شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!

"لا وجود للشيطان"... حكايات مصيرية عن تنفيذ عقوبة الإعدام في إيران

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة نحن وحرية التجمع

الثلاثاء 13 ديسمبر 202205:14 م

يتألف الفيلم الإيراني "لا وجود للشيطان"، إخراج محمد رسولوف، والحائز جائزة مهرجان برلين الكبرى (الدب الذهبي)، من مجموعة من الحكايات المتمركزة حول موضوعة عمليات الإعدام الموكلة إلى مجندي الخدمة العسكرية الإلزامية في إيران، والتي يكثر الحديث عنها في ظل المظاهرات التي تشهدها البلاد والأحكام العقابية المنفذة في حق المتظاهرين/ات.

أربع حكايات تروي قصصاً ومصائر شخصيات تمركزت حول لحظة تنفيذ عقوبة الإعدام الملزمة للمجندين في الخدمة العسكرية الإلزامية أو بحكم وظائفهم المهنية. تتنوع المقاربات التي تتناول فيها القصص القضية المركزية بتنفيذ عقوبة الإعدام. فبينما نعايش في الحكاية الأولى الحياة اليومية العاطفية والعائلية لموظف جلاد موكل إليه تنفيذ عقوبات الإعدام بحكم الوظيفة الإدارية، فإننا نتابع في الحكاية الثانية قصة تمرد شاب في الخدمة العسكرية في يوم التنفيذ لحكم الإعدام الموكل إليه أثناء الخدمة.

وتركز الحكاية الثالثة على دور المرأة في ظل نظام الخدمة العسكرية والإعدام الإلزامي لتجد نفسها في ضياع وجداني وذهني بين الحبيب القاتل والقريب المقتول، وفي الحكاية الرابعة تتوضح مركزية مصير رفض تنفيذ عقوبة الإعدام الموكل إلى المجند وكيف تتغير حياته بشكل جذري في حال التمرد، إلى حد فقدان الهوية والحرمان من المهنة والأبوة.

الحكاية الأولى: الحياة اليومية العائلية في حياة موظف جلاد

تحمل اللوحة الأولى أيضاً عنوان الفيلم "لا وجود للشيطان"، وهي تروي وقائع يوم عادي في حياة موظف جلاد. يتابعه السيناريو في حياته العادية، ترسم الأحداث شخصية (حشمت) رب العائلة الذي يساعد سكان البناء على إخراج القطة من خلف الخزان، كصورة للإنسانية، يقل زوجته من العمل وكذلك ابنته من المدرسة. نتابع تعامله الهادئ والمتوازن مع الحياة اليومية مثل قبض الراتب وتسديد القروض، يتسوق لأجل العائلة وكذلك لأجل والدته المقعدة في المنزل، تصر المشاهد على أن تصور الحنو والعطف الذي يشعره تجاه والدته في لقطات تصوره ينظف مجلسها، وينظف منزلها، وكذلك نتابع أسلوب تواصله مع زوجته وهما يحضران لدعوة حفلة زفاف وجهت لهما.
إن مهنة (حشمت) هي التي تبقى غامضة على المتلقي طيلة أحداث الحكاية الأولى. إن إخفاء السيناريو لمهنة الشخصية الأساسية (حِشمَت) هي لإحداث الصدمة في التناقض بين حياة الإنسان-الموظف المسؤول عن تنفيذ أحكام الإعدام. إننا نراه ينهض في الثالثة فجراً، ويتوجه إلى مكتبه تحت الأرض، وبينما تتم مراسيم الإعدام، يكون هو معزولاً في الغرفة المجاورة، يعتمد على ألوان الإضاءة في غرفته المتغيرة بين الأحمر والأخضر ليكبس زر الإعدام الآلي الجماعي لستة محكومين نرى جثثهم تتدلى على المشنقة، بينما ينهي (حشمت) تحضير إبريق الشاي الذي هم بإعداده بالتوازي مع وقوع عمليات الإعدام.
أربع حكايات تروي قصص ومصائر شخصيات تمركزت حول لحظة تنفيذ عقوبة الإعدام الملزمة للمجندين في الخدمة العسكرية في إيران ...فيلم "لا وجود للشيطان" للمخرج محمد رسولوف، الحائز جائزة مهرجان برلين الكبرى الدب الذهبي
السيناريو مكتوب بمهارة قصصية تعالج الموضوعة سينمائياً بين حياة الإنسان العائلية والعاطفية والاجتماعية وبين مهنته التي ترتسم بالمخيلة بالقسوة أو الوحشية المطلقة. السيناريو يبين أن حِشمَت هو موظف إداري ضمن نظام قائم على أساس التجريم بعقوبة الإعدام وتنفيذها، بينما يبقى الجلاد هو مجرد موظف إداري يصور الجزء الأطول من الفيلم حياته العادية.

