شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!
بحثتُ عن

بحثتُ عن "سرّ الوردة" فسمعتُ "منادياً ينادي للإيمان"

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن والخطاب الديني

الأحد 2 فبراير 202510:41 ص

تندرج هذه المادة ضمن ملف "هنا نفتح القرآن معاً، ويشعّ الحبّ"، في رصيف22.


إذا سُئلتُ يوماً: "ما هو سرّ إيمانك؟"، سأجيب بالآية التالية، من دون أدنى شك أو تعلل: "رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا" (آل عمران، 193).

ولعل بداية هذه الرحلة، جاءت عندما كنت في الرابعة عشرة من عمري، حيث كنت مع أسرتي على متن طائرة ظلّ محركها يحترق لأكثر من ساعة ونصف ونحن نحلّق بها، ولم تسمح لنا المطارات المختلفة بالهبوط الاضطراري، لأن هناك احتمالاً كبيراً بحدوث انفجار، وكان لا بد من نفاد وقود الطائرة. لهذا السبب كان الخيار الأفضل هو العودة إلى المطار الذي أقلعنا منه، لا سيما أنه كان يتمتع بمرافق كثيرة تسهّل مواجهة الحوادث المماثلة. كما أذكر أن الطيّار وقف أمام الركّاب في حيرة وارتباك وقال: "لدي زوجة وأطفال أيضاً، سأفعل كل ما بوسعي، لكن دعونا نصلّي... آملين أن تنقذنا الصلاة".

كأن والدي كان صديقاً للموت؛ كان يقول دائماً: "لا بُدّ من الرحيل، في أي وقت أو أي شكل من الأشكال". كان يردّد هذا باستمرار، حتى ذلك اليوم، عندما انتصر السرطان أخيراً، وطرحه أرضاً في منتصف غرفته

ولا أزال أتذكّر حالة الخوف والحيرة التي كانت تسيطر على الأجواء. كان مقعدي بجوار النافذة، وكنت أرى الدخان الأسود المنبعث من محرك الطائرة، وفي عالم المراهقة، شعرت بأنه لا تزال هناك إرادة عليا يمكنها أن تُنجينا من هذا الجحيم إذا أرادت ذلك. كانت عينا والدتي مليئتَين بالدموع، تردّد الصلوات باستمرار، وعلى الرغم من أنها حاولت عدم نقل خوفها وقلقها إلي وإلى أخي البالغ من العمر تسع سنوات، إلا أنني كنت أرى أنها لم تكن قلقةً على حياتها بقدر ما كانت قلقةً علينا أنا وأخي. أما وجه والدي... تلك الصورة كان لها أثر كبير في تكوين معتقداتي، وهي الصورة ذاتها التي ظهرت على وجهه، عندما تمّ تشخيص إصابته بالسرطان بعد ثلاثين عاماً.

كأن والدي كان صديقاً للموت؛ كان يقول دائماً: "لا بُدّ من الرحيل، في أي وقت أو أي شكل من الأشكال". كان يردّد هذا باستمرار، حتى ذلك اليوم، عندما انتصر السرطان أخيراً، وطرحه أرضاً في منتصف غرفته، فجأةً ومن دون أي مقدّمات؛ عندما كانت يده اليمنى في يدي، وأخي يمسك بيده اليسرى، وأمي وزوجتي تجلسان أمامه. كان هادئاً للغاية، حيث إنّه قبل ساعات قليلة، وبينما كان من الواضح أنه يعاني من ألم شديد، كنا ننظر إلى زهور نيسان، وهمس من دون مقدمة:

"من لم يمت غبطةً يمت هرماً... للموت كأس والمرء ذائقها".

