"من وقت ما وعينا من السبعينيات وإسرائيل معيّشتنا برعب وبتقصفنا وبتضربنا. بس ما فقدنا الأمل وولا ح نفقده هلأ، ما فقدت الأمل إنّي بدّي أرجع ع ضيعتي. بدّي أرجع ع الأرض يلّي زرعت بترابها. بدّي أرجع أقطف الزيتون والغار يلّي زرعهن بيّي".
هكذا تتحدث أم شادي، التي نزحت للمرة الأولى مع ابنتيها من الجنوب إلى الضاحية الجنوبية لبيروت، في تشرين الأول/ أكتوبر 2023، قبل أن تنزح مرةً ثانيةً إلى الشويفات، حيث بيت ابنها، بينما تحاول ترتيب أفكارها بين الحياة كما عرفَتها منذ وقت قصير، وبين الكابوس المحتمل من ألا تعود إلى ضيعتها الحدودية عيتا الشعب، الواقعة في قضاء بنت جبيل في محافظة النبطية.
اختلاط المشاهد بين النزوح اللبناني من الجنوب 2024، وبين التهجير الفلسطيني في 1948، مع ما يحدث اليوم في لبنان، يفرض تشابهاً لا تخطئه العيون، تحديداً عيون من عاشوا النكبة الفلسطينية وما زالوا أحياء ليشهدوا على تكرار تسلسل الأحداث، وأوامر الإخلاء، وذعر السكان، والهروب بما أمكن من الحاجيات ومفاتيح المنازل، والنزوح بكل تفاصيله، ومن ثم الانتظار، الانتظار طويلاً.
ما حدث حينها، وما يحدث اليوم، أشبه بقطع أحجية تتجمع، ولا يريد لها أحد أن تكتمل.
الخط الأخضر والخط الأزرق
"شايفة اللي بصير في الجنوب يمّا، شايفته كأني شايفة حالي بنت 14 بتهرب حافية من كفر قاسم، والله الواحد يندفن ببيته أحسنله، اللي بروح ما برجع".
الحجة زينب، امرأة فلسطينية من مواليد قرية كفر قاسم 1942. هذه القرية تقع داخل الخط الأخضر، وقد ارتبط اسمها بالمجزرة التي حدثت في العام 1956.
والخط الأخضر هو خط الهدنة الذي تم تحديده بعد الحرب العربية الإسرائيلية الأولى عام 1948، ويُطلق عليه أيضاً حدود 1967. تم ترسيم هذا الخط بناءً على اتفاقيات الهدنة التي وُقّعت عام 1949، بين إسرائيل والدول العربية المجاورة: مصر، الأردن، لبنان، وسوريا. ويمثّل الحدود التي كانت قائمةً بين إسرائيل والدول العربية حتى حرب حزيران/ يونيو 1967، عندما قامت إسرائيل باحتلال الضفة الغربية وقطاع غزّة ومرتفعات الجولان وشبه جزيرة سيناء.
تعود الحجة زينب 68 عاماً إلى الوراء، وتحديداً إلى يوم المذبحة، تقول لرصيف22: "هربنا بالأواعي اللي علينا والزلام بتتذبح، وما درينا بحالنا إلا وإحنا بين الصبّار برا البلد وطلعنا من الخط الأخضر، في وحدة كانت والدة جديد، من الخوف حملت المخدّة بدل ابنها وهربت، ولما صاروا برا البلد انجنت بس حسّت على حالها وابنها لسا في الكفر، جوزها ما رضي إلا يرجع يجيبه، ولما وصلوا عالدار وحملوا الولد الزلمة إجاه طلق بين عيونه وهو عالباب ومات، والمرة ظلّت تزحف لوصلت عند الصّبار".
اختلاط المشاهد بين النزوح اللبناني اليوم والتهجير الفلسطيني في 1948، يفرض تشابهاً لا تخطئه العيون، تحديداً عيون من عاشوا النكبة الفلسطينية وما زالوا أحياء ليشهدوا على تكرار تسلسل الأحداث، وأوامر الإخلاء، وذعر السكان، والهروب بما أمكن من الحاجيات ومفاتيح المنازل، والنزوح بكل تفاصيله، ومن ثم الانتظار، الانتظار طويلاً
بتجربة لا تختلف عن تجربة الحجة زينب تتحدث العشرينية فاطمة، الزوجة والأمّ الجديدة من عيتا الشعب لرصيف22، فتقول: "بتمنّى بيتي يكون انضرب واتهدّم. بعرف حكي ثقيل بس هيك أهون عليّ من إنّو يفوتوا عليه الإسرائيليي، يا ريتني متت بضيعتي واندفنت. هيك لو صار اجتياح أو ما صار، أنا بقلب تراب بلدي وما بهمّني أكتر من هيك. ما كنت تهجّرت ولا شفت كل هيدا اللي عم يصير".
