شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!

"المُلك للّه" في أصفهان

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن والتنوّع

السبت 1 فبراير 202510:32 ص

تندرج هذه المادة ضمن ملف "هنا نفتح القرآن معاً، ويشعّ الحبّ"، في رصيف22.


كنت ذاهباً إلى أصفهان، في محلّ يبيع صاحبُه ما صنعه بيده. صناعته اليدوية كانت خزفاً، وحجراً، وزجاجاً. محله كان ترجماناً لأصفهان، كما لو أن أحداً ما تفوّه بكلمة "أصفهان"، كأنه يعني هذه الهيئات والنقوش والخطوط والأقواس.

أعجبتني قطعة بلاط (قاشاني) مكسورة. كان مكتوباً عليها بخطّ عسير على القراءة، حروفه متداخلة في بعضها بعضاً. كان الخط كوفياً، الخط الكوفي البنائي. لم أعرف هذا النوع من الخط الكوفي حتى ذلك الوقت. قلت: أريد هذا. صعد على سلّم صغير، وأنزل البلاط. مسحه بمنديل نديّ، وشرع في لفّه بورق. قلت: ماذا قد كُتب عليه؟ قال: لم تعرف ما ذا كُتب عليه واشتريته؟ قلت: ألم يحدث أن تعجبك أغنية دون أن تفهم لغتها؟ قال: بلى، يبدو لي أن مثل هذا قد حدث لي. 

بعد أن استخدمت إجابته عليه، وفزتُ! قلت: أعجبني لونه الأزرق (التركواز) والأحمر. فقط. 

كدت أقول: أين؟ كيف لا أستطيع قراءة ما تقول على هذا البلاط؟ فإذا به انحنى على البلاط، وحرّك اصبعه عليه ليريني "المُلك" و"لله" بين خطوطه الهندسية الكثيرة

و ساد الصمت. كان واضحاً أن لا حوار سيحدث بيننا حتى نهاية الصفقة. بين خشخشة الورق والشريط اللاصق وصوت المقص، قال: "الملك لله".  تذكرت أنني كنت سألت قبل قليل سؤالاً وقد تُركت إجابته في ثنايا مجادلة عبثية.

كدت أقول: أين؟ كيف لا أستطيع قراءة ما تقول على هذا البلاط؟ فإذا به انحنى على البلاط، وحرّك اصبعه عليه ليريني "المُلك" و"لله" بين خطوطه الهندسية الكثيرة. 

كانت هناك خطوط كثيرة. كثيرة ومتضاربة. حفظت مسار يديه في ذاكرتي وأعدته. وجدتُ "الكلمة" بين "الهندسة" وسحبتها. كانت غريبة. مثل اليوم الأول الذي سمعتها فيه، إلا أن هذه المرة، كان الفرق أنني رأيتها؛ لمستُها بأطراف أصابعي. هذه المرة، كنت أندفع نحوها بأكثر من حاسة.  

كما لو أنك وجدت معنى بين تلّ من العِلم كان يحول دون رؤيتك؛ كما لو رأيت مصباحاً صغيراً في نهاية دهليز معتم: "المُلك"، وإلى جنبها: "لله".

خرجتُ من المحل، بحجة أن: "سأقف خارج المحلّ إلى أن تلفّه".

خلفي كان جامع الشيخ لطف الله وأمامي عمارة "عالي قابو"؛ أملاك بلا ملوك منذ ما يزيد على أربعمئة سنة. في المجال التاريخي نسمي هذه العمارات "الإرثَ الثقافي"، ومفاتيحها تكون بيَدِ مدير دائرة التراث٫ لكنها في الحقيقة ممتلكات الله؛ سواءً عندما كان الشاه عباس الصفوي نفسه يجلس في شرفاتها، وبدل هذا المحل الذي يبيع اليوم البلاطَ والزجاج، كان شخص آخر يبيع شيئاً آخر قبل أكثر من أربعمئة سنة، أم الآن، إذ لا وجود للشاه عباس، بل كنت أنا في هذا العصر أنظر إلى مكانه الفارغ.

كان العالم بلاطاً مصنوعاً باليد، وعِلمي وجهلي معاً، كانا تلك الخطوط المتضاربة، مخطوطةً عليه. نظرتُ إلى الإسفلت تحت عجلات سيارتي، فكان مُلكاً لله

ما زلت لا أعرف لماذا لم أتعرض لحادث سيرٍ وأنا عائد إلى طهران! فكنت أسوق السيارةَ، لكنني لم أكن فيها. كنت خارجها. في فضاء فوق رأسي وفوق كلّ ما يتعلّق بي. كنت أرى نفسي أسوق سيارة "بيجو" سوداء في أوتوستراد أصفهان-طهران، وأنظر لي.

كان العالم بلاطاً مصنوعاً باليد، وعِلمي وجهلي معاً، كانا تلك الخطوط المتضاربة، مخطوطةً عليه. نظرتُ إلى الإسفلت تحت عجلات سيارتي، فكان مُلكاً لله، كما الهضاب على يميني ويساري، وأيضاً كل الأشياء التي كانت معي أو كنتُ تركتُها في البيت. كلّ ما كان معي لم يكن مِلكي تماماً، وما لم يكن لي، لم يكن فراغاً أو خسراناً. ما كان لي كان "للّه"، وما لم يكن، كان أيضاً "للّه".

كان الليل قد حلّ، والطريق كان فراغاً وحسب. كما لو أنني كنتُ عائداً من صالة السينما بعد مشاهدة فيلم جميل، كما لو كنت خارجاً من بين نوطات حفلة موسيقية رائعة. البلاط القديم الذي جلبته من أصفهان كان في كيسٍ على ركبتَي. يدي كانت عليه كما لو أنها على سطح سرٍّ قديم؛ سرّ جميعِ الأسرار؛ شيء سهل وممتنع: المُلك للّه.


* "عبارة 'المُلك لله' المعروفة في نقوش الكاشاني والزخرفة الإسلامية هي إشارة إلى الآية 1من سورة 'التغابن': 'يسبّح للّه ما في السماوات وما في الأرض، له المُلك وله الحمد، وهو على كلِّ شيءٍ قدير'".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

قد لا توافق على كل كلمة ننشرها…

لكن رصيف22، هو صوت الشعوب المضطهدة، وصوت الشجعان والمغامرين. لا نخاف من كشف الحقيقة، مهما كانت قبيحةً، أو قاسيةً، أو غير مريحة. ليست لدينا أي أجندات سياسية أو اقتصادية. نحن هنا لنكون صوتكم الحرّ.

قد لا توافق على كل كلمة ننشرها، ولكنك بضمّك صوتك إلينا، ستكون جزءاً من التغيير الذي ترغب في رؤيته في العالم.

في "ناس رصيف"، لن تستمتع بموقعنا من دون إعلانات فحسب، بل سيكون لصوتك ورأيك الأولوية في فعالياتنا، وفي ورش العمل التي ننظمها، وفي النقاشات مع فريق التحرير، وستتمكن من المساهمة في تشكيل رؤيتنا للتغيير ومهمتنا لتحدّي الوضع الحالي.

شاركنا رحلتنا من خلال انضمامك إلى "ناسنا"، لنواجه الرقابة والترهيب السياسي والديني والمجتمعي، ونخوض في القضايا التي لا يجرؤ أحد على الخوض فيها.

Website by WhiteBeard
Popup Image