الحكاية الثانية: احتمالات بطولات العشق والتمرد

اللوحة الثانية تحمل عنوان (قالت يمكنك أن تفعل ذلك). تروي حكاية الشاب (بويا pouya) المجند في الخدمة الإلزامية بالقسم المولج بالإشراف وبتنفيذ عقوبات الإعدام، إنه يعاني في ليلته الطويلة مما هو مجبر عليه في اليوم التالي، تنفيذ عملية إعدام بحق سجين لا يعرف تهمته. يجري النقاش بين الزملاء المجندين في قسم الإعدام والقابعين في زنزانة تحت الأرض بانتظار الأوامر التي تقضي بقيامهم بمهاتهم، تدور النقاشات حول القوانين ومنطق العقل والإنسانية، وحول النظام السياسي والرغبات الفردية، وحول الانتهازية أو التمرد:
المجند الأول: "القانون هو القانون، أنت جندي لأجل إيران، يجب أن تخدم".
المجند الثاني: "هل تطيع دوماً. حتى لو طلب منك أن تقتل؟".
وتجري نقاشات بين المجندين عن هوية المحكومين بالإعدام وجرائمهم:
المجند الأول: "هل عرفت مرةً جريمة الأشخاص الذين تعدمهم. أحاول أن أفعل ذلك في بعض الأحيان".
المجند الثاني: "هؤلاء مجرمون ارتكبوا أفعالاً تخالف القانون".
المجند الثالث: "ليس على كل جندي أن يعدم الناس".
المجند الثاني: "القانون هو القانون".
المجند الثالث: "القانون فقط لخدمة أصحاب المال والمحسوبيات".

يجري النقاش الأعمق أيضاً على مستوى حتمية إطاعة الأوامر والحصول على المزايا التي يمنحها النظام لمن يقدم الخدمات له، مثل إجازة الثلاثة أيام للمجند الذي يقدم على القيام بدوره في تنفيذ عقوبة الإعدام، أو على مستوى التمرد والخضوع لأقسى العقوبات:
المجند الأول: "عليك أن تطيع الأوامر، وتسحب كرسي الأعدام لتحصل على ثلاثة  أيام إجازة"
المجند الثاني: "هل نحن قتلة بالفطرة؟".
النقاش الأكثر حساسية الذي يتم على هذا المستوى، هو ذلك المتعلق بتشابه المجندين الإلزاميين، والحقد على التميز فيما بينهم، إن الجميع يرغب أن يغرق الجميع في خطايا الدماء والانتهازية، لهذا يحاول زملاء (بويا) من المجندين إقناعه بأنه لن يختلف عنهم وبأنه سيقدم على تنفيذ أمر الإعدام كما هي حال الجميع.
المجند الأول: "ادع أن تكون الإحكام عادلة. وخذ صورة لإعدامك وعلقها على الحائط لتصبح مثلنا".
نتابع في الحكاية الثانية قصة تمرد شاب في الخدمة العسكرية في يوم التنفيذ لحكم الإعدام الموكل إليه أثناء الخدمة
لكن ما يميز (بويا) عن باقي زملائه المجندين هو حبيبته (تهمينة) التي تتواصل معه لمساعدته طيلة الليل. وهكذا، يتمرد (بويا) في صباح اليوم التالي في الممر المؤدي إلى غرفة عملية الإعدام، يسرق رشاشاً من أحد الضباط المشرفين على العملية، ويستعمله للخروج من مبنى المعسكر والهروب نحو السيارة التي تنتظره فيها حبيبته (تهمينة)، ليهربا فيها خارج الحدود الإيرانية. كان (بويا) قبل التحاقه بالخدمة العسكرية الإلزامية يحلم أن يدرس الموسيقى في النمسا، وهكذا تبين نهاية الحكاية وكأنه قصة بطولية لمجند رفض أن يقتل غيره وأن ينفذ أوامر الإعدام الإلزامية. فنان موسيقي يسعى لتحقيق حلمه الفني في نهاية الحكاية. ويبدي عنوان الحكاية (قالت يمكنك أن تفعلها) عن دور الحبيبة في المساعدة والتشجيع والإيمان بقدرة حبيبها على التمرد.
الحكاية الثالثة: نظام الخدمة الإلزامي والمرأة بين عشق الضحية والجلاد
اللوحة الثالثة بعنوان (عيد ميلاد)، أيضاً نحن أمام شخصية الشاب (جواد) المجند في الخدمة العسكرية الإلزامية، والذي تمكن الحصول على إجازة وتوجه إلى منزل حبيبته (نانا) في يوم عيد ميلادها، يرغب أن يقدم لها خاتم الخطبة وأن يطلب من عائلتها الزواج بها. لكنه حينما يصل يكتشف أن العائلة تعيش أوقاتاً عصيبة، لقد فقدت أحد الأصدقاء المقربين حين تم القبض عليه وإعدامه بسبب آرائه السياسية. إن عائلة (نانا) تخفي وراء احتفال عيد ميلادها عزاء الشاب السياسي الذي طلبت السلطات ألا يقوم له عزاء.
قال الأب: "لا يريدون مراسم للجنازة، إنهم يخشون حتى من جثته".
يقول الأخ: "علينا أن ننسى، علينا أن نتجاوز مقتله".

المجند (جواد) يتعرف في الصورة المرفوعة في صالة العزاء، على المحكوم بالإعدام (كيفان) الذي نفذ فيه الحكم قبل أيام، للحصول على إجازة عيد ميلاد (نانا). يهرب إلى البحيرة، ويحاول إغراق نفسه، ويعترف بالأمر لحبيبته (نانا) بأنه أعدم صديقهم المقرب، في اليوم نفسه الذي يطلب فيها يدها إلى الزواج، وتعيش (نانا) صراعاً بين القبول والرفض، بين الحزن والسعادة. إنها حكاية حب تشوّه بقسوة الخدمة العسكرية الإلزامية والمهمات الموكلة إلى المجندين بتنفيذ عقوبات الإعدام. يكتشف (جواد) الحقيقة حول المحكوم بالإعدام الذي نفذ فيه الحكم على اعتقاد بإجرامه، فإذا به الصديق والناشط السياسي المقرب من عائلة حبيبته (كيفان). إنه يتحول الآن بعين حبيبته إلى قاتل لأعز أصدقاء العائلة. كل ذلك، في تركيز على موقع المرأة في الحكاية، هي الشابة (نانا) الحائرة بين الحزن على صديق عائلتها المقتول أم على حبيبها مجند الخدمة العسكرية القاتل. حين تعلم (نانا) بذلك تتوه بين تعنيف حبيبها وبين مساعدته والحنو عليه. هنا يظهر الدور الصعب التي تلعبه المرأة ضمن نظام العقابي القائم على الإعدام بين المجندين والمتهمين.
تركز الحكاية الثالثة على دور المرأة في ظل نظام الخدمة العسكرية والإعدام الإلزامي لتجد نفسها في ضياع وجداني وذهني بين الحبيب القاتل والقريب المقتول
تكثر في هذه اللوحة المشاهد العاطفية، تضع (نانا) حبوباً من الرمان على وجه محبوبها، وهما يتحدثان عن "الزهور الحمقاء".
نانا: "يلقبونها بالزهور الحمقاء لأنها تتفتح بلا مبرر، وتنمو بلا قانون، وهي ليست نادرة بل تنمو على مدار العام. اسمها دليل عدم جدواها".
جواد: "السعادة لا تحتاج إلى سبب. السعادة تصنع الجمال".
نانا: "كيفان لم يكن مجرماً، قبضوا عليه بسبب أفكاره السياسية".
جواد: "أنا لا أحب السياسة".
وتعاود هذه اللوحة طرح موضوعة مصيرية عن حياة الشخصيات يتم التطرق إليها أيضاً في اللوحات السابقة، وهي إجبار الأفراد على القيام بما يفرضه النظام السياسي الحاكم عليهم، يجري هذا النقاش بين (جواد) ووالدة حبيبته (نانا). لقد تركت الأم (شيرين) وظيفتها وحياة المدينة واتجهت للانعزال في الريف، الخيار الذي نراه عند الكثير من الشخصيات في الفيلم، تلك الراغبة بالخروج من دوامة الفرد-السلطة، نحو العزلة والريف.
الأم شيرين: "هل أجبروك على القيام بما لا ترغب به؟".
جواد: "الخدمة العسكرية مثل السخرة".
الأم شيرين: "ومن الذي يقرر القوانين. لماذا لا نقوم برفضها؟".
جواد: "إنها مجرد عامين وتتسهل حياتك، وإلا فإنهم سيدمرون حياتنا".
تلعب البدلة العسكرية دوراً مهماً في أحداث الحكايات، فارتداؤها أو خلعها هما تبدل في الهوية بين المجند العسكري والإنسان، يقول المجند-الإنسان (جواد) في تبرير إقدامه على تنفيذ حكم الإعدام بقريب العائلة (كيفان): "لقد قالوا لي بأنه مجرم فقتلته. أردت إجازة ثلاثة أيام لأكون هنا في عيد ميلادك".

الحكاية الرابعة: المصير الفردي بين جريمة القناعة وفقدان الهوية

اللوحة الرابعة بعنوان (قبلني)، الثنائي (بهرام) وزوجته (زمان) يعيشان في حالة من العزلة في أحد الأرياف الإيرانية النائية بين الجبال، يستقبلان (داريا)، الشابة الجامعية ابنة أحد الأصدقاء، وهي تعيش في ألمانيا. تدرس (داريا) الطب، كما هو حال أبيها (منصور) وصديق أبيها (بهرام)، كلاهما طبيب. لكن (داريا) تصر على معرفة السبب الذي دفع (بهرام) إلى ترك المدينة وممارسة مهنة الطب في نطاق ضيق في الريف. تتكشف الحكاية حين نعلم أن (بهرام) في حالة صحية سيئة وأنه طلب زيارة (داريا) ليعلمها بأنه والدها البيولوجي.

أثناء خدمته العسكرية رفض (بهرام) تنفيذ عقوبة الإعدام مما كلفه إخفاء هويته طيلة حياته، وقد سلم ابنته التي كانت صغيرة في حينه إلى صديقه (منصور) لتربيتها وتعليمها في أوروبا. إن الحكاية تنطوي على مصير حياتي للشخصية التي رفضت تنفيذ عقوبة الإعدام في شبابها مما كلفها هويتها ومصيرها المستقبلي كاملاً في حياة من العزلة في الريف، وإخفاء هوية الأبوة عن الإبنة البيولوجية. إن حكاية اللوحة الرابعة واحدة من حكايات المصير الحياتي المرتبط بلحظة من الخيار بين الإقدام على خيانة القناعة وتنفيذ حكم الإعدام بضحية أو التمرد وفقدان الهوية المهنية والمواطنية في المجتمع الإيراني.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

وُلِد الإنسان حرّاً

ينزع الإنسان نحو حريّته دائماً، لكنّ سعيه الحثيث نحو تحقيق نزعته، قد يُعَرقل في بلادٍ تتجمّل بالديمقراطية كزينةٍ مُصطنعة، وحتّى في "المساحات العامّة" على الإنترنت.

آفة الحكومات والأنظمة العربية لا تفتأ تتفشى في عوالمنا الرقمية، وبات حتى الانترنت مجالاً لاستبدادها. وعليه، يقدّم رصيف22 مساحةً آمنةً لـ"ناسه" بالالتقاء، من دون حواجز وهميّة.

Website by WhiteBeard
Popup Image