فاطمة نزحت من عيتا الشعب إلى العباسية بالقرب من صور في بداية تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، وقبل أسبوعين اضطرت إلى النزوح مرةً أخرى إلى الجبل.
مثلها، يحمل كثرٌ من أهل الجنوب اليوم تخوّفاً من أن يعود بهم الزمن إلى ما قبل العام 2000، وترسيم الخط الأزرق، وهو خطّ حدودي بطول 120 كيلومتراً رسمته الأمم المتحدة بعد انسحاب القوات الإسرائيلية من جنوب لبنان.
تحت هذا الخط تقع بعض أكبر وأهم قرى الجنوب اللبناني، التي نسمع بأسمائها اليوم وهي تُقصف في نشرات الأخبار، مثل: مارون الراس، بنت جبيل، عيتا الشعب، يارون، كفركلا، العديسة، ميس الجبل، رميش، الخيام، بالإضافة إلى مزارع شبعا وقرية الغجر، حيث يستمر الجدل حول السيادة عليها. ويُعدّ هذا الخطّ "حدوداً مؤقتةً" لأغراض عملية، ولا يمثل حدوداً دوليةً رسميةً معترفاً بها.
يقول أستاذ القانون علي مراد، لرصيف22: "من الناحية القانونية إسرائيل لم تسعَ يوماً إلى ضمّ أجزاء من الجنوب كما في الضفة وغزّة والجولان، ولم تسعَ إلى بناء مستوطنات، بمعنى أن الاحتلال في الجنوب كان مؤقتاً وليس دائماً بالمعنى القانوني، ولكن من الناحية الزمنية والسياسية، احتلال الجنوب استمر 20 عاماً".
كان أهل الجنوب عرضة للاعتقال والخطف والتعذيب قبل العام 2000، واليوم باتوا يتأرجحون بين الخوف من عودة تلك الأيام، أو عدم العودة إلى منازلهم على الإطلاق.
لكن على الرغم من أن هذا الاحتلال للجنوب قصير نسبياً، إلا أنه ترك ذاكرةً ثقيلةً جداً لدى الجنوبيين من تكرار شكل الحياة السابق. يروي عباس يوسف، وهو لبناني من ضيعة الجبين الحدودية، كيف كانت الحياة خانقةً في أثناء الاحتلال الإسرائيلي للجنوب قبل العام 2000، وكيف كان يتعيّن عليه الحصول على تصاريح أمنية لزيارة منزله، وكيف كان الجوّ مملوءاً بالخوف من الاعتقال أو الهجمات المفاجئة من قبل الجيش الإسرائيلي أو ميليشيا جيش لبنان الجنوبي "قوات لحد" المدعومة من إسرائيل.
وبحسب مقابلته مع "Arab American News"، كان أهل الجنوب دائماً عرضةً للخطف أو التعذيب. ويستذكر أنّ امرأةً من أسرته تعرضت للاعتقال بعد أن حاولت حماية جارتها من هجوم ميليشيا جيش لبنان الجنوبي، وهي تجربة مأساوية تظهر مدى خطورة الوضع للسكان المحليين.
بعد الجدار العازل، مناطق عازلة حول إسرائيل… شمالاً وجنوباً
"سهرنا كل الليل ع الأخبار، وكل الوقت أنا وعم إسأل حالي، إنو هيك؟ هيك أهلنا عاشوا خبر الاجتياح بالـ82؟ خسرت الجنوب، وحسّيت إني خسرت بابا من أول وجديد. عم ببكي الورود اللي زرعها. بابا عمّر بيتنا بالـ2006 بعد ما الإسرائيليين دمّروه، بس ما خطر ببالنا ولو لمليون سنة، إنّو ح ياخدو كل شي هلق".
