شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!

"ألقيتُ عليكَ مَحبّةً مِنّي"… لماذا وضعتُها على جدار غرفتي؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

تندرج هذه المادة ضمن ملف "هنا نفتح القرآن معاً، ويشعّ الحبّ"، في رصيف22.


كان ذلك منذ زمن بعيد، منذ كنتُ طفلةً صغيرةً ذات السبع أعوام. منذ ذلك الحين وأنا أرهف السمع للآيات القرآن الكريم التي تعلو من المذياع كل يوم، خاصةً في الليل. كنتُ أنام وأصحو على صوته وما زلت. علقت في ذهني آيات عديدة، أردد بعضها في لحظات صمتي الطويلة. حثّني ذلك على التساؤل والبدء بمحاولة البحث عن معاني تلك الآيات والمفردات البليغة. أسأل والدتي رحمها الله أحياناً، إذ كانت مدرّسة لغة عربية، وهي من علّمتني حب المطالعة، عندما كنت أسألها عن شيء كانت تجيب نصف إجابة وتقول لي: اقرئي لتعرفي أكثر بنفسك، وتثبت في عقلك المعلومة بشكل أفضل، وهكذا بالفعل بدأت أقرأ بنفسي، لأعرف.

التهمت الكتب، وأكثر الكتب التي أدمنت التهامها، القرآن الكريم. كان لي يومياً موعد بين صفحاته لأعرف وأرى. لم أفهم بطبيعة الحال كل شيء أول مرة، لذلك كنت أعيد المطالعة مرةً تلو أخرى، انبهرت بمدى بلاغة الآيات، خاصةً تلك التي كانت تنتهي بالوزن نفسه.

شعرت به شِعر ساحر يخطفك، وما أبهرني أكثر آيات التفكر في خلق الله والسماوات والأرض، فأدمنت النظر إلى السماء كلما خرجت من البيت. آيات عديدة هي في القرآن، مليئة بالجمال والرقة والرحمة، ربما تلك الآيات هي من أشعلت بي، حُب دراسة الأديان في ما بعد، ثمة آيات لا يمكن أن ننساها، نرددها ونهدأ ونطمئن.

الكلمة

دائماً ما تأسرني الكلمة المنطوقة والمقروءة، فللكلمة سحر وقوة من شأنهما الخلق والإحياء أو القتل والإيذاء، فتسقط الكلمة من فمك، ولا تعرف إلى أين تذهب، وتموت في صمتٍ، دون انتباه أو جنازةٍ تُشيّعها. تعيش الكلمة وربما تموت دون أن يهتم أحد لها.

دائماً ما تأسرني الكلمة المنطوقة والمقروءة، فللكلمة سحر وقوة من شأنهما الخلق والإحياء أو القتل والإيذاء، فتسقط الكلمة من فمك، ولا تعرف إلى أين تذهب، وتموت في صمتٍ

هكذا خُلقت الكلمة، لتُقال، لتُكتب، ووحدك من تعرف فضاحة كتمانها، وتعرف أن لا بد من إيجاد قصيد مريح لها، أو غرفة لها وحدها، أو أحد يتقن الإنصات، الكلمة حُرمة مسكينة، ننتزعها من رَحِم الصمت، لنزج بها في نزال دامٍ، في تجربة عبطية؛ نقول لها قفي على ذاك الحبل الرفيع، اعقصي شعركِ، ارقصي، ابتسمي، اربطي معصميكِ أو فرقعي بإبهامك؛ ليسمعكِ الآخرون، اسكُني بداخل أحدهم، أو اقتليه بقسوة ووحشية، الكلمة مسكينة لا يُنزلها الجميع منزلة تليق بها، فيهلك بها من يهلك وينجو بها من ينجو... الكلمة روح ونور.

متى يفهم الإنسان نفسه بما يكفي ليتفهم طبيعة الكلمة؟ ويخشى مِنْ موتها في داخل أحدهم أو يموت بها أحدهم.

