تندرج هذه المادة ضمن ملف "هنا نفتح القرآن معاً، ويشعّ الحبّ"، في رصيف22.
عشتُ طفولةً ممتلئةً بكلّ عسير؛ اللقمة بالكاد أحصّلها، والبسمة لا تنمّ عن سرور إنما هي سخرية من زمنٍ غادر. زمنٌ لم يُعطِ أبي المسكين سوى البؤس واليأس، وبرغم ذلك أَصرّ على تعليمي في الأزهر، وإلحاقي بكُتّاب القرية!
أتممت حفظ القرآن وأنا في الثانية عشرة من عمري. مجرّد حفظ، فلا القريحة تجود بتدبُّر مأمول، ولا العقل مُتفرّغٌ لسبر أغوار الآيات، فالفقر كان شغلي الشاغل، والجوع عدوّي اللدود الذي أخشاه أكثر من آيات العذاب.
صدفة، كصدفة أم كلثوم التي أهدت الوجود إليها، جعلت القرآن ربيع قلبي حقاً، والطفل الذي كان لا يأبه برجال القرية حين يبكون لسماع الآيات، بكى لأوّل مرّة من شيء غير مَغبة الفقر!
ذات مساء قائظ الحرارة في بيت لم تدخله "مرْوحة"، وجدني أبي مُكفهرّاً ناقماً على كل شيء. لا أذكر سبباً محدّداً لغضبي؛ لكن كل ما أذكره أنني خُضْتُ حديثاً جادّاً مع أبي بشأن الغد المظلم، حتى لفظها أبي شبه قذيفة في وجهي: "هُوّ أنا مش مكفيك يا ابني"؟!
أرأيتم مدى خطورة تلك الأسئلة المجازية؟ لا أخفيكم سرّاً إنْ قلت لكم إنّ في القرآن أكثر من ثلاثمئة آية وردت فيها كلمة "عذاب"، لا أشعر حيالها بأي خوف، بقدر ما تخيفني الأسئلة المجازية في القرآن!
إن لم تكونوا على دراية بالعاميّة المصرية، فاعلموا أن السؤال الذي يبدأ بالضمير "هو"، أكثر قسوةً منه إذا حُذِف. فالسائل حينها إمّا أنّه يسألك للتوبيخ، وإمّا يرجو منك تأكيد شيء في قرارة نفسه، وفي كليهما هو على علم تامّ بالإجابة!
ذرفتُ الدمعَ مدراراً، وألقيتُ جسدي الضئيل في حضن أبي الواسع برغم ضآلة جسده هو الآخر، وخرجت كلماتي متقطعة: "لا يَابَا... مكفّيني وزيادة، وخيرك مغرّقني... أنا آسف، حقّك على راسي".
كفكف الأب المسكين دموعي وضمّني إليه، وربّت على كتفي بيد، وبالأخرى مسح دمعةً كادت تسقط على وجهي، ثم انتهز فرصة أذان العشاء لإنهاء ذلك المشهد الدراماتيكي!
سبقتُه نحو المسجد، ربما سعياً مني هذه المرة للاعتذار إلى الله، وخيراً فعلت. فالجواب جاءني أسرع مما تخيلت.
لم أكن بكامل تركيزي في الصلاة، حتى نبّهني صوت الجموع وهم يؤمّنون، فقلت معهم: "آمين". بعدها قرأ الإمام بعضاً من سورة "الزمر"، حتى وصل إلى قوله تعالى: "أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ..."، إلخ.
ربّاه، سؤال آخر بنفس المعنى؟!
بكيتُ وبكيتُ وبكيتُ، ثم ردّدت كالمجنون: بلى يا رب، تكفيني وزيادة. تكفيني بالقدر الذي يُغنيني.
أنهيتُ الصلاة وعاهدتُ ربي وأبي على الرضا ما حييت، وفي قرارة نفسي خوفٌ وإجلال لكل سؤال يطرحه عليّ الربُّ في كتابه العزيز.
كبرتُ، وتخرّجت من الأزهر، ثم نزحت إلى العاصمة طامعاً في فضاء رحب، فوجدت من يضيّقه عليّ. شققتُ طرقات القاهرة الأسفلتية بقلب غضّ، فصادفتُ من شيّب الفؤاد قبل الرأس، ومن وأَدَ الحلم الذي ظننته منقذاً لي ولهم، رفعت رأسي إلى السماء، فوجدت الله يقول: "أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ ۖ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِن دُونِهِ".
ظللت أردّد تلك الآية في أيّ نائبة، وأتلوها على كلّ من اسودّت أيامه، وانتهزتُها فرصة للتبحّر في الأسئلة القرآنية.
لماذا يسألنا الله ما دام عالماً بكلّ شيء؟!
أنهيتُ الصلاة وعاهدتُ ربي وأبي على الرضا ما حييت، وفي قرارة نفسي خوفٌ وإجلال لكل سؤال يطرحه عليّ الربُّ في كتابه.
أسئلة الله في القرآن ليست بحاجة إلى إجابة، فالله لا يسأل بغرض الاستفهام بمعناه المجرد، إنما هي أسئلة مجازية تُكسب المعاني طبيعةً تختلف عما هي عليه في صورتها الظاهرة، فتبدو للمستمع أكثر حيويةً، وأشد لفتاً للانتباه، أو كما يقول ابن جني في كتابه "الخصائص": "المُستفهِم عن الشيء قد يكون عارفاً به مع استفهامه في الظاهر عنه، لكن غرضه الاستفهام عن أشياء أخرى".
تلك الأغراض الأخرى للأسئلة المجازية في القرآن الكريم، دأب علماء اللغة على رصدها قدر ما يستطيعون، ففي "الكتاب" عند سيبويه، هناك ذكر لأكثر من غرض للاستفهام، كالتوبيخ، والتحذير، والتسوية، والتعجب، والتقرير، والتنبيه، ويزيد ابن فارس في كتابه "الصاحبي" أغراضاً أكثر، مثل التفجّع، والتبكيت، والتكثير، والإنكار.
أمّا عبد القاهر الجرجاني، فقد توغّل أكثر في شرح مجازية السؤال الإنكاري تحديداً، فقال في كتابه "دلائل الإعجاز"، إن الاستفاهم بالإنكار مفاده أن "ينتبه السامع حتى يرجع إلى نفسه فيخجل ويرتدع ويعي بالجواب، إمّا لأنه قد ادّعى القدرة على فعل لا يقدر عليه، فإذا ثبت على دعواه قيل له: (فافعل)، فيفضحه ذلك. وإمّا لأنه همّ بأن يفعل ما لا يُستَصوب فعله، فإذا روجع فيه تنبّه وعرف الخطأ، وإمّا لأنه جوّز وجود أمر لا يوجد مثله، فإذا ثبت على تجويزه قبّح على نفسه"!.
إذاً، لو تركنا أنفسنا لعدّ الأغراض المجازية للاستفهام في القرآن فلن ننتهي، فما عند جميع علماء البلاغة ينفد وما في كتاب الله باقٍ!
هل كنتُ بحاجة إلى أسئلة مجازية لأرى براعة القرآن؟!
إن فتحتم المصحف من يمينه وقرأتم فاتحة الكتاب، ثم تجاوزتموها إلى ما بعدها، وقرأتم "البقرة"، ستجدون أنفسكم أمام إقرار وتأكيد رباني بأن "ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ"، وعلى شاكلتها ستجدون القرآن مليئاً بشتّى الآيات التقريرية التي تثبت مدى قداسته، وأنه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وكم هو مُحكَم التنزيل، وكم فيه من الحقّ المُبين، فهل هناك شكّ في كل هذا؟ بالتأكيد لا.
الفكرة عندي أن الأسئلة المجازية في القرآن تُهينني، تُخجلني من ذاتي، تشعرني بمدى ضآلتي؛ إذ كيف يتواضع الله من عليائه ويطرح عليّ أنا العبد الضعيف سؤالاً، حتى لو بغرض التوبيخ؟ ما بالك إن كان الغرض عتاباً أو ملامةً؟!
على ذكر العتاب والملامة، انظر إلى هذا السؤال القرآني العجيب من سورة الجاثية: "تِلك ءَايَٰتُ ٱللَّهِ نَتلُوهَا عَلَيكَ بِٱلحقّ. فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ"؟!
والسؤال ذاته يتكرر في آية أخرى بسورة "المرسلات"، حين يقول: "فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ".
إن فتحتم المصحف من يمينه وقرأتم فاتحة الكتاب، ثم تجاوزتموها إلى ما بعدها، وقرأتم "البقرة"، ستجدون أنفسكم أمام إقرار وتأكيد رباني بأن "ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ"، وعلى شاكلتها ستجدون القرآن مليئاً بشتّى الآيات التقريرية التي تثبت مدى قداسته
تركيبة الجملة في هاتين الآيتين مثيرة للدهشة والإعجاب، وبسببهما أسأل نفسي: لماذا لم يقل: "فبأي حديث بعد حديث الله"؟، أليس هذا هو المعنى المقصود على الأقل ظاهرياً؟
لذلك أجد نفسي مضطرّاً إلى الوقوف أمام ذلك الأمر ربما لفهم المُراد، فحين يُقدّم المولى اسمه مباشرةً بعد لفظة الحديث في آية "الجاثية"، أو بالضمير العائد إليه في آية "المرسلات"، كأنه يُغلق الباب أمام أي محاولة للإنكار، أو حتى الاستفهام، ما يجعل الألفاظ في السؤال المتكرر في الآيتين أكثر مجازيةً من كونه سؤالاً صريحاً.
هنا نجد الإجابة بشكل لطيف عند القرطبي، في كتابه "الجامع لأحكام القرآن"، حين أكّد أن السؤال في الآيتين "جاء ممزوجاً بالعتاب والملامة"، كأن المولى أراد أن يقول لنا: "من لم يؤمن بالقرآن الذي لو أُنزِلَ على الجبال لتصدّعت وارتجفت، فلن يُسلم، ولن يُؤمن بأي كتاب سماوي، ولن يقبل بأي منطق عقلاني، وهذا يدل على روح العناد والتعصب".
أرأيتم مدى خطورة تلك الأسئلة المجازية؟ لا أخفيكم سرّاً إنْ قلت لكم إنّ في القرآن أكثر من ثلاثمئة آية وردت فيها كلمة "عذاب"، لا أشعر حيالها بأي خوف، بقدر ما تخيفني الأسئلة المجازية في القرآن!
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Sara Ahmed -
منذ 48 دقيقةراسلني
Sara Ahmed -
منذ 48 دقيقةراسلني
Sara Ahmed -
منذ 48 دقيقةراسلني
Sara Ahmed -
منذ 48 دقيقةراسلني
Sara Ahmed -
منذ 48 دقيقةراسلني
Sara Ahmed -
منذ 51 دقيقةجميل