مريم التي قالت هذه الكلمات لرصيف22، والتي نزحت ثلاث مرات من الجنوب إلى الضاحية فالجبل، تخاف، حالها حال الكثير من الجنوبيين، من ألا تعود إلى منزلها في عيتا الشعب، لأن منزلها وآلاف المنازل غيره في أكثر من 80 قريةً وصلتها "أوامر إخلاء" من الجيش الإسرائيلي في الجنوب اللبناني، توصف في الدعوات المتطرفة الإسرائيلية بلفظ واحد مخيف "منطقة عازلة" أو "شريط مفرغ من السكان".
خوف مريم ونزوحها لا يختلفان عن خوف ونزوح نورهان من شمالي غزّة، التي تحدثت في تقرير لـ"UN Women"، عن تجربة هروبها ورعبها من عدم العودة، فبرغم أنها كانت تتمسك بالبقاء في منزلها في شمالي غزّة، إلا أن تدمير منازل جيرانها دفعها إلى مغادرته تاركةً خلفها أحلامها وذكرياتها. في محاولة منها لجمع بعض ممتلكاتها، رأت الشوارع مليئةً باليأس والعائلات التي فقدت كل شيء.
قبل بضعة أشهر، وردت تقارير في صحف أمريكية مثل "Wall street Jornal" و"CNN"، تفيد بأن إسرائيل تخطط لإنشاء منطقة عازلة داخل قطاع غزّة، وهو ما سيؤدي إلى اقتطاع نحو 16% من مساحة القطاع الإجمالية، خاصةً في المناطق الشمالية. ووفقاً للتقارير، فهذا المشروع يتضمن تدميراً واسعاً للبنية التحتية والمباني في تلك المنطقة، مع إخلاء كبير للسكان، وهو ما يعدّه كثيرون بمثابة محاولة لتغيير الحدود بشكل غير رسمي عبر "منطقة آمنة" جديدة تخضع للسيطرة الإسرائيلية.
وفي الآونة الأخيرة، برزت تصريحات إسرائيلية تدعو لإعادة إنشاء منطقة عازلة في جنوب لبنان. في أيلول/ سبتمبر 2024، دعا قائد القيادة الشمالية للجيش الإسرائيلي الجنرال أوري غوردين، إلى "احتلال جزء من جنوب لبنان لتشكيل منطقة عازلة تهدف إلى إبعاد مقاتلي حزب الله عن الحدود الإسرائيلية".
وبحسب دعوته، فالغرض من هذه الخطوة هو "تقليل التهديدات التي يشكّلها حزب الله على شمالي إسرائيل وضمان عودة الآلاف من الإسرائيليين الذين تم إجلاؤهم من المناطق الحدودية بعد تصاعد التوترات".
وتشير تقارير أمريكية وإسرائيلية إلى أن وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت، أيضاً ناقش هذه الفكرة مع القيادة العسكرية الإسرائيلية. وتم تبرير هذه الدعوات بأنها وسيلة لتأمين الحدود الشمالية لإسرائيل من هجمات حزب الله.
هذه الدعوات -التي تجد معارضةً داخل الجيش الإسرائيلي نفسه- تأتي في ظل انخفاض كبير في أعداد السكان المدنيين في جنوب لبنان، حيث يُقدّر أن 20% فقط من السكان لا يزالون في قراهم، ما يسهّل تنفيذ العملية العسكرية بشكل أسرع وأسهل بحسب القادة الإسرائيليين.
أما الهدف الثاني من إنشاء هذه المنطقة العازلة -بحسب الدعوات الإسرائيلية- فهو استخدامها كورقة ضغط في المفاوضات المحتملة مع حزب الله، حيث سيحاول الطرفان التوصل إلى اتفاق لإخراج القوات الإسرائيلية.
ومع ذلك، هناك تباين في الآراء داخل القيادة الإسرائيلية حول هذه الخطة، إذ يخشى بعض القادة من أن تؤدي إلى حرب واسعة مع حزب الله، ما يزيد من تعقيد الموقف الأمني في المنطقة.
