوجد تأهيل للمسجونين، وحياتهم عبارة عن أكل وشرب ونوم وتعاطٍ".
وتشرح: "أنا في لجنة أهالي المسجونين. إجمالاً، نطالب بحقوق المسجونين، ونطالب بالعفو العام لأنّ هناك مظلوميات كبيرةً داخل السجون وأشخاصاً بلا محاكمات، خاصّةً الموقوفين الذين نسبتهم أكثر من المحكومين مع الأسف. الجلسات تؤجَّل بسبب ما يمرّ به البلد أو بسبب قلة أعداد القضاة وعدم كفاية الموظفين أو عناصر الأمن لاصطحاب الموقوفين إلى المحكمة. وهذا الوضع مستمرّ منذ ثورة تشرين الأول/ أكتوبر 2019، إلى الآن. بل ازداد الوضع تأزّماً بمرور السنوات.
من بين القضايا المؤجلة، التي تعاملت معها شخصياً، تشير عمّار إلى شخص أوقف بتهمة تعاطي المخدرات بلا محاكمة منذ 45 شهراً، في حين أنّ العقوبة في حالة الإدانة بتعاطي المخدرات تناهز خمس سنوات". يترتب على هذا العدد من المحاكمات المؤجّلة اكتظاظ في السجون وتدهور الحالة النفسية للمسجونين، وزيادة الأعباء والتكاليف على الأهالي من طبابة وأكل وشرب وأجور محامين، وفق عمّار.
من جهتها، تعتقد المحامية لين علي، أنّ الأموال والأرباح الكبيرة، بالإضافة إلى عدم وجود برامج تأهيلية للمساجين، من أبرز أسباب استمرار دخول المخدرات إلى سجن رومية. وتنبّه إلى أنّ الدولة "ليست دائماً متهمةً" وأن عناصر الأمن يعيشون "وضعاً اقتصادياً صعباً".
وتتساءل: "كم لدى العسكري من الجرأة كي يرفض إدخال المخدرات للمسجونين؟ يتم تهديده بأطفاله في حال رفض ذلك"، وتضرب مثالاً من إحدى الدعاوى التي عملت عليها لأحد العسكريين حيث أوقف بتهمة إدخال مخدرات بعد تهديده بزوجته وأطفاله، علماً أنه أخبر قوى الأمن بأنه مهدّد ولكن الأمر "لم يُأخذ بعين الاعتبار". كما توضح أنّ المسجونين في ما خصّ المخدرات فئتان؛ الفئة الأولى فقيرة ومهمّشة يتعاطى أفرادها لينسوا ما يمرّون به، والفئة الأخرى مجرمة وعقيدتها أنّ "الحبس للرجال".
مصدر قضائي يعترف
عرضنا كل ما سبق على المصدر القضائي المسؤول عن ملف السجون، والذي اعترف بتورّط ضباط وعناصر في إدخال المخدرات إلى سجن رومية، والسبب الأساسي في رأيه "المكسب المادي الكبير"، وإن تمسّك بأنها "موجودة في كل سجون العالم وهناك أشخاص يجنون الأموال ويخالفون القانون"، مذكّراً: "في أكثر من مناسبة، أوقِف عسكريون وزوّار وأفراد من عائلة مسجونين، وذات مرة أوقِف أحد الضباط، بتهمة إدخال المخدرات"، مستدركاً: "لكن ليس لدرجة اعتبار الأبواب مفتوحةً أمام هذه التجارة داخل رومية".
ويشرح المصدر القضائي: "الأزمة الاقتصادية الحادة التي بدأت عام 2019، وتفاقمت في آخر ثلاث سنوات، شكّلت حافزاً للضابط، وبدرجة أكبر للعسكري الذي لا يتجاوز راتبه 200 أو 300 دولار، في حال عُرضت عليه صفقة إدخال مخدرات من قبل المسجون بقيمة 5،000 دولار، وكان بحاجة إلى هذه الأموال مقابل علاج أحد أقربائه أو تعليم أطفاله. وهنا، ينبغي أن نشير إلى العنصر الملتزم. لكن لا يمكن أن ننكر وجود عناصر أمنية ترغب في تحقيق مكاسب ولو كانت غير محتاجة إلى هذه الأموال لأيّ ظرف".
بالإضافة إلى ذلك، يشير القاضي اللبناني إلى وضع المسجون، والذي يشكّل عامل جذب لهذه التجارة، على حد قوله، إذ يعيش فراغاً تاماً وفقداناً لحريته وضغوطاً نفسيةً وجسديةً، فيلجأ إلى التعاطي، داعياً إلى ضرورة العمل على "إصلاح المسجون بالبرامج التأهيلية داخل السجن، والمتابعة بعد خروجه حتى لا يعود إلى التعاطي، ما يتطلّب دعماً وتمويلاً وبرامج من خلال الدولة والجمعيات المعنية بالسجون"، معتبراً أنّ ضبط المخدرات ينبع من السيطرة عليها في المجتمع عموماً كخطوة ضرورية للسيطرة عليها داخل السجون.
عصابات مخدرات داخل السجن
تروي عمّار، أنّ أزمة انتشار المخدرات في سجن رومية لا تقتصر على مبنى بعينه. وتذهب أبعد بالتأكيد على "وجود عصابات كبيرة وظيفتها إدخال المخدرات وترويجها للمسجونين، بأسعار أغلى من خارج السجن بكثير. هذا يعني أنّ هناك من يساعدهم في الداخل والخارج. أعتقد أنّ هناك 'زعيماً' يؤمِّن دخول المخدرات إلى الداخل، فيما أشخاص آخرون مهمتهم توزيع المخدرات وبيعها لباقي المسجونين، ومرةً تلو الأخرى، يصبح المسجون مدمناً ويبحث هو عنها، ويفعل المستحيل كي يحصل عليها".
وفق محامية لبنانية تنشط في مجال الدفاع عن حقوق المسجونين، "القضايا الكبيرة، التي يتورط فيها ضباط، عادةً ما يتم اختيار مسجون محكوم بالمؤبد للاعتراف بالمسؤولية عنها وحملها عن مروّج المخدرات الأساسي مقابل مبلغ مالي، وتالياً يبقى المروّج الأساسي ومن أدخل المخدرات يمارسان العملية نفسها"
يتفق علي حسن مع عمّار، ويؤكد أنّ هناك "مافيات داخل رومية" طرفها الأول السجناء المروجون والطرف الآخر "عناصر وضباط يساهمون في إدخالها لهم".
عسكري سابق في رومية: هكذا تتم العمليات الكبيرة
ولا ينكر ما سبق إيلي نقولا، وهو اسم مستعار لعسكري سابق في سجن رومية تواصل معه رصيف22، ووافق على الحديث مشترطاً عدم كشف هويته. يقول نقولا إنه كان محبطاً حين علم بقرار نقل خدمته إلى سجن رومية، مضيفاً أنها كانت "بمثابة عقوبة له من أحد الضباط"، رافضاً توضيح سبب العقوبة.
ويقرّ: "داخل السجن، هناك عسكريون وضباط يأخذون رشاوى، ويساعدون في إدخال المخدرات وكل محظور آخر للمسجونين مقابل المال"، منبهاً إلى أنّ "الضباط داخل السجن لا يتم تفتيشهم ولهم مدخل خاص يدخلون منه بسياراتهم إلى السجن ومعهم تليفوناتهم، أما العسكريون العاديون فيتم تفتيشهم عند الباب الرئيسي عند الدخول والخروج".
وبينما يقول إنّ الهواتف المحمولة المهرّبة تدخل بواسطة الضباط حيث تتراوح أسعارها داخل "رومية" بين 1،000 إلى 20 ألف دولار، حسب نوعية التلفون، يضيف أنّ "العديد من الضباط أوقِفوا وجرى التحقيق معهم وطردهم من الخدمة بتهم إدخال مخدرات إلى السجن".
ويردف نقولا: "المخدرات تدخل عبر طُرق عدة بالتنسيق مع ضباط فقط. مؤخراً استُحدثت طريقة جديدة تتمثل في طائرات الدرون التي تحمل المخدرات من أوتوستراد الضبية في المتن إلى شباك المسجون في أي مبنى يكون. ضُبطت واحدة منها عام 2023، ولم يُعرف من يقف خلف هذه العملية".

يحاول العسكري السابق تبرير تواطؤ بعض العساكر في تهريب المخدرات، فيقول إنهم "قلة وسط ألف سجين في المبنى الواحد"، و"وضعهم داخل السجن يشبه حياة المسجون تماماً، لا بل يلجأ العسكري إلى المسجونين لأخذ طعامه ودخانه منهم"، متابعاً: "العسكري مظلوم داخل رومية، والسجن مخيف جداً من الداخل، هناك شبكات تربط المسجونين ببعضهم بعضاً، والمخدرات تدخل بكميات كبيرة والهواتف كذلك". كما يلفت إلى أنّ العلاقات تحمي بعض الضباط المعروفين بتعاونهم مع مسجونين في إدخال مخدرات أحدهم يُدعى "م. ي"، و"كان يُدخل مخدرات وتم نقله من سجن رومية، قبل سنوات عدة ولم يُفصل أو يحاكَم". ويتحفّظ رصيف22، على ذكر اسم الضابط كاملاً إذ لا يتوافر لدينا الدليل القاطع على ادعاء المصدر.
كيف تمرّ عن التفتيش؟
تتعجّب عمّار، من مرور المخدرات إلى الداخل برغم إجراءات التفتيش القياسية، والتي تشمل التفتيش الجسدي، وخلع النساء ملابسهنّ، حتى أنّ بعض النساء اللواتي يثرن الشكوك يتم تفتيشهنّ نسائياً خاصةً 'الأعضاء التناسلية'". لذا، لا تستبعد "تواطؤ بعض الفاسدين في قوى الأمن".
أما نقولا، فيذكر "طريقةً أخرى مستحدثةً لنقل كميات المخدرات الكبيرة وتتم عبر سيارات الضباط المتعاونين حيث يدخل الضابط بسيارته إلى أي مبنى دون تفتيش. وبذلك، ينسّق الضابط مع رتب أقل منه تكون مسؤولةً عن حراسة المبنى أو الدور. وبهذه الطريقة، يُنقل الكبتاغون في علب عصير الأناناس الكرتون. أما المشروبات الروحية ومنها الفودكا، فتوضع داخل غالونات المياه (الكولر)، بدلاً من المياه". ويواصل: "العسكري يُكشف على الفور إلا في حال كان هناك تعاون مع بعض المسؤولين والضباط لأنه يتم تفتيشه عند دخوله وخروجه".
في قضايا عدة تتعلق بتعاطي المخدرات وترويجها، قضى جورج ميشيل (36 عاماً، اسم مستعار)، تسع سنوات في سجن رومية قبل أن يغادره مؤخراً. يقول لرصيف22: "توجد طرق جديدة عديدة لإدخال المخدرات إلى السجن، أحياناً بواسطة عساكر، تُنفّذ بأوامر من ضباط كبار، حيث يستطيعون الدخول والخروج إلى السجن في أوقات محددة لا يتم التفتيش خلالها لأنّ جميع العساكر يتم تفتيشهم مرةً واحدةً في بداية الدوام. أما في أثناء الخدمة، فيستطيع أيّ منهم الخروج بحجة جلب الطعام أو تناوله ولا يتم تفتيشه ثانيةً".
يتابع ميشيل: "خلال محكوميتي، كان هناك مسجونون يبيعون مخدرات داخل رومية وكنا ننتظر 'الضرب' بدخولها إلى السجن من قبل عساكر لا أعرف أسماءهم. لكن، كانت هناك أوقات تدخل فيها المخدرات بانتظام وأوقات أخرى لا يدخل فيها أي شيء"، في إشارة إلى وجود ضباط وعساكر متواطئين وآخرين صارمين. ويردف: "أحياناً، كنا نستدين المخدرات من المسجونين مقابل دفع الأموال لاحقاً. كان هناك دائماً مسجون يبيع المخدرات داخل رومية لصالح مروّج أكبر داخل السجن أيضاً حوّل قسماً من غرفته لبيع المخدرات، والجميع يشتري منه وكأنه يمتلك دكاناً له زبائنه ويسجّل 'على الدفتر والقلم'".
عقوبات مشدّدة
على فترات متباعدة، تكشف السلطات اللبنانية عن محاولات إدخال مخدرات إلى "رومية"، وتُعلن عن بعض الأحكام المشددة ضد المتورطين فيها. على سبيل المثال، أدانت المحكمة العسكرية سيدةً بالأشغال الشاقة ثلاث سنوات لمحاولتها إدخال مخدرات إلى السجن، وحكمت بالأشغال الشاقة خمس سنوات على رجل أُدين بتحريضها على هذا الفعل، فضلاً عن غرامتين بلغتا 5 و6 ملايين ليرة على الترتيب.
لكن السلطات لم تذكر ملابسات وتفاصيل هذه المحاولة، وما إذا كان أيّ من عناصر الأمن متورطاً فيها.


في هذا السياق، ترفض المحامية لين علي، المزاعم الرسمية بأن بعض الأهالي يتورطون في محاولة إدخال المخدرات دون مساعدة من ضباط أو عناصر أمنيين.
وتلفت علي إلى أنه "داخل المحكمة العسكرية، تُعقد العديد من الجلسات لضباط وعناصر متهمين بإدخال المخدرات إلى رومية، وعادةً ما يتم إيقافهم في المبنى الاحترازي في رومية حيث يوضع الأشخاص الذين يحتاجون إلى حماية".
لكنها لا تنكر تورط أهالٍ -بل استخدام نساء تحديداً أحياناً تحت ضغط الظروف الاقتصادية السيئة أو تحت التهديد من الابن أو الأخ أو الزوج أو الأب المسجون- في تهريب المخدرات إلى داخل السجن. تشرح: "من طرق التهريب المتبعة، توضع المخدرات داخل كيس في ملابس النساء أو داخل أعضائهن التناسلية. عادةً ما تكون الكمية بسيطةً للتعاطي الشخصي. وعند لقاء المسجون، ترمي السيدة كيس المخدرات من خلف الزجاج في مكان معيّن مُتفق عليه. ولاحقاً، يمكن للمسجون الحصول عليه خلال تنظيف السجن. أعتقد أنّ هذه الطريقة تتطلب تعاون أحد عناصر الأمن أيضاً".
"أما القضايا الكبيرة، التي يتورط فيها ضباط، عادةً ما يتم اختيار مسجون محكوم بالمؤبد للاعتراف بالمسؤولية عنها وحملها عن مروّج المخدرات الأساسي مقابل مبلغ مالي، وتالياً يبقى المروّج الأساسي ومن أدخل المخدرات يمارسان العملية نفسها"، تتابع لين في حديثها إلى رصيف22، بينما تشدّد على أنه لا تهاون في هذه الجرائم لدى اكتشافها حيث أن كل الجرائم التي تحصل داخل السجن من اختصاص القضاء العسكري.
تسجيل صوتي للمحامية لين علي. تم تعديل الصوت بناءً على طلب المصدر.
مصدر أمني: العملية منضبطة
لم نكتفِ بالشهادات والدلائل التي رأيناها. تتبّعنا أكثر محاولين الوصول إلى الوثائق والأرقام حول عملية إدخال المخدرات إلى داخل سجن رومية وتورّط مسؤولين وعسكريين في الاتّجار بها، والحصول على شهادات توثّق القصة من أطرافها كافة.



مصدر في قوى الأمن الداخلي، فضّل عدم ذكر اسمه، زوّد رصيف22 بما يتوفّر لديه من أعداد الموقوفين والمحكومين في قضايا ترويج المخدرات والاتجار بها منذ عام 2021، لافتاً إلى أنّ هذه الأعداد متفاوتة ولم تنخفض بشدّة خلال العام 2025 كما قد يبدو من الرسم، إنما هي فقط حتى الشهر الأول من السنة.
مع ذلك، لا تتوافر لدى قوى الأمن الداخلي، حسب المصدر، أرقام دقيقة لأعداد الضباط والعسكريين الموقوفين في جرائم تتعلق بإدخال المخدرات إلى سجن رومية، موضحاً: "هناك أناس يصعب إثبات تورطهم في ترويج المخدرات داخل السجن. على سبيل المثال، قد نلقي القبض على 10 أشخاص، فيتم الاستغناء عنهم من قبل التاجر الأساسي الذي يجدّد شبكته للترويج باستمرار، فيما هؤلاء الأشخاص لا يُرشدون إلى هذا التاجر".
شاركنا ما لدينا من شهادات مع المصدر الأمني، لكنه تمسّك بأنّ عملية إدخال المخدرات إلى سجن رومية أمر صعب، مع الإقرار بأنّ بعض الأهالي يحاولون تهريبها إلى ذويهم في وجبات الطعام والسندويشات التي يرسلونها إلى داخل السجن، مؤكداً أنّ هكذا محاولات يتم ضبطها.
وفيما يشير إلى أنّ سجن رومية مختلف عن بقية النظارات والسجون، إذ توجد فيه ماكينات خاصّة لكشف الممنوعات مقارنةً بباقي السجون التي تعتمد على التفتيش اليدوي، يردف المصدر الأمني بأنّ "أي شخص يتعاطى داخل السجن تتضح أعراض التعاطي عليه فوراً ويوضع تحت المراقبة ويتم التشديد عليه".
تعقّب المحامية لين علي، من واقع زياراتها المنتظمة إلى سجن رومية، بأنّ "رواية أنّ السكانر الموجود داخل رومية يمنع دخول المخدرات ضعيفة، لأنّ الجهاز ليس حديثاً وغير قادر على كشف جميع المواد مثل ما يوضع منها في الأعضاء التناسلية. فضلاً عن ذلك، الكميات الكبيرة يتورّط عناصر وضباط وربما المسؤول عن السكانر نفسه في إدخالها". إلى ذلك، تقدّر علي، أنّ أكثرية المتورطين مدنيون، بما يعادل 60% من المدنيين و40% من العسكريين، وفق محاضر التوقيفات التي عملت عليها.
"إدارة السجون لا ينبغي أن تكون مسؤولية وزارة الداخلية"
يرفض وزير الداخلية اللبناني بين عامي 2008 و2011، زياد بارود، "المبرر الاقتصادي" لتورّط عناصر أمنية في إدخال المخدرات إلى "رومية"، كما يرفض الادعاءات بأنّ "السجون لا يمكن ضبطها"، مشدداً: "لو كان هناك قرار بهذا الأمر لضُبطت".
وتعود أزمة انتشار المخدرات في سجن رومية إلى مشكلات عدة، بحسب ما يقول لرصيف22، فعلى المستوى الإداري والأمني، لا ينبغي أن تكون وزارة الداخلية الجهة المعنية بالإدارة الداخلية للسجون بل وزارة العدل"، كون العناصر غير مؤهلة لذلك.
الوزير الأسبق زياد بارود متحدثاً لرصيف22 عن أسباب تفشِّي المخدرات في سجن رومية.
يوضح بارود، أنه خلال وجوده في المنصب، عام 2009 تحديداً، كانت هناك خطة لنقل إدارة السجون إلى عهدة وزارة العدل، بدعم من مكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة UNODC، في غضون خمس سنوات، مضيفاً أنّ الخطة لم تكتمل بعد تغيّر الحكومة.
يشرح: "لديّ قناعة بأنّ السجون ينبغي أن تكون مراكز إصلاح، والتوقيف الاحتياطي (للمسجونين) يبدأ من القضاء، وحكم الإدانة يبدأ من القضاء، لذلك ينبغي أن تكون إدارة السجون الداخلية مسؤولية وزارة العدل فيما تقتصر مسؤولية قوى الأمن على حماية وتأمين السجون من الخارج… إدارة السجون بالطريقة التي هي عليها اليوم تساعد وتساهم في تفاقم ظاهرة إدخال المخدرات إلى السجون مع عامل لوجيستي مساعد آخر هو عدم توافر أجهزة السكانر (التفتيش) وإذا وُجدت تكون معطّلةً".
ويستطرد بارود بأنّ التفتيش في السجن مرّ بمراحل عدة، فكان في بعض الأحيان "ممتازاً وكانت تُضبط كل المخدرات التي يحاولون إدخالها في الطعام وعلب اللبنة. لكن في أحيان أخرى، وزيادةً على نقص العتاد، كان هناك تواطؤ". وبينما يعترف الوزير الأسبق بأنّ "الخدمة في السجن صعبة جداً"، يلفت إلى أنّ "الصعوبة الأكبر في هذا الموضوع تتمثّل في ضبط شبكات ترويج المخدرات من بدايتها حتى نهايتها، أي من الخارج حتى داخل السجن… وأقول إنها صعبة لكنها ليست مستحيلةً".
ويصرّ على أنه للتخلّص من تفشّي المخدرات وغيرها من أزمات السجن، "هناك حاجة إلى حزم قوى الأمن"، كاشفاً أنه في فترات خدمته "في الكثير من الأوقات، كانت الوزارة تستعين بقوة الفهود للتفتيش وهي قوى تابعة للقوى السيارة بقوى الأمن الداخلي وكانوا يدخلون إلى بعض الغرف داخل السجن التي كان يخشاها العناصر الأمنيون وينفذون عملية التفتيش وكانوا يعثرون على المخدرات بحوزة مسجونين".
ومن بين الحلول التي يطرحها لإنهاء الأزمة "أجهزة كشف متطورة وكاميرات مراقبة داخل السجن وخارجه، والمداهمات المفاجئة والمنتظمة للمسجونين، وتفعيل القضاء والنيابات العامة للقيام بواجباتها، ومعالجة موضوع تكدّس القضايا وتأخّر المحاكمات، ومنح الراحة والرواتب المجزية للعناصر الأمنيين، فضلاً عن إنشاء سجون في المناطق لتخفيف الضغط على السجن المركزي (رومية)، وإحالة إدارتها الداخلية إلى مختصين في تأهيل المساجين كلّ حسب طبيعة الجرم الذي ارتكبه".
فرصة مهدورة لمعالجة أزمات سجن رومية
بعد عام 2008، عندما حصل التمرّد داخل سجن من قبل المسجونين في عهد وزارة زياد بارود، وشمل إحراق السجن وتكسيره، أعلن المجلس اللبناني للإنماء والإعمار (CDR)، وهو مؤسسة حكومية مستقلة لديها صلاحيات موسعة وتخضع مباشرة لمجلس الوزراء تُعنى بعملية إعادة بناء وإحياء وبناء المؤسسات العامة التي تم تدميرها، عن مناقصة تلزيم لإعادة تأهيل السجن وتوسيعه لتخفيف الاكتظاظ ومعاناة المسجونين. كانت تلك الفرصة الأبرز لمعالجة الملف وإصلاح وضع السجون على صعيد الاكتظاظ ومكافحة الفساد، وكي يصبح السجن نموذجياً ومن ثمَّ نقله إدارياً من صلاحيات وزارة الداخلية إلى وزارة العدل.
بحسب الوزير الأسبق زياد بارود، فإنّ المعضلة تتمثّل في أنّ العمل على ملف السجون لم يكن مستداماً حيث "كنا نبدأ ثم نتوقّف لأسباب منها تغيير الحكومة أو النقص في العديد والتمويل". فماذا عن الفرص المهدورة لتحسين وضع سجن رومية وحلّ أزماته؟
وبالفعل، أُنجزت الدراسة في 17 كانون الأول/ ديسمبر عام 2008، للبدء بالعمل بقيمة 191،149 مليون دولار ممولة من اعتمادات موازنة المجلس، أي من ميزانية الدولة، حيث كان المشروع يتعلّق بتوسيع سجن رومية وإنشاء قاعة محاكمة ضمن حرم السجن.
وبدأ المشروع في 1 شباط/ فبراير 2011، حيث ذهب عقد التلزيم إلى شركة سبكتروم للاستشارات الهندسية، ولكن بعقد جديد قيمته نحو 215 ألف دولار على أن يضمّ السجن 40 زنزانةً تتسع لستة مسجونين مع خزائن ومراحيض و10 زنزانات انفرادية وغرف حراسة وغرف أمن ومكاتب وغرفتَين للصلاة وغرف مواجهات وماسحات ضوئية وغرف كمبيوتر وغرفةً طبيةً ومطبخاً وغيرها من المرافق. تتسع قاعة المحكمة لـ250 شخصاً، وهي مزودة بثلاثة غرف للمحامين وزنزانات احتجاز ومنطقة انتظار وغرف للقضاة، فضلاً عن أعمال أخرى تشمل عزل الغرفة الكهربائية، وباب الأمن في الممرات، وكاميرات الأمن.


هذه الأموال التي صُرفت لم تقتصر على توسيع سجن رومية فحسب، بل كانت للقضاء ولوزارة الداخلية، خصوصاً قوى الأمن الداخلي، حصّة من الهبات الأوروبية والأمريكية وجهات عدة أخرى، صُرفت، بما في ذلك الهبات العينية لتجهيزات بخصوص مكافحة المخدرات من unodc وتعزيز قدرات الأجهزة القضائية والضابطة العدلية في ملاحقة جرائم المخدرات.










يعقّب الوزير الأسبق بارود بأنّ المعضلة تتمثّل في أن العمل على ملف السجون لم يكن مستداماً حيث "كنا نبدأ ثم نتوقّف لأسباب منها تغيير الحكومة أو النقص في العديد والتمويل. لكن الجهد الذي بُذل بين عامَي 2008 و2011 كانت له علاقة بتوثيق وضع السجون إذ لم يكن لسجون ونظارات لبنان أي خرائط، وهذا أمر مهم فحين تحصل أعمال شغب: كيف تستطيع تكليف قوى الأمن بالتعامل معها وهم لا يعرفون المداخل والمخارج؟".
ويضيف أنه آنذاك، قُدّمت اقتراحات وتوصيات بإنشاء سجنين، الأول في جنوب لبنان والثاني في الشمال، وفق معايير هندسية تناسب طبيعة السجون وتساعد في ضبط شبكات المخدرات، من خلال إحكام طرق وآليات دخول الزوار وإدخال الطعام والاحتياجات الطبية للمسجونين.
الوزير الأسبق زياد بارود متحدثاً لرصيف22 عن الحلول الضرورية لأزمة تفشِّ المخدرات في سجن رومية.
ويقرّ بأنه "كان هناك تعاون بين وزارة الداخلية وunodc أسفر عن إنشاء قاعة مواجهة مع المسجونين وأهاليهم بمعايير دولية تُراعي حقوق المسجون وأهله، فيما أُنجز بالتعاون مع الحكومة الإيطالية تنفيذ مطبخ بهبة عينيّة بقيمة 4،000 يورو لتعليم المسجون كيفية إعداد الطعام وإطعام المسجونين طعاماً مناسباً قبل أن تحدث أعمال شغب وتُحرَق قاعة المواجهة والمطبخ".
"جرى تأسيس سجن رومية بمعايير دولية وفق معايير ذلك الزمن (أواخر ستينيات القرن العشرين). لكنه اليوم تحول إلى مكان تصعب إدارته، فيه مسجونون لديهم منافع يعيشون داخل السجن بطريقة مغايرة عن غيرهم. آمل أن تُنقل إدارة السجون إلى وزارة العدل حيث يوجد أشخاص أكفاء للبدء بتولّي هذا الملف المعقّد، وإن كنت أعتقد أنه مع الأسف لا يشكّل أولويةً لدى الحكومة"، يختم بارود.
ويبدو أن هذا الملف استحال بفعل الإهمال والتجاهل الحكومي إلى ملف فساد مستمر لم يجد من يتصدّى له حتى نشر هذه السطور. ولم يقتصر الأمر على تورّط ضباط وعساكر في إدخال مخدرات إلى سجن رومية، بل يضاف إلى ذلك الفساد السياسي والمالي وسوء المعاملة داخل السجن اللبناني، والاكتظاظ، وتأخر المحاكمات، وعدم وجود ما يكفي من الموظفين، ونقص الرعاية الصحية، وغيرها من الانتهاكات.
تواصل رصيف22 مع وزير الداخلية والبلديات الحالي أحمد الحجار، عبر الإيميل الرسمي لوزارة الداخلية، وعبر الاتصال على هاتفه الخاص، وعبر واتساب، للاستفسار عن حقيقة الهبات التي صُرفت على سجن رومية والتمويلات التي كان الغرض منها توسيعه، بالإضافة إلى منحه حق الرد بشأن ما تضمّنه التحقيق بخصوص تورّط ضباط وعناصر في إدخال المخدرات إلى السجن، لكن لم نتلقَّ منه ردّاً حتى تاريخ نشر التحقيق.
وعلى مدار نحو شهرين، حاول رصيف22 التواصل مع وزارة الدفاع اللبنانية للردّ على ما يرد في حق المنتسبين إليها في التحقيق، وتزويدنا بالقضايا من المحكمة العسكرية التي جرت إدانة ضباط وعناصر فيها بإدخال مخدرات إلى سجن رومية، لكن لم نتلقَّ أي ردّ أيضاً.
*حرصاً على سلامة المصادر وبناءً على طلبهم، استخدم رصيف22 الأسماء المستعارة. لكن يؤكد رصيف22 احتفاظه بالأدلّة والتسجيلات والوثائق كافة التي تثبت كل ما ورد في هذا التحقيق.
أُنتج هذا التحقيق بدعم من منظمة Civil Rights Defenders.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.