ملامح وجه أبي هذه ذاتها شاهدتها في أثناء تلك الرحلة. ربما كانت نظرته إلي هي التي أعطتني الشعور بأن "القدير" الذي يستطيع أن يجعل المستحيل ممكناً موجود هنا، وأنّه قريب مني، وكان الأمر كما لو أنني أشعر بأنفاس ذلك القدير على رقبتي. واعتقدت أنني إذا أدرت رأسي أكثر قليلاً، فستكون نظرته بجوار وجهي تماماً وسنكون وجهاً لوجه. كان هذا الشعور مذهلاً ومهيباً إلى درجة أنني لم أملك الشجاعة لأدير وجهي، وكأن الذي كان أقرب إليّ من حبل الوريد، لم تكن له حتى صفة من الصفات، إلا أن فهمه أكبر من طاقتي. مرّت سنوات على هذا، وما زال هذا الشعور يرافقني حتى يومي هذا.

كان أستاذي يقول: "الشك ليس آفة اليقين، بل هو الطريق الوحيد للوصول إلى اليقين. قد لا تكون الحياة المؤمنة سوى هذا الهوس والخوف والأمل الدائم". 

وفي هذا الطريق الذي لا نهاية له، وبالإضافة إلى هذه التجارب، كان لتعاليم الأساتذة الذين وضعوا حياتهم في طريقي، شخصياً أو على هيئة كتاب أو حتى افتراضياً، دور مهمّ، خاصةً الذين كنت أعتقد أنهم آمنوا بكلامهم وعاشوه، ولهذا كان لكلامهم التأثير الأكبر في مسيرتي.

دعونا لا نذهب بعيداً، ففي ليالي رمضان العام الماضي، كنت جالساً أمسك بيدي مصحفاً، وأقرأ القرآن الكريم، وكنت في حيرة من أمري، حيث كنت أتحدّث إلى الله من دون أن أعرف من وماذا وكيف يكون هذا الإله، فلسنوات عديدة، كنت أسمع هذه المقولة: "كل ما يتبادر إلى ذهننا بأيّ بُعد وعمق ودقّة، لا يزال من صنعنا". إذاً، إلى أين تقودنا معرفة الخالق؟

"كُلّ مَا مَيَّزْتُمُوهُ بِأَوْهَامِكُمْ فِي أَدَقِّ مَعٰانِيهِ مَخْلُوقٌ مَصْنُوعٌ مِثْلُكُمْ مَرْدُودٌ إِلَيْكُمْ"، هكذا نُقل عن الإمام الباقر.

كنت ظمآن ومُرتوياً بالحديث مع إلهٍ لا أعرفه، ربما لو كانت هذه الحيرة قد أصابتني منذ سنوات لارتبكت. ولكنني سعيد الآن.

عندما كنت صغيراً، ولا أزال طالباً في الفلسفة، قال لي ذات مرة الأستاذ الذي كان دقيقاً وصارماً للغاية في فلسفته: "يجب عليك أن تدرس الفلسفة لتعرف أنّ الإجابة ليست هنا؛ فهنا لا تجد إلا السؤال". لقد حالفني الحظّ بأن يكون لي أستاذ آخر كان يختلف عن الأوّل، حيث بدأ درسه ببيت شعري لحافظ الشيرازي:

"ما هو سرّ هذا الجميل المرتفع؟ (السماء)... سرّ هذا اللغز لا يعرفه أيّ امرئٍ".

هذا "الجميل المرتفع"، هذه السماء البسيطة ذات آلاف الصور، التي تكون الغيوم فيها في أثناء النهار حالمةً وفي الليل يكون وميض النجوم مليئاً بالغموض. ما هذا السقف العالي الخالي من الأعمدة، بكل ألوانه وجماله؟ يزعم حافظ، بأن المتصوّفة والفلاسفة والحكماء، مهما كانوا، لا يعرفون الإجابة الكاملة، وكل منهم أزاح زاويةً بسيطةً واحدةً فقط من ستار أسرار السماء.

لأسابيع عديدة، تحدّث الأستاذ الجديد في ذلك الفصل عن لغة الكتب المُقدّسة والمدارس التفسيريّة والمناقشات اللغوية، التي "لا توصَف" عندما تريد صياغتها بالكلمات، فلا مفرّ من أن تختار طريق الاستعارة، حيث إن الفهم الموضوعي للمتحدث والجمهور هو الأساس ويساعد في نقل المحتوى، ولذلك يجب تحديد القصة في سياق الفهم اللغوي للجمهور.

القصّة، وما أدراك ما القصة! كان أستاذي يقول: "الشكّ ليس آفة اليقين، بل هو الطريق الوحيد للوصول إلى اليقين. قد لا تكون الحياة المؤمنة سوى هذا الهوس والخوف والأمل الدائم". وفي نهاية الفصل الدراسيّ نقل عن الشاعر الإيراني المعاصر سُهراب سِبِهري، هذه الأبيات:

"ليس شأننا أن نعرف سرّ الوردة

شأننا رقد يكون

أن نطفو في سِحر الوردة".

أريد الآن أن أغرق فيه، وأن أُضحي بنفسي له، وأن أهلك، حتى لا أرى سوى وجهه في أي مكان. نعم، لقد اتّبعت دعوةً، والآن لم أسمع دعوةً واحدةً، بل دعوات عديدةً

هذه النظرة التي كانت بمثابة رشّة ماء على نار روحي المضطربة، تطفو بسعادة كأعجوبة. والآن، إذا سئلت: "ما هو دليل إيمانك؟"، فليست لدي إجابة من منطلق العلم والفلسفة والتصوّف واللاهوت. لا أعرف، لا أعرف، فلقد سمعت قصة ذلك الإله الذي كان أقرب إليّ من حبل الوريد وأنا في الرابعة عشرة من عمري، برواية الرّسول محمّد بن عبد الله. ربما يكون غيري قد سمع قصّة عيسى وموسى وسقراط وبوذا وحكماء أمريكا الأصليين، ولكنّي فضّلت قصة محمّد.

طوال هذه السنوات، وفي أثناء سفري حول العالم، كنت أبحث عن "سرّ الوردة" في قصص الآخرين؛ ولم يقتصر الأمر على لقائي علماءَ مسيحيين لفترة طويلة، أو تحدّثي إلى رهبان بوذيّين، فأنا حيثما سمعت أحداً يتكلّم عن "الوردة"، يأخذ ذلك الحديث اهتمامي كله.

وبرغم هذا كلّه، بدا لي أنني لم أكن مفتوناً بهذه القصة وغيرها من القصص، فأنا الآن أبحث عن وجهه فحسب، أريد رؤيته من دون أي حواجز:

"وجهك المأمول حجّتنا

یوم یأتي النّاس بالحجج".

ولأنني أعلم أنّ هذا الأمر مستحيل وغير ممكن، أريد الآن أن أغرق فيه، وأن أُضحي بنفسي له، وأن أهلك، حتى لا أرى سوى وجهه في أي مكان. نعم، لقد اتّبعت دعوةً، والآن لم أسمع دعوةً واحدةً، بل دعوات عديدةً، لم يدعُها مبشّر واحد، بل مبشّرون كُثر:

"رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

قد لا توافق على كل كلمة ننشرها…

لكن رصيف22، هو صوت الشعوب المضطهدة، وصوت الشجعان والمغامرين. لا نخاف من كشف الحقيقة، مهما كانت قبيحةً، أو قاسيةً، أو غير مريحة. ليست لدينا أي أجندات سياسية أو اقتصادية. نحن هنا لنكون صوتكم الحرّ.

قد لا توافق على كل كلمة ننشرها، ولكنك بضمّك صوتك إلينا، ستكون جزءاً من التغيير الذي ترغب في رؤيته في العالم.

في "ناس رصيف"، لن تستمتع بموقعنا من دون إعلانات فحسب، بل سيكون لصوتك ورأيك الأولوية في فعالياتنا، وفي ورش العمل التي ننظمها، وفي النقاشات مع فريق التحرير، وستتمكن من المساهمة في تشكيل رؤيتنا للتغيير ومهمتنا لتحدّي الوضع الحالي.

شاركنا رحلتنا من خلال انضمامك إلى "ناسنا"، لنواجه الرقابة والترهيب السياسي والديني والمجتمعي، ونخوض في القضايا التي لا يجرؤ أحد على الخوض فيها.

Website by WhiteBeard
Popup Image