على المستوى العسكري قائد القيادة الشمالية للجيش الإسرائيلي الجنرال أوري غوردين هو أكثر المتحمسين لإنشاء منطقة عازلة تُقتطع من جنوب لبنان، بينما يعتبر وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت الداعم الأبرز في المستوى السياسي الإسرائيلي
تقول مديرة المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية "مدار"، هنيدة غانم: "من الصعب جدّاً التنبّؤ بما يمكن أن يحدث، لكن من الواضح أن إسرائيل تفككت وتخففت من كل المحاذير والقوانين الدولية، وتالياً لدينا مزيج من الشعور بالنشوة والشعور بالقوة بالإضافة إلى مساحة واسعة للعمل، كل هذا في ظل عدم وجود ضغط دولي حقيقي أو جدّي يجبرها على اتفاق سياسي، وتالياً مع الأجواء في إسرائيل في ظلّ ما يمكننا تسميته بحرّية العمل العسكري، لا أستغرب أن يتم إبعاد هؤلاء الناس عن قراهم ومنعهم من العودة، لا أستبعد ذلك على الإطلاق".
وتضيف لرصيف22: "الأجواء الإسرائيلية تدفع بهذا الاتجاه، ونحن في مرحلة خطرة جداً، إنما كيف يمكن أن تتدحرج الكرة في الأيام المقبلة؟ هناك عوامل حاسمة لم تحدث بعد، كشكل المواجهة مع إيران، وإمكانية التوصل إلى اتفاق في المرحلة القريبة، وعلى أساسه سوف يعاد ترتيب العلاقة مع لبنان والمنطقة، لكن إذا أكملت إسرائيل بالطريقة الحالية، لا أستبعد سعيها لخلق مساحة (شريط أمني) مفرغة من السكان، وأن يستمر هذا الوضع لسنوات طويلة".
لكن الجنوب ليس غزّة!
"يعني ما بيعرف الواحد شو يحسّ. ما بيعرف شو يعمل وشو يقول، مش قادرة أصلاً أتخيّل الفكرة إنو ممكن ما نرجع. صعب تتفاءلي مع كل شي عم يصير، والأصعب الإحباط يلي عم يحاول يسيطر عليكي كلياً".
هكذا تقول زينب (متزوجة وأمّ لطفل)، التي نزحت مع عائلتها من عيتا الشعب إلى ضيعة تبنين، في تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، ومنها إلى ضيعة حدّاثا، وقبل أسبوعين مع اشتداد القصف نزحوا للمرة الثالثة إلى الحمرا في بيروت، حيث قضوا ليلتهم في الشارع، قبل أن ينزحوا إلى الجبل قبل يومين.
مع تكرار عناوين إخبارية من نوع "سيناريو غزّة في لبنان"، ومع تاريخ مليء بالتهجير والاحتلال والمذابح عاشه كل من جاوروا إسرائيل، لا يبدو إحباط زينب مبالغاً فيه، لكن بعض المحللين السياسيين لا يعتقدون بوجود سيناريو تهجير أو احتلال.
من هؤلاء المفكّر والكاتب الفلسطيني حسن خضر، الذي يقول لرصيف22: "المهم التفكير دائماً على طريقة الإسرائيليين؛ 'أفضلّ حلّ دائم هو المؤقت'، وهم بصدد تجريب أكثر من مؤقت في الوضع الحالي، فالواقع الآن مختلف عما كان عليه عام 1948".
يرى بعض المحللين من لبنان وفلسطين بأن تكرار سيناريو إخلاء شمال غزة في الجنوب اللبناني مستبعد، لعدة عوامل أبرزها العامل التاريخي وعدم تطابق الوضعين العسكري والسياسي.
ويضيف خضر، في حديثه إلى رصيف22: "لا يوجد اتفاق بين صنّاع القرار الإسرائيليين بشأن اليوم التالي في لبنان. ترجيح خيار على آخر يعتمد على نتائج القتال على الأرض. إنما من ناحية أخرى، هناك ميل جدّي إلى الاحتفاظ بالأرض في غزّة وجنوب لبنان، على اعتبار أن أشدّ سلاح للردع هو فقدان العدوّ للأرض إذا تجاوز الحدّ، يجد هذا الرأي صدى في أوساط المستوطنين، ولكن الجيش ضدّ هذه الخطوة لأسباب اقتصادية".
يشاركه الرأي الكاتب الصحافي اللبناني داوود رمال، إذ يقول: "في اعتقادي، هذه التهديدات الإسرائيلية مرتبطة بالشروط السياسية التي سبق لنتنياهو أن أبلغها للموفد الرئاسي الأمريكي آموس هوكشتين، الذي أبلغها بدوره في زيارته الأخيرة للمسؤولين اللبنانيين، والتي تقول بأن الإسرائيلي يقبل بتنفيذ القرار 1701 بلاس، بمعنى أن هناك إضافةً إلى القرار وهي الترتيبات الأمنية، وهذه الترتيبات لا تقتصر على جعل منطقة جنوب الليطاني خاليةً من السلاح وحزب الله، باستثناء الجيش اللبناني واليونيفيل، بل يريد الإسرائيلي أن يكون كل الجنوب إلى خطّ الأوّلي بعمق 50 كيلومتراً، خالياً من أيّ سلاح، وهذا الاقتراح رفضه الجانب اللبناني الذي تمسك بتطبيق القرار 1701 والعودة إلى المفاوضات على تثبيت الحدود البرّية".
ويضيف: "نعم، اليوم وصلنا إلى مكان آخر. يمكننا تشبيه ما يحدث اليوم بما حدث في العام 1982، خلال الاجتياح، لكن دون أن تدخل إسرائيل برّياً وصولاً إلى احتلال بيروت، فالآن هي تحتل بالنار، سواء بالسيطرة الجوية أو البحرية، بعدما دفعت بسلاح البحر للدخول إلى المعركة، فالبوارج هي التي تقصف الضاحية الجنوبية بالإضافة إلى الغارات الجوية، وفي اعتقادي أنه فور انتهاء الدول الأجنبية من نقل رعاياها من لبنان سنشهد حصاراً جوياً على حركة الطيران من مطار بيروت. لقد أصبح واضحاً أن هذا التصعيد يهدف إلى دفع المجتمع الدولي إلى ممارسة ضغوط على الجانب اللبناني للقبول بنسبة كبيرة من الشروط الإسرائيلية، وفي اعتقادي لبنان لن يقبل، لأن أي قبول بما هو خارج القرار 1701، يعني نقل المشكلة إلى الداخل اللبناني، ولبنان لا يحتمل التداعيات التي شهدها بعد حرب 2006، كالاحتجاجات في بيروت ونصب الخيم والاحتجاج الذي امتد لقرابة السنتين، ومن ثم أحداث 7 أيار/ مايو، والانتقال إلى الدوحة. ما يحتاجه لبنان الآن، مبادرة عربية سريعة بدعم غربي على رأسه فرنسا المهتمة جداً بالملف اللبناني، بشقّين إنساني وسياسي، لإعادة لبنان إلى الحضن العربي، والتخفيف من التأثيرات الإيرانية التي لها علاقة بقرار السلم والحرب، ورعاية دولية للواقع الاقتصادي وإعادة الإعمار".
ويختم: "الكرة الآن في الملعب الإسرائيلي، لا أحد يعلم ما هو السقف الزمني الذي أعطاه الغرب وعلى رأسه الولايات المتحدة لنتنياهو، للمضي بعملياته العسكرية في لبنان. البعض يقول 6 أسابيع، والبعض يقول إن الأمور قد تذهب طويلاً كما حدث في غزّة. نتمنى ألا تطول الأمور، وأن يكون هناك حلّ يحفظ التوازنات اللبنانية، لأن أي خلل في الحلّ سيعيد إنتاج أزمة لبنانية خطيرة جداً وفي اعتقادي هذا ما يريده الإسرائيلي".
مناطق مفرّغة من السلاح أم من السكان؟
يقع نهرا الليطاني والأوّلي في جنوب لبنان، لكنهما يبعدان مسافات مختلفةً عن الحدود اللبنانية الجنوبية مع إسرائيل.
إذ ينبع الليطاني من البقاع الغربي، ويتجه جنوباً عبر سهل البقاع، ثم ينحرف غرباً ليصبّ في البحر الأبيض المتوسط مبتعداً عن الحدود اللبنانية الجنوبية مسافةً تتراوح بين 20 إلى 30 كيلومتراً في أقرب نقطة له من الحدود، وقد اتخذ "شهرته السياسية" نتيجة ارتباطه بالقرار 1701.
أما نهر الأوّلي، فيقع بالقرب من مدينة صيدا في جنوب لبنان، وهو أقصر من نهر الليطاني من حيث العرض، إنما يبعد عن الحدود نحو 35 إلى 40 كيلومتراً.