فالقرآن وكلماته، لهم سحر الإحياء وبعث الأمل للنفوس الخائفة المرتجفة، فكان كل شيء بكلمة، وبداية كل شيء ونهايته بكلمة.

"وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَىٰ عَيْنِي"

هكذا تتربع الآية وحدها على جدار غُرفتي.

في سورة طه يتكلم الله مع نبيه ورسوله موسى، بكلمات بديعة، فيقصّ عليه قصته وهو رضيع، يذكره بأنه كان دوماً في عيناته وكنفه، لن ينساه يوماً ولم يهمله، فأوحى إلى أمه أن تقذفه في اليم، إلى مصير مجهول لا تعلم عنه شيء، أي أم يمكنها أن تفعل ذلك "هكذا تساءلت يومها، ولماذا؟"، ثم تكمل لنا الآيةُ الحدثَ: "ألقيتُ عليك محبة مني ولتصنع على عيني"، كل من يراك سيحبك وستكبر وتنشأ على عيني أي سأكون أنا من يرعاك، فتخيل أن الله بجلالته هو من يرعاك وينظر لك وحدك.

ثم لم يكتفِ بذلك فما نلبث حتى نقرأ الآية التالية: "فَرَجَعْنَاكَ إِلَىٰ أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ ۚ"، لم ينسَ الأم التي ألقت برضيعها في اليم، فأعاده إليها كي لا تحزن!

متى يفهم الإنسان نفسه بما يكفي ليتفهم طبيعة الكلمة؟ ويخشى مِنْ موتها في داخل أحدهم أو يموت بها أحدهم.

كم الرحمة والهدوء والسلام التي تعتري ذلك الحدث، لا يمكن تخيله، كم مرةً شعرنا بأننا بلا طوق نجاة وهالكون لا محالة، ومن ثم نجد حلاً نجد شيئاً ما يخرج لنا من العتمة، ليكون لنا عوناً، منْ أين تأتي تلك الأشياء! وتلك الحلول! كم مرةً دخلنا قلوب الناس بلا سبب، فجعلهم الله لنا عوناً وسنداً في حياة خالية من الحب والعون!

لم تكن الآية خلاصاً للنبي موسى وحده أو أمه، لكنها كانت خلاصاً لجميع من يعانون في تلك الحياة، لكل من قذفت الحياة بهم في بحر هائج لا طوق نجاة به، سوى رحمة الله ولطفه بنا، إنها ليست آية عادية تمر علينا مرور الكرام، إنها حياة بداخلنا تلمسنا وتحثنا على الثقة بخالق الكون وبرحمته.

"فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا"

الحزن ذلك الشعور الذي يجعلنا ننكمش ونتمزق، كل خلية بنا تتألم في صمت تام، لا يشعر بها أحد سوى صاحبها، الحزن المتسربل بالسواد الذي يقف على رأس سريرك ليلاً فلا تنام إلا بعد محاولات عسيرة، كظلنا ينتظرنا أن نفتح له الباب ليلتصق بنا، ولن يرحل إلا بعد أن يأخذ مبتغاه منك كاملًا.

كم مرة شعرتُ بالحزن؟

أقول لنفسي الحزن الأكبر الذي يعتلي صدري، بدأ عندما رحلت أمي وربما قبل ذلك عندما مرضت أكثر من عام ونصف، تلبسني ذلك الحزن لم أكل لم أشرب لم أفهم الأمر، وعندما حاولت مراراً الفكاك منه، ألتهمني أكثر وأكثر، دائماً ما يلتصق الشعورين شعور الوحدة مع الحزن، فنحزن لإننا وحدنا بلا عون، ونشعر بالوحدة مع الحزن ونحن نقاتله مع كل شهيق وزفير بلا رفيق يُعيننا على ذلك القتال.

مع كل نوبة حزن تأتي عليَّ أتذكر الآية "فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا". تتألم العذراء مريم في مخاضها، لتنجب لنا أجمل الرُّسل المعجزة الحقيقة التي أذهلت الجميع: عيسى المسيح. ويخاطبها الله ألا تحزني، أنتِ في حماية الله ورعايته. ثم يكمل خطابه لها: "فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً" ("مريم"، 26)؛ دعي الحزن وكلي واشربي واطمئني، كل شيء عند الله بمقدار، فلا تقلقي ولا ترتعب فرائسك. رحمة الله في خطابه لا يمكن أن يتخيلها شخص، يعلم إنها تمنت الموت قبل ذلك، تمنت ألا تكون في ذلك الموقف ولا تجرب تلك التجربة، ثم يطمئنها الله ألا تحزني أنا معكِ، يخاطب بها نفسها البشرية يخاطبها ويعلم ضعفها وآلمها وحزنها العميق ورغبتها في الموت، ثم رحمته والرفق بها كامرأة وحيدة لا معين بها في هذا الموقف، بأن كُلي واشربي ولا تخافي شيء.

كم مرة وجدنا أنفسنا في مواجهه مواقف مرهقة نفسياً وبدنياً لنا، كم مرة حزنا ويأتي القرآن ليخاطب بنا تلك المشاعر الإنسانية التي تختلجنا وتلك الآلام الممزقة لجوارحنا، فيرفق بنا بآياته الجميلة البديعة الخلابة

كم مرة رغبنا في ألا نكون على قيد الحياة بعد، أن نُنسى تماماً وننتهي، كم مرة وجدنا أنفسنا في مواجهه مواقف مرهقة نفسياً وبدنياً لنا، كم مرة حزنّا فأتى القرآن ليخاطب بنا تلك المشاعر الإنسانية التي تختلجنا وتلك الآلام الممزقة لجوارحنا، فيرفق بنا بآياته الجميلة البديعة الخلابة:

أَلَّا تَحْزَنِي ("مريم"، 24)

وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي ۖ (ا"لقصص"، 7)

وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا ("آل عمران"، 139)

إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ("التوبة"، 40)

كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ ۚ ("طه"، 40)

فيُمكنُنا أن نشبهه بِجمالِ النهرِ الذي يُجري في واديٍّ خضِرٍ، أو جمالِ السماءِ التي تُغطّي الأرض بِالنجوم اللامعة. جمالُ القرآنِ هو جمالٌ لا متناه؛ فكلما قرأناه أكثر أدركنا عظمته وأثره على قلوبنا وأذهاننا وأرواحنا. فيكمن جمال القرآن في تعدد أوجه، فيُزهرُ في كلِّ كلمةٍ وفكرةٍ، مُكوّناً لوحةً فنيةً تُثيرُ القلوب وتُلهمُ الأذهان، وتنير الدروب المظلمة، فكل قصة قرآنية هي لنا مرشد ودليل في حياة أصبحت قاسية بما يرتكبه الإنسان من فساد في البر والبحر والجو، فـ"يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ"، وهو "بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ". 


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

قد لا توافق على كل كلمة ننشرها…

لكن رصيف22، هو صوت الشعوب المضطهدة، وصوت الشجعان والمغامرين. لا نخاف من كشف الحقيقة، مهما كانت قبيحةً، أو قاسيةً، أو غير مريحة. ليست لدينا أي أجندات سياسية أو اقتصادية. نحن هنا لنكون صوتكم الحرّ.

قد لا توافق على كل كلمة ننشرها، ولكنك بضمّك صوتك إلينا، ستكون جزءاً من التغيير الذي ترغب في رؤيته في العالم.

في "ناس رصيف"، لن تستمتع بموقعنا من دون إعلانات فحسب، بل سيكون لصوتك ورأيك الأولوية في فعالياتنا، وفي ورش العمل التي ننظمها، وفي النقاشات مع فريق التحرير، وستتمكن من المساهمة في تشكيل رؤيتنا للتغيير ومهمتنا لتحدّي الوضع الحالي.

شاركنا رحلتنا من خلال انضمامك إلى "ناسنا"، لنواجه الرقابة والترهيب السياسي والديني والمجتمعي، ونخوض في القضايا التي لا يجرؤ أحد على الخوض فيها.

Website by WhiteBeard
Popup Image