يقول جبران خليل جبران إن شيئين يغيّران نظرة الإنسان إلى الحياة: المرض والغربة. فماذا لو اجتمع الاثنان وكان المرض مستعصياً أو مزمناً؟
يحنّ المريض في الغربة إلى مجتمعاتنا الصغيرة في العالم العربي، والتي لا يزال بعضها قائماً على أساس الهوية والانتماء المشترك والجماعة، لحملها مقومات الشفاء: المحبة والتضامن والاعتناء والشدّ على يد المريض في رحلة شفائه الطويلة. من المداواة بالطرائق التقليدية (أتذكّر جيداً والدة صديقتي وجارتنا جورجيت اللتين أقنعتا أمي بأنّ ملعقةً ممتلئةً من الدبس كافية لعلاج حلقي المتوّرم وربما الملتهب)، إلى العلاج النفسي بالتواصل، خاصةً بين مجتمعات النساء، إلى تخفيف الألم والمعاناة عبر صلاة الجماعة والعلاقات العائلية والأسرية المتماسكة؛ قد يكون الدبس هو الدواء وقد لا يكون. في المحصلة، كان اهتمام جارتي وحرصها عليّ ومحبتها كافيةً لزرع الطمأنينة في الجرعة وربما الوهم أو تأثير الـplaceb. والخلاصة أنني شُفيت حينها.
حين يمرض المرء في الوطن، تتسابق الأيدي لتلمس جبينه، وتتمتم الشفاه حوله الأمنيات، وتتكاثر الدعوات والبسملات في البيوت، وتُعدّ "الشوربات" الساخنة على مدار النهار. يأخذ الإبريق مكانه على الغاز، فتُغلى الزهور والأعشاب على أنواعها وتكشف نسوة الحي والقريبات عن أسرارهنّ العلاجية. يصبح الكل طبيباً له شأنه في التشخيص والمداواة، والتجربة أكبر برهان. وإن استعصت المشكلة، تجدهم يعزفون على وتر البحث عمّن يقدر على الحلّ. تُسرد القصص حوله وتعلو النكات ويتنافس الموجودون في إظهار محبّتهم، حيث يحثّون المريض على الأمل ويرسمون معه خطة العلاج. لا يدعه أحد وشأنه خوفاً عليه من الانتكاس أو من الركون إلى السلبية، والانزلاق في ذاك الثقب الأسود الجائع. يقطعون عليه طريق تسليم مفاتيح جسده إلى اليأس. هناك، للمرض طعمٌ أقل مرارةً، لأنّ في التفاتة الجماعة حول المريض قوةً خفيّةً، وطمأنينةً عميقة.
يحنّ المريض في الغربة إلى مجتمعاتنا الصغيرة في العالم العربي، والتي لا يزال بعضها قائماً على أساس الهوية والانتماء المشترك والجماعة، لحملها مقومات الشفاء: المحبة والتضامن والاعتناء والشدّ على يد المريض في رحلة شفائه الطويلة.
في الغربة، وفي غياب مفهوم الجماعة المتجسد في الأسرة الممتدة والحي ومجتمع الأصدقاء والمقربين، يصبح المرض امتحاناً مضاعفاً للروح والجسد. ليس المرض فقط ألماً في العظم أو اضطراباً في كيمياء الدماغ، بل هو أيضاً عزلة وازنة، وغربةٌ داخل غربة. هو الثقب الأسود. المريض في بلاد ليست بلاده، يحمل على كتفيه عبء الجسد المنهك، ويجرّ وراءه ظلّ الحنين، ويتعلّم أن استجداء المساعدة ضرورة ملحّة للبقاء. تلقّنه الأيام أن يطلبها دون خجل من مجتمعه الجديد للإحاطة به. يرتمي في حضن كلمة دافئة تصله من غريب أو من قريب بعيد عبر تسجيلات صوتية. يعبر ذلك الحب مسافات شاسعةً نسي أنه عبرها وسبب عبوره إياها. يبحث في العيون الباردة حوله عن حُنوّ الطمأنينة التي احتساها في وطنه يوماً ما.