يلعب هذان النهران دوراً مهماً في الإستراتيجيات العسكرية التي تدرسها إسرائيل، حيث غالباً ما يتم اقتراح نهر الليطاني كنقطة مرجعية في الخطط الإسرائيلية لإبعاد حزب الله عن الحدود الشمالية. لكن ظهور اسم نهر الأوّلي مؤخراً، كحدّ فاصل جديد في التصريحات الإسرائيلية، يعكس انزياحاً كبيراً ومضاعفاً في المنطقة المراد تفريغها من السلاح في أحسن الأحوال، ومن السكان في أسوئها.
في الآونة الأخيرة، خرجت دعوات عدة من إسرائيل لإقامة منطقة عازلة على الحدود مع لبنان، منها الدعوات العسكرية، وأهمها دعوة الجنرال أوري غوردين، حين طالب بإقامة منطقة عازلة على الحدود بهدف إبعاد قوات حزب الله إلى ما وراء نهر الليطاني.
لكن المطالبات العسكرية لا تشكّل خطراً ما لم تحظَ بدعم سياسي، وعلى رأس القادة السياسيين المؤمنين بضرورة تفريغ الجنوب اللبناني من السلاح والسكان لإقامة المنطقة العازلة، وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت.
خلط الأوراق لعبة معروفة في السياسة الإسرائيلية، كخلط قتل المدنيين مع المقاتلين، وخلط مفاهيم المنطقة العازلة مع المنطقة منزوعة السلاح مع المنطقة المفرغة من السكان وصولاً إلى الأمر الواقع وتثبيته، فعلى سبيل المثال كانت التصريحات الإسرائيلية في بداية الاجتياح البرّي لشمالي غزّة والمتزامنة مع تحذيرات الإخلاء، تدّعي بأن هدفها القضاء على حركة حماس، ومن ثم إعادة السكان إلى الشمال. أما اليوم، فقد أصبح تفريغ الشمال الغزّي واقعاً، وبدأت خطط الاستيطان في غلاف القطاع تتسرب شيئاً فشيئاً. فما الذي يضمن واقعاً مختلفاً لجنوب لبنان؟
بحسب الوقائع ومصادر متعددة، أصبحت المنطقة الممتدة من الحدود اللبنانية إلى 15 كيلومتراً شمالاً، شبه خالية من السكان، بينما بدأ العديد من سكان القرى بالنزوح من تلقاء أنفسهم لمسافات أبعد شمالاً، ما يقرّب الصورة المرغوبة لدى الجماعات الإسرائيلية التي تدعو للاستيطان في الجنوب اللبناني.
"أرزة محاطة بنجمة داود"... من هم حركة عوري هتسفون؟
أبرز الحركات الاستيطانية التي تدعو لإقامة "إسرائيل الكبرى"، في الجنوب اللبناني، هي حركة "عوري هتسفون" التي ترفع شعار شجرة أرز تحيط بها نجمة داود، والتي تروّج بحسب أحد مؤسسيها "إلياهو بن أشير"، لأهمية القتال من أجل إحياء "لبنان كوطن يهودي مزدهر كجزء من أرض إسرائيل الكبرى"، وكخطوة أولى حتى حدود تركيا والعراق. والتي يتسلى أعضاؤها بإرسال طائرات درون إلى الجنوب اللبناني تطلب من السكان المغادرة لأن "هذه أرض إسرائيل".
هذه الحركة التي تنمو بشكل متزايد وسريع بحسب المصادر الإسرائيلية، تأسست تخليداً لذكرى يسرائيل سوكول، الجندي الإسرائيلي البالغ من العمر 24 عاماً والذي قُتل في أثناء القتال في غزّة في كانون الثاني/ يناير الماضي، والذي -وفقاً لعائلته- لم يكن يحلم بالمستوطنات الإسرائيلية في غزّة بل في لبنان.
بحسب الوقائع ومصادر متعددة، أصبحت المنطقة الممتدة من الحدود اللبنانية إلى 15 كيلومتراً شمالاً، شبه خالية من السكان، بينما بدأ العديد من سكان القرى بالنزوح من تلقاء أنفسهم لمسافات أبعد شمالاً، ما يقرّب الصورة المرغوبة لدى الجماعات الإسرائيلية التي تدعو للاستيطان في الجنوب اللبناني
يقول يعقوب سوكول، شقيق يسرائيل، في إحدى المقابلات: "لقد كانت بيننا أنا ويسرائيل نكتة مفادها أننا سنعيش في لبنان، لكن النكتة كانت دائماً جادّةً. إنها الأرض التي يجب أن تكون في أيدينا".
بعد وفاة يسرائيل، تحدث عاموس عزاريا، الأستاذ الناشط في الحركة المتنامية لإعادة إنشاء المستوطنات الإسرائيلية في غزّة، مع عائلة سوكول، حول كيفية تحقيق حلم يسرائيل، وهي المحادثات التي أدّت إلى تأسيس حركة "أوري تزافون". وفي الأشهر القصيرة الماضية التي تلت إطلاقها، نمت المجموعة بسرعة قياسية، حيث تضم منتديات واتساب الرسمية الخاصة بها الآن، نحو 3،000 عضو من جميع أنحاء إسرائيل.
في هذه المساحات الافتراضية، يتبادل القادة بانتظام صور الانفجارات في شمالي إسرائيل ولبنان؛ ويتم تداول انتقادات مفصلة لسياسة إسرائيل التي يفترض أنها سهلة الانقياد في المنطقة، واقتراحات لأسماء عبرية لاستبدال أسماء البلدات اللبنانية القائمة، وإعلانات لرحلات التجديف المستقبلية في جنوب لبنان تحمل عبارة: "إنه ليس حلماً، إنها حقيقة".
يعقّب المؤرخ الفلسطيني من حيفا على ظهور هذه الجماعات بالقول: "يسود اعتقاد لدى قطاعات واسعة من اليهود والإسرائيليين، سواء كانوا متدينين ومتمسكين بحرفية التوراة أو علمانيين من اليمين على أشكاله، بأن لبنان جزء من الأرض الموعودة من الله للشعب المختار. وقد وردت في التوراة نصوص كثيرة تشير إلى ذلك في أسفار عدة منها: نشيد الإنشاد وحزقيال وتثنية وغيرها. ويعدّ هؤلاء أن جبال لبنان المرتفعة تقابل القدس وجبال أرض الميعاد التي تنخفض عنها، وأن العلاقة بين سليمان الملك وحيرام ملك صور كانت وثيقةً بفعل المصالح المشتركة، ومن أبرزها التجارة. كما أن أرز لبنان مذكور في التوراة كأفضل الأشجار، وكلها عطايا من الله لشعبه".
سعياً لتحقيق الرؤسة التوارتية، ظهرت جماعات استيطانية ترفع شعار أرزة محاطة بنجمة داود، مع اقتراحات لأسماء عبرية لاستبدال أسماء البلدات اللبنانية القائمة، وإعلانات لرحلات التجديف المستقبلية في جنوب لبنان تحمل عبارة: "إنه ليس حلماً، إنها حقيقة"
ويضيف المتخصص في التوراتيات، لرصيف22: "وعليه، فإن اعتبار لبنان استمراريةً لأرض الميعاد على حد زعمهم، يدفع بهؤلاء إلى تبنّي فكرة طرد الشعوب المعتدية، والتي لا حقّ لها في الوجود على أرض لبنان، لأنها شعوب غريبة (غوييم)، وعلى الشعب المختار-شعب الله، إخلاء القرى والمدن والاستيلاء عليها وتدميرها أو الاستفادة منها. هذه العقيدة الدينية تمت ترجمتها في العام 1948، بقوة كبيرة، ويجري الآن الحديث عن العقيدة نفسها تجاه لبنان، أقلّه في الحيز الجنوبي من نهر الليطاني. وهذا يعني الربط بين النص ومخططات التوسع والاستيلاء والاحتلال والطرد".
ويضيف: "نحن أمام مشروع تشريع الحق اليهودي في لبنان، والعمل على الإخلاء-الاقتلاع من أجل إحلال المستوطنين الذين يحققون بذلك خلاص (يشوعا) الأرض من الغرباء الذين أفسدوها".
لكن رمّال يختم برؤية سياسية مختلفة، إذ يقول: "وضع الجنوب يختلف عن وضع غزّة كلياً، ويختلف عن تهجير الفلسطينيين عام 1948 أو 1967. التهديدات الإسرائيلية التي لها علاقة بإبعاد الجنوبيين عن مدنهم وبلداتهم وقراهم إلى شمال خط نهر الأوّلي، هي استحضار للتهديدات نفسها التي أطلقتها إسرائيل قبل اجتياح 1982، وهي ليست تهديدات جديدةً، وإمكانية أن تقتطع إسرائيل من الأراضي اللبنانية مستبعدة، فالإسرائيلي يعلم أنه لا يستطيع الغرق مجدداً في الوحول اللبنانية وإعادة إنتاج التجربة ذاتها التي كلّفته كثيراً طوال احتلال الحدود من 1978، ومن ثم توسيع هذا الشريط عام 1982، والذي امتد إلى 25 أيار/ مايو 2000".
التدرّج في عملية تفريغ السكان
في البداية، ومنذ 23 أيلول/ سبتمبر الماضي، كانت تحذيرات الإخلاء التي ينشرها الناطق باسم الجيش الإسرائيلي على صفحته على منصة إكس، عامةً، ولم يذكر قريةً باسمها، وكان يكتفي بدعوة السكان للابتعاد عن أي مقرّات عمل لحزب الله أو مخازن أسلحة يعرفونها لأن الجيش سيقصفها، في ما يبدو أنها كانت خدعةً لمراقبة بؤر الهروب ومن ثم استهدافها.
ثم تطورت لغة الأوامر الإسرائيلية للسكان في الـ24 من الشهر نفسه، من الإخلاء إلى التحذيرات الشديدة من العودة إلى منازلهم. ولاحقاً بتاريخ 28 من الشهر نفسه، إلى تحديد مناطق بعينها، مثل الضاحية الجنوبية، والجنوب، والبقاع، وفي 30 أيلول/ سبتمبر، بدأت التحذيرات الإسرائيلية بتحديد مناطق بعينها، فنزل أول تحذير يدعو السكان المتواجدين بالقرب من الليلكي، حارة حريك، وبرج البراجنة للابتعاد عن تلك المناطق.
ثم بدأ الجيش بنشر صوراً جويةً محددةً للسكان بالابتعاد والمغادرة، إنما اللافت أن الصور الجوية المحددة كانت حصرياً في الضاحية الجنوبية، أما القرى والبلدات فكانت تصلها تحذيرات الإخلاء كاملةً دون تحديد موقع.
في 1 تشرين الأول/ أكتوبر الجاري، نشر أدرعي أول تحذير واضح يطالب من غادروا المناطق الواقعة جنوب الليطاني بعدم العودة "حفاظاً على حياتهم"، وفي اليوم نفسه، بدأت أسماء القرى الجنوبية تتوالى وتُحدّد بالاسم ليصل مجموعها إلى قرابة 90 قرية وبلدةً، واليوم، القرى التالية شبه خالية من سكانها في لبنان:
يارون، عين إبل، مارون الراس، الطيري، حداثا، عيتا الجبل (الزط)، الجميجيمة، تولين، دير عامس، برج قلويه، البياضة، زبقين، جبال البطم، صربين، الشعيتية، كنيسة، الحنّية، معركة، غندورية، دير قانون، مالكية الساحل، برج الشمالي، إبل السقي، صريفا، دير قانون النهر، العباسية، الرشيدية، بنت جبيل، عيترون، بيوت السياد، المعشوق، البص، شبريحا، طير دبّا، البرغلية، مخيم القاسمية، النبي قاسم، برج رحال، عين بعال، محرونة، بافليه، دير كيفا، أرزون، دردغيا، ضهر برية جابر، جبل العدس، شحور، حنّيه، السماعية، البازورية، مزرعة شدعيت، مروحين، شيحين، أم التوت، ام توتة، بستان، الزلوطية، يارين، الضهرية، مطمورة، الجبّين، طير حرفا، أبو شاش، علما الشعب، الناقورة، عين شمع، راس البياضة، مجدل زون، المنصوري، القصيبة، مزرعة بيوت السياد، دونين، تامرية، مجدل سلم، القصير، عدشيت القصير، دير سريان، دير ميماس، القليعة، حولا، ميس الجبل، بليدا، محيبيب، شقرا، برعيشت، قبريخا، كونين، بيت ياحون، بني حيان.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 21 ساعةمتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ يومينعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع