الفيلم الإيراني القصير "رتوش" صادم جداً، والقراءة الحرفية (بتسكين الراء وفتحها معاً) ربما تظلمه لأنها تغفل طبقات خفيّة جعلت همسه الدرامي يبلغ حدّ الصراخ بدلالات وإشارات تتجاوز أحداثاً تدور في تسع عشرة دقيقة. والمسكوت عنه قبل المشهد الأول، وبعد المشهد الأخير، أكبر من قمة بارزة لجبل يوشك أن يفجّره بركان، وتتناثر حُممه ومقذوفاته، فتمتدّ إلى أحوال ومصائر أبعد من إيران، وأعمق من سلوك غير مفهوم لزوجة تتابع موت زوجها، ولا تحاول إنقاذه، ولا تستغيث بأحد، وتكتفي بالصمت االملغز، ويخلو وجهها من الشماتة ومن الشفقة على زوج بدأ رحلته إلى الآخرة، وتتواطأ مع الموت وتراقبه، كأنه حرّرها، وأغناها عن القيام بالقتل.
لفيلم "رتوش"، وهو أول عمل أشاهده لمخرجه كاوِه مَظاهري، مقدمة طويلة محذوفة قبل المشهد الأول الذي يطغى عليه اللون الأبيض، بياض الموت. النصف الأيسر من الكادر جدار ووردة صناعية، والنصف الأيمن باب زجاجي نصف شفاف؛ كادر داخل الكادر، خلفه ظلّ لرجل يسأل: "أين الفوطة؟" وتجيبه الزوجة من خارج الكادر، وهي تداعب طفلتها وتغريها بالطعام، وتواصل إطعامها تاركةً الزوج لشؤونه.
ثم تُكتب أسماء الممثلين على شاشة سوداء، ويبدأ الفيلم بمريم (الممثلة سونيا سنجَري) تضبط غطاء شعرها في غرفة النوم، وتسأل زوجها سياوَش (الممثل محمد زيكساري) لماذا يُدخل أدوات رفع الأثقال من الشرفة إلى الغرفة؟ أراد أن يتدرب، فتسأله: "هنا؟" فيردّ: "نعم."
لوحة سوداء أخرى تحمل اسم الفيلم ومؤلفه ومخرجه مظاهري، وبعدها تتدفق المشاهد. مريم تكتحل بهدوء، ومن خارج الكادر يناديها الزوج بصوت فيه حشرجة، ويأتي ردُّها بارداً؛ همهمة ضجِرة تخرج من أنفها، ولا تدلّ إلا على أنه سمعته. يعاود النداء الذي تحول إلى استغاثة، فتذهب إليه وتفاجَأ بالعمود الحديدي المثقل بالقرصيْن قد سقط على عنقه، فتقفز فوق السرير إلى الطاولة حيث يستلقي على ظهره.
تجاهد مريم لرفع العمود من الطرف الأثقل فتعجز، وتستدير إلى الطرف الأخف، والزوج يردّد اسمها، ويرشدها إلى كيفية إنقاذه بوضع كرسي تحت العمود لإزاحة الثقل. لا تفهم مريم، فيدعوها مرة أخرى إلى إحضار الكرسي، ثم يسألها: "ماذا تنتظرين؟"
أنطلق من الفيلم إلى محطتين في التاريخ المصري كانت فيهما علاقة الحاكم بالمحكومين تنويعاً على علاقة مريم الغامضة بزوجِها الذي تركته لمصيره، واستراحت لهذا المصير
الزوجة ترفع العمود قليلاً، ولكن هذا القليل لا يمنح الزوج قدرة على التنفس. ويسقط العمود. يسقط رغماً عنها أو تتركه يسقط. لا فرق بالنسبة إلى زوج يخنقه العمود، وتدفعه الرغبة في الحياة إلى مناداة الزوجة باسمها، يستغيث ويتوسل بحروف تنطلق من حنجرته ولا تلتئم في كلمة مفهومة.
الزوجة تنظر بتجهّم، لا تبكي ولا تتلهّف، ولا تتجاوب بكلمة تطمئنه وتمنحه الأمل. تتراجع وتتأمله، وكانت ابنتها قد دخلت الغرفة، فتسارع إلى إخراجها، وتغلق الباب وتقف خلفه. تنظر إلى الزوج الذي يلملم كلمة رجاء، ويفلح في نطقها. يأتي بكاء الابنة من خارج الغرفة، فتحكم الأم إغلاق الباب، وترصد حرفاً أخيراً تحمله غرغرة الموت.
لا تنسى مريم، قبل الخروج، النظر في المرآة، والاطمئنان على زينتها. وتمضي بأعصاب فولاذية. وفي الطريق إلى الحضانة، لم تكن حزينة ولا سعيدة. شملها صمت امرأةٍ استراحت من عبء يثقل أيامها، وخلّصتها منه مصادفة لا تشير إلى اشتراك في الجريمة؛ طمسٌ تامّ للأدلة يتسق مع احترافها للغرافيك وتعديل ما ينبغي في الصور؛ إذ تطمس كتفيْ أنجلينا جولي وتلونهما كأنها ترتدي فستاناً أسود، وتنفذ تعليمات بتغطية شعر وعنق الممثلة الإيرانية ليلى حاتمي.
ووسط زميلاتها ترد على اتصال بخصوص زوجها، وتقول إنها تركته في البيت، وفي العادة ينزل بعدها. وتتصل بهاتفه، وتُسمع زميلاتها أو تُشهدهن: "سياوَش، لماذا لا ترد؟ كلمني حين تسمع رسالتي"، وتكتب له رسالة هاتفية.
ترجع مريم إلى البيت عَبر شارع "دكتور شريعتي". تظهر لافتة "دكتور شريعتي" مرتين. اللافتة ثابتة في مشهد تتحرك فيه سيارة حاملة الزوجة إلى حيث تركت جثة زوجها، وبالقرب من الجثة تدرّب نفسها بهدوء على تمثيل مشهد إعلان موته. ثم تخرج من الباب وتصرخ. هذا الثبات الانفعالي للزوجة ربما يصيب مشاهدي الفيلم بدهشة تغلب على التعاطف معها أو التعجّل بإدانتها.
لا بدّ أن للفيلم، كما ذكرتُ في الفقرة الثانية، مقدمةً طويلة محذوفة، تاريخاً من القهر والأسى، وانتظار الخلاص ولو بكارثة تنوب عن الطرف الأضعف، وتعفيه من المسؤولية إلا أمام ضميره. وإذا كان الإنسان يسوّغ سلوكه، فالشعوب لا تأسى على قاهريها.
أنطلق من الفيلم إلى محطتين في التاريخ المصري كانت فيهما علاقة الحاكم بالمحكومين تنويعاً على علاقة مريم الغامضة بزوجها الذي تركته لمصيره، واستراحت لهذا المصير. في عام 1840، أذعن محمد علي لمعاهدة لندن المذلّة، وقد ألزمته بصيغة لحكم مصر وتوريثها لعائلته، وقضت على حلمه بمصر الكبرى التي ناطح بها الخلافة العثمانية، ووضعت حدّاً أقصى لعدد جنود جيشه.
ولم يكن الشعب طرفاً في هذه المعادلة، فلسان حاله يقول في مثل هذه الأحوال: "البلد بلدهم!". محمد علي تاجر الدخان كان داهية، ولم يتورع عن ارتكاب الجرائم في حقّ المصريين، واعتبرهم قطيعاً من السمسم يطحنه لاستخراج زيت يدير عجلة إنتاج لا يخص الشعب.
لا بدّ أن للفيلم مقدمةً طويلة محذوفة، تاريخاً من القهر والأسى، وانتظار الخلاص ولو بكارثة تنوب عن الطرف الأضعف، وتعفيه من المسؤولية إلا أمام ضميره
كانت مصر تشهد نهضة كبرى صنعها الشعب، وأُقصي عن الاستمتاع بثمارها. وبهذا التهميش لم يجد محمد علي رأياً عامّاً مصرياً يدافع عنه، ويتصدى به عام 1840 لمؤامرة القوى الكبرى التي أجهضت مشروعه الشخصي الطموح. يتعرى الحاكم، ويصاب باليتْم، ويصير أكثر عزلة من الشعب المغيّب -المغيّب لا الغائب- عن المشاركة في تقرير مصيره.
هكذا واجه محمد علي مصيره أعزل، والشعب لا يبالي. كما لم تحتشد الجماهير اعتراضاً على عزل حفيده إسماعيل ونفيه، وتنصيب ابنه توفيق عام 1879. ثم اكتفى الشعب بنداء "الله حيْ، عباس جايْ"، بعد عزل الاحتلال البريطاني للخديو عباس حلمي عام 1914. وكاد جمال عبد الناصر يشرب الكأس ذاتها.
لعل عبد الناصر القارئ للتاريخ وعى هذا المأزقَ، فكانت روح الوصاية الأبوية الدكتاتورية مسبوقة بتوزيع مغانم ثورة 1952، في مجالات التصنيع والزراعة والتعليم والصحة.
في مصائر محمد علي وإسماعيل وعباس إشارة تحذيرية لم تصل إلى الذين مرّوا بالتجربة نفسها، فلم يعتصموا بالشعب، لكي يكون لهم ظهيراً في الضراء. وصدام حسين أبرز تمثيلات هذه الحالة. ومن حسن حظ عبد الناصر أن الشعب عصمه من مصير محمد علي وخلفه. وأتخيله بعد هزيمة 1967 قد توقع أن يُحاكم، إلا أن الشعب فاجأه يومي 9 و10 يونيو بإعادة الثقة به، فسارع إلى إصلاحات في الجيش ومؤسسات الدولة، متأثراً برسالة جماهير لا تتخيل موت الأب.
لم يدافع الألمان عن أدولف هتلر، وهو صاحب تجربة "وطنية" شوفينية واكبها مشروع علمي وصناعي أجبر عليه الشعب، وتم تجييشه وتجنيده لتحقيق الأحلام الإمبراطورية لزعيم تابع من مخبئه جريمة الحلفاء الاستعراضية بنسف درسدن، والحرب تكاد تنتهي ومعها هتلر.
وبسبب التهميش والإقصاء عن المشاركة في حصد ثمار النهضة، لم يخرج الشعب المصري المقهور، المحروم من ثمار دولة الباشا، لنصرته عام 1840. هذا الشعب نفسه انحاز إلى عبد الناصر رغم وطأة "دولة المخابرات"، واستعلى على الألم، متوعداً بالحرب. هذا الشعب نفسه محروم حالياً من المشاركة في رسم مستقبله، ويرى تراثه نهباً لمشاريع ارتجالية غير إنتاجية يسخر فيها الرئيس من جدوى دراسات الجدوى.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ اسبوعينلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...