في غياب مفهوم الجماعة والمجتمع العلاجي الذي اعتاد عليه المغترب، أين يجد الدعم والتعاضد للشفاء من أمراضه الجسدية والنفسية؟
في الغربة، يئنّ الجسد في صمت؛ تتمرّس في الوجع وحدك، بلا رقيب. تطول الليالي وتهمي الدقائق بحرقة على الجسد بالرغم من عقمها. تخاف من مناداة الموت بصوت عالٍ فربما يكون مستتراً في الضوضاء التي حسبتها سكوناً، وربما يسمع الاستغاثة ويأتيك على عجل. تدرك أنك تخاف من الموت، نعم، لكنك تخافه أكثر لأنك في المهجر. تنكمش على نفسك، تستجمع أجزاءك المبتورة، وتضعها تحت المهجر. يُعيد الألم عجنك طريّاً، طفلاً في حجر أمّك. تلتقط ذبذبات همهمة خفيفة، وترتيلة قديمة تتناهى إليك من عمقك، بعض حروفها معقوف، لكنها حيّة فيك، تحملك إلى صباح جديد.
'الصيدلية' أو مجموعة الأدوية التي ينبغي أن تأخذها للمحافظة على استقرار المرض أو على مداواة العوارض تبقى الجليسة الوفية، وفي متناول اليد وقت الحاجة. تلك الحاجات المتأرجحة بين اللوازم والتفضيلات تصبح أيضاً عبئاً حين ينبغي أن تأخذ القرارات المتعلقة بصحتك بمعزل عن الأسرة التي اعتدت مشاركتها أقلّه المناقشة. وبسبب تعقيدات شركات التأمين، الوسيط بينك وبين الطبيب، تتشكل غيمة سوداء كثيفة تتمرد فوق الجفون وتعمي البصيرة. هل يتمنون لي الخير؟ هل هذه القرارات المصيرية بحق صحتي نقية في الظواهر والبواطن؟ يستتر الشك في السؤال.
في الغربة، وفي غياب مفهوم الجماعة المتجسد في الأسرة الممتدة والحي ومجتمع الأصدقاء والمقربين، يصبح المرض امتحاناً مضاعفاً للروح والجسد. ليس المرض فقط ألماً في العظم أو اضطراباً في كيمياء الدماغ، بل هو أيضاً عزلة وازنة، وغربةٌ داخل غربة.
أُسائل نفسي: هل أبكي على أطلال مجتمعاتنا العلاجية التي أضحت ذكرى؟
خلقت جائحة كورونا، ومن قبلها وسائل التواصل الاجتماعي، أسلوباً جديداً للتآخي بين الناس عماده الاختزال والسرعة والسهولة، ما وسّع الهوة بين الناس حتى في المجتمعات الصغيرة. صار العزاء جملةً شاعريةً تُشارَك عبر أدوات التواصل، والتبريكات أيضاً تتم اليوم عبر صور متحركة "Gifs". يعبّر كثرٌ منا عن الحبّ والسخط واليأس والسعادة بالرموز التعبيرية. أين صرنا من جبر الخواطر؟
دور الجماعة في دعم المريض
في مقارنة سريعة بين مجتمعاتنا ومجتمعات بلاد الاغتراب، نجد أنّ العلاقات الأسرية المتماسكة قادرة على دعم الصحة النفسية للمريض، وهي خط الدفاع الأول في دعمه اجتماعياً وفي التخفيف من معاناته عبر تدعيم شعوره بالانتماء والأمان، ما يساعده على التكيّف مع المرض وتعزيز حماسته للتعافي. من مسافة بعيدة، يصعب على المغترب الركون إلى أسرته في البلد الأمّ، خاصةً إذا كان المريض يفضّل حماية أسرته البعيدة من ثقل الخوف عليه.
لذلك، يتعلم المريض كيف يطلب المساعدة، وكيف يبني لنفسه شبكة دعم، ولو كانت هشّةً أو مؤقتة. عليه أن يتجاوز الخجل أو الخوف من الرفض، وأن يعي أنّ الضعف ليس عيباً، وأنّ البوح بالألم حقّ إنساني.
في الغربة، قد يضطر الإنسان إلى أن يكون لنفسه أمّاً وأباً وصديقاً، وأن يبتكر طقوساً جديدةً للعزاء والطمأنينة.
في الغربة أيضاً، تتكاثر مجموعات الدعم ذات الهوية المشتركة، وتقدّم نفسها نموذجاً متطوراً وأكثر علميةً للمجتمع العلاجي الذي يفتقده المريض المغترب. هذه الجماعة البديلة قادرة على جبر الخواطر والمساندة طالما كان المريض منفتحاً وقادراً على كسر كبريائه ومدّ يدّه للآخرين.
في مقارنة سريعة بين مجتمعاتنا ومجتمعات بلاد الاغتراب، نجد أنّ العلاقات الأسرية المتماسكة قادرة على دعم الصحة النفسية للمريض، وهي خط الدفاع الأول في دعمه اجتماعياً وفي التخفيف من معاناته عبر تدعيم شعوره بالانتماء والأمان، ما يساعده على التكيّف مع المرض وتعزيز حماسته للتعافي
المرض والفروقات الثقافية
يطلّ العلاج النفسي ومجموعات العلاج الجماعي مثلاً، كفسحة آمنة، وملاذ ذهني وروحي يعيد ترتيب الفوضى الداخلية، ويمنح النفس فرصةً لإعادة اكتشاف أو تشكيل ذاتها، بين صدق البوح ودفء التفاعل الإنساني الذي يحتاجه المريض. الجلسات العلاجية هذه قد تكون صورةً متجددةً للجماعة/ المجتمع العلاجي في بلادنا. هناك تتقاطع الهموم وتتكامل التجارب في حضرة جماعةٍ تمنح الفهم، وتشارك الألم، وتحتضن التغييرات التي تطرأ على المريض. في هذا الفضاء الآمن، ينكشف الإنسان على ذاته من خلال الآخر، ويجد في التلاقي الجماعي مرآةً صادقةً تعكس ما خفي من جراحه، وما اختزن من قواه. فالعلاج الجماعي ليس فقط وسيلةً للشفاء، بل هو رحلة نضج ونمو، تنسجها كلمات الدعم، ونظرات التعاطف.
لا أحد يخفف عن المريض في الغربة. فهي قاسية، لا تمنح الوقت الكافي لتكوين صداقات عميقة، ولا تتيح بناء شبكة أمان اجتماعية قويّة ومتينة تشبه تلك التي تركها المريض خلفه. تزيد الفروقات الثقافية من سماكة الجدران التي يبنيها المرض. وتُمنع الدموع التي تخيف الكثيرين برغم رقّتها، من الانسياب بحرية. تذعن الكلمات للمرض، تصبح ميكانيكيةً، علميةً، واصفةً للأعراض، لا تستفيض ولا تُفضي إلى غسل القلوب. تجعل البوح بالألم مغامرةً محفوفةً بالخوف من عدم الفهم، أو سوء التأويل، أو الخجل، أو العزّة، أو الخوف من التشكك.
يقدّس الأجانب وحتى كثيرون من العرب في الغربة، الخصوصية، ويضعونها أحياناً فوق اعتبارات حاجات المريض، خاصةً لجهة التضامن والتعاطف معه، وإن كانت معركته خاسرة. في الوقت عينه، يتعيّن على المريض تعلّم لغة جديدة يصف فيها حالته الجسدية والنفسية، في حين كان ينتقي الكلمات الجامدة التي لا تتشرّب أحاسيسه، ويُبقي مسافةً بينه وبين المرض، وكأنّ الأخير دخيل عليه، فيجبَر على التآخي مع المرض ومعايشته وتقبّله.
الفروقات الثقافية بين بلد الاغتراب وهوية المريض قد تزيد من شعور العزلة، لكنها أحياناً تفتح أبواباً لفهم الذات والآخر. في مجتمع الاغتراب مثلاً قد لا يُنظر إلى المرض النفسي كوصمة، وفي مجتمعات أخرى يُحتفى من يواجه مرضه بشجاعة.
وهذا غير تعقيدات العلاج في بلاد الاغتراب واختلاف ثقافة وآداب الممارسة الطبية. ففي بلاد الاغتراب، يُنظر إلى المريض بوصفه مجموعة أعضاء منفردة بدل أن يُنظر إليه على أنه جسد متكامل. تخونه اللغة ولو كان متمكناً منها. وفي حال عدم تمكّنه من التعبير عن نفسه بلغة بلد الاغتراب بدقّة، تتعقد الصورة أكثر.
الفروقات الثقافية بين بلد الاغتراب وهوية المريض قد تزيد من شعور العزلة، لكنها أحياناً تفتح أبواباً لفهم الذات والآخر. في مجتمع الاغتراب مثلاً قد لا يُنظر إلى المرض النفسي كوصمة، وفي مجتمعات أخرى يُحتفى من يواجه مرضه بشجاعة. في الغربة، يكتشف الإنسان أنّ هناك طرائق جديدةً للتعامل مع الألم، وأنّ هناك منظمات وجمعيات تقدّم له الدعم بلا مقابل أو تمييز. فهل يعوّل عليها؟ وهل يكفي هذا؟
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.