شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اترك/ ي بصمَتك!

"وقرآني تخاطفتْهُ الأيدي"... حين افتتن الشاعر الرّوسي بوشكين

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة نحن والخطاب الديني

السبت 1 فبراير 202510:47 ص

تندرج هذه المادة ضمن ملف "هنا نفتح القرآن معاً، ويشعّ الحبّ"، في رصيف22.


لم يقتصر تأثير القرآن الكريم على الشعراