بين

بين "سياسة التغلّب" و"الشرعية"... بماذا ينصح ابن خلدون أحمد الشرع في فترات الجمر؟

رأي نحن والحقوق الأساسية

الثلاثاء 15 يوليو 202510 دقائق للقراءة

ربما هي المفاجآت المتزامنة والحزينة التي تفرض قراءةً عميقةً في المشهد السوري المعقّد جداً. فالمشهد بات يعكس تعقيد اللعبة الجيوسياسية السورية، إذ تزامنت زيارة الرئيس أحمد الشرع، غير المعلن عنها مسبقاً، إلى الإمارات، مع تصريحات "المندوب السامي الأمريكي" توماس باراك، عن "محادثات هادئة" بين دمشق وتل أبيب. في المقابل، شبّت حرائق كارثية في اللاذقية "العلوية"، معقل نظام الرئيس السوري السابق بشار الأسد. 

هذا الثالوث من الأحداث يكشف تحوّلات عميقةً في الملف السوري، حيث تُعاد هندسة التحالفات تحت ضغط معادلات ثلاث: إعادة الإعمار، التطبيع، والصراع الطائفي.

في عمق الأزمة، سنجعل ابن خلدون يُسقط نظريته التاريخية عن قيام الحضارات وزوالها على الحالة السورية ودور "النار" كتعبير عن الصراع والتغيرات الحضارية، حيث تنشأ الحضارات وتزول تحت تأثير هذه "النيران" بمفاهيمها السياسية والاجتماعية كلها.

تدخل سوريا عصراً جديداً من "الدبلوماسية النارية"، حيث النار تحرق الأرض في اللاذقية، والنار السياسية تُذيب حدود العداء التقليدي مع إسرائيل، والجميع يلعب فوق جمر الأزمات. و"النار" في السياسة السورية ليست مجرد لوحة من نار…

الشرع في الإمارات… أكثر من استثمارات

الاقتصاد بوابة السياسة، وتأتي الزيارة الثانية للشرع إلى أبو ظبي منذ توليه الرئاسة، كهدف غير مباشر لجذب استثمارات وإعادة الإعمار، لكن مصادر صحافيةً مختلفةً كشفت أن الرئيس الشرع ناقش في الإمارات ملفات شائكةً عدة، منها محاولة الإفراج عن قائد "جيش الإسلام" السابق، عصام البويضاني، الموقوف في الإمارات منذ نيسان/ أبريل 2025.

كذلك، فتحت أبو ظبي ملف "فلول النظام" في الإمارات، ودعم هؤلاء المالي المزعوم لبقايا الأسد في الساحل السوري. أما الملف الأهم، فهو "الوساطة الخفيّة" حيث تشير تقارير مختلفة إلى أنّ الإمارات رعت ثلاثة لقاءات غير رسمية بين شخصيات سورية وإسرائيلية في أبو ظبي، ناقشت وقف الهجمات الإسرائيلية المتكررة على الأراضي السورية وضمان أمن الدروز.

لكن المفارقة تكمن في أنّ الإمارات، وجاراتها في الخليج، التي دعمت الثورة الشعبية السورية في عام 2011 ولو شكلياً، أصبحت الآن حاضنةً للحوار مع السلطة الجديدة في دمشق، مستغلةً ببراغماتية عالية، شبكة علاقاتها مع إسرائيل.

الجولان السوري المحتل على الطاولة

من جانبها، كشفت صحيفة "معاريف" الإسرائيلية، أنّ تل أبيب تطرح على دمشق "تأجير مرتفعات الجولان" لفترة طويلة مقابل اعتراف بشرعية السلطة السورية الجديدة. وهذا يفسر التنسيق الأمني غير المعلن بين الطرفين. فصمت السلطة الحالية في دمشق عن ضربات إسرائيلية حديثة استهدفت ربما مواقع إيرانيةً، قد يُعدّ إشارةً إلى "مناخ من الثقة" جديد في العلاقة بين الطرفين.

يفسر هذا أيضاً الدور الأمريكي حيث يُسهم رفع واشنطن اسم "هيئة تحرير الشام" من قوائم الإرهاب -ولو جزئياً- في تخفيف الضغط عن حكومة الشرع، تمهيداً ربما لصفقة سياسية تشمل الجولان.

في هذا الصدد، يمكن القول إنّ الشرع ليس كسَلَفه الأسد، فغياب تاريخه الحربي في وجه إسرائيل يجعله شريكاً "مقبولاً" للتطبيع، لكن الأمر الذي لن يمرّ مرور الكرام، فأيّ تفريط في الجولان سيواجَه برفض شعبي إذ سيُعدّ الشرع "بائع الأرض والعرض".

أما الحرائق التي التهمت آلاف الهكتارات (تُفيد تقارير بأنها التهمت نحو 14% من الغطاء النباتي في سوريا)، في معقل الطائفة العلوية، فتعكس بعدَين خطيرَين: أولهما البُعد الطائفي فالمنطقة كانت معقلاً لعائلة الأسد، والحرائق تُذكِّر بضعف الدولة في حماية مناطق الأقلية الحاكمة سابقاً.

بدوره، يكشف البعد الثاني عن دور تركي متعاظم تجسّد في مساعدة أنقرة في إطفاء الحرائق (بجانب الأردن ولبنان)، وهذا الدور يكشف عن نفوذها المتصاعد في سوريا عموماً، و في الساحل السوري بشكل خاص، الأمر الذي يزعج إسرائيل بشكل كبير إذ تجد في تركيا منافساً لها. 

بات نفوذ أنقرة في سوريا اليوم يُهدد مصالح تل أبيب في الجولان، وقد يدفع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، المنتشي "بخروج إيران من المشهد، والقضاء على حزب الله" ولو نسبياً، لتسريع التطبيع مع دمشق لقطع الطريق على تركيا.

وهنا يقفز سؤال محوري إلى الواجهة: هل كانت الحرائق حادثاً طبيعياً، أو جزءاً من حرب نفوذ وتحالفات تستهدف رمزية سقوط النظام السابق؟

سؤال آخر ملحّ: من يملأ الفراغ؟ هل تكون روسيا التي أنهكتها حرب أوكرانيا، والتي قلّصت حضورها في سوريا، ما فتح الباب على مصراعيه للأتراك لتعزيز نفوذ بلادهم عبر الدعم الإنساني؟

سيناريوهات المستقبل 

الإجابة عن السؤال الأخير تطرح ثلاثة سيناريوهات؛ السيناريو الأول يتمثّل في التطبيع الذي قد يخرج في هيئة اتفاق سوري إسرائيلي برعاية إماراتية وأمريكية، على حساب التنازل عن الجولان مع ضمانات أمنية لإسرائيل مقابل استثمارات ضخمة تُدرج في سياق إعادة إعمار سوريا.

السيناريو الثاني هو سيناريو الاشتعال، ويُرجّح أن يكون كارثياً، وينتج عن فشل مفاوضات التطبيع بما يجعل إسرائيل تتجه نحو تصعيد ضرباتها، بينما تدفع الحرائق في ريف اللاذقية، والصراع الطائفي المتأجّج هناك نحو انفجار داخلي.

أما السيناريو الثالث، والذي لن يكون أقلّ خطورةً على بقاء سوريا بشكلها الحالي، فهو سيناريو التدخّل التركي، حيث تتحوّل أنقرة إلى لاعب رئيس في الساحل السوري، مستغلّةً ضعف روسيا، ما قد يُعيد رسم تحالفات المنطقة.

يمكننا ربط ما يجري من تسارع دراماتيكي للأحداث في سوريا بمفهوم ابن خلدون عن دور "النار" كتعبير عن الصراع والتغيّرات الحضارية، حيث تنشأ الحضارات وتزول تحت تأثير هذه "النيران" الاجتماعية والسياسية والتنموية، فالصراع الطائفي، والتحوّلات الجيوسياسية، وإستراتيجية إعادة الإعمار، تُحاكي كلها آراء ابن خلدون

ابن خلدون… والصراع في سوريا

في سياق الأحداث المتشابكة في سوريا، يمكننا ربط ما يجري من تسارع دراماتيكي للأحداث أيضاً بمفهوم ابن خلدون عن دور "النار" كتعبير عن الصراع والتغيّرات الحضارية، حيث تنشأ الحضارات وتزول تحت تأثير هذه "النيران" الاجتماعية والسياسية والتنموية.

تُظهر الأسس التي وضعها ابن خلدون قبل مئات السنوات، أنّ السياسة السورية تتشكّل حالياً بواسطة عوامل معقّدة تتضمّن ثلاثة عناصر مهمة يأتي الصراع الطائفي أولاً بينها، والذي لم يعد خافياً على أحد. أما التحوّلات الجيوسياسية في المنطقة، فلا يمكن التغافل عنها، خاصةً بعد السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023. أما العنصر الخلدوني الثالث، فإستراتيجية إعادة الإعمار، وذلك كله يحاكي بشكل ما آراء ابن خلدون حول: كيف يمكن أن تكون الفوضى والانهيار من العوامل الدافعة للحضارة؟

زيارة الإمارات… "العصبية" كوقود

التحوّلات في مواقف الإمارات من الأنظمة في سوريا أيضاً تذكّرنا برؤية ابن خلدون للعصبية كـ"وقود ناري" يُشعل الدول الجديدة. فالسلطة الحالية في دمشق، بعد انطفاء عصبية الأسد التي كانت تقوم على الطائفيّة والعنف، تحاول الآن إشعال "عصبية جديدة" مستعينةً برأس المال الخليجي.

لكن ابن خلدون هنا يبدو وكأنه يصرخ محذّراً: إذا تحوّلت العصبية من إرث ثوري إلى مجرد صفقات مالية -أي الإفراج عن البويضاني مقابل استثمارات- فقد تتحوّل النار إلى "رماد بارد" لا يبني أيّ شكل لدولة سوريّة جديدة، بل ربما يكون مغرياً بمزيد من "الغزاة الطامعين".

حرائق اللاذقية… "الخراب" وغياب العمران

نظرة متأنية في تحليل البعد الطائفي والتدخّل التركي، قد تكشف أنّ "حرائق اللاذقية ليست مجرد كوارث طبيعية"، برغم أنّ هكذا حوادث لم تتوقّف حتى في عهد الأسد الابن. مع ذلك، تبقى هذه الحرائق تجسيداً مأسوياً لتحذير ابن خلدون، ف"الخراب الناري" يُصيب الأمم حين تضعف دولها. فسوريا اليوم -كما الدول العاجزة في "المقدمة الخلدونية"- أصبحت كـ"حجر كان يؤلف أبنيةً حضريةً، يُنقل لمواقد الغزاة". 

أتراك وأردنيون يطفئون نيراناً في معقل النظام السابق، وإسرائيليون يتفاوضون على جمر لا يخبو في الجولان، وروسٌ يتراجعون كرماد تذروه رياح أوكرانيا... وهذا كله يؤكد أنّ غياب العمران (الدولة الفاعلة حسب ابن خلدون)، يحوّل الأرض إلى وقود للصراعات.

المشهد الروسي التركي… "دورة الدولة" بين "الاشتعال والانطفاء" 

بعد هذا الفراغ الروسي بسبب الحرب الأوكرانية والتوسّع التركي، فإنّ التنافس على سوريا يُعيد إنتاج دورة ابن خلدون الجهنّمية: "اشتعال روسي" بدأ بقصفٍ حوَّل المدن السورية، وبرعاية أمريكية، إلى رماد في العام 2015. في ما بعد، عاش الرئيس الروسي فلاديمير بوتين "ترفاً سياسياً" بتواطؤ دولي سمح له بالهيمنة، ثم "هرماً وانطفاءً" تحت وقع الصراع طويل مع الأوكرانيين.

بدورها، تحاول تركيا اليوم إشعال عصبية نارية جديدة بدايةً بالتدخّل الإنساني والدعم السياسي، لكنها قد تقع في فخّ "الترف" ذاته، لو حوّلت سوريا إلى ورقة للمزايدة الإقليمية.

خلافاً للأسد، يُدرك الشرع أنّ سوريا اليوم أصبحت "جمراً تحت الرماد"، لكن ابن خلدون يقدّم له خيارَين اثنَين لا ثالث لهما؛ الأول سياسة التغلّب التي تضمن استمرار إشعال نيران الطائفية والتبعية للخارج لفرض السيطرة، وإغفال الحالة الشعبية، وهي سياسة محكومة بالانقراض. أما الخيار الثاني فيتمثّل في السياسة الشرعية

الجمر السوري بين "سياسة التغلّب" و"الشرعية"

وخلافاً للأسد، يُدرك الشرع أنّ سوريا اليوم أصبحت "جمراً تحت الرماد"، لكن ابن خلدون يقدّم له خيارَين اثنَين لا ثالث لهما؛ الأول سياسة التغلّب التي تضمن استمرار إشعال نيران الطائفية والتبعية للخارج لفرض السيطرة، وإغفال الحالة الشعبية، وهي سياسة محكومة بالانقراض كالنار تلتهم ذاتها. أما الخيار الثاني فيتجسّد في السياسة الشرعية، وتتمثّل في إطفاء نيران الفتن بين الطوائف، بالعدل، وبناء عصبية وطنية جديدة، وعقد اجتماعي بالمفهوم الحديث، فـ"الرماد" – كما يرى ابن خلدون– قد يكون تربةً خصبةً لولادة دولة، لكن فقط إن أدرك حكام دمشق الجدد أنّ "النار السياسية" لا تُطفأ بالوقود، بل بـ"ماء الإرادة الشعبية".

بهذا الأسلوب، يصبح فكر ابن خلدون إطاراً تحليلياً عضوياً للحدث السوري، حيث تُحوّل الاستعارة النارية الأحداثَ الساخنة (من حرائق، ومفاوضات، وتحالفات جديدة)، إلى رموزٍ تفضح قانونية الصراع السياسي السوري عبر التاريخ.

وكما يقول ابن خلدون، فإنّ عمليات إعادة البناء قد تكون مصحوبةً بتحدّيات جسام، فالتاريخ يُظهر أنه "حينما تتعرّض المجتمعات إلى صدمات عميقة، فإن البنية الاجتماعية والسياسية قد تتغيّر"، وقد "تؤدّي التوترات" إلى تفكك المجتمع أو نهوضه من جديد. وعليه، فإنّ إدارة هذه "النيران" ضرورة حتمية لتفادي الانزلاق إلى الفوضى أو الفشل.

إلى ذلك، تدخل سوريا عصراً جديداً من "الدبلوماسية النارية"، حيث النار تُحرق الأرض في اللاذقية، والنار السياسية تُذيب حدود العداء التقليدي مع إسرائيل، والجميع يلعب فوق جمر الأزمات. و"النار" في السياسة السورية ليست مجرد لوحة من نار، بل تمثّل الواقع النفسي والصعوبات التي تواجهها الأمة السورية، فهي بحاجة الى حكمة ابن خلدون التي تنادي بفهم الطبائع البشرية في ظل المتغيرات المتسارعة، والعمل على استخدام هذه النيران كأداة لمواجهة التحديات وبناء مستقبل أفضل للسوريين كلهم بمختلف مشاربهم.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

فلنتشارك في إثراء مسيرة رصيف22

هل ترغب/ ين في:

  • الدخول إلى غرفة عمليّات محرّرينا ومحرراتنا، والاطلاع على ما يدور خلف الستارة؟
  • الاستمتاع بقراءاتٍ لا تشوبها الإعلانات؟
  • حضور ورشات وجلسات نقاش مقالات رصيف22؟
  • الانخراط في مجتمعٍ يشاركك ناسه قيمك ومبادئك؟

إذا أجبت بنعم، فماذا تنتظر/ ين؟

    Website by WhiteBeard
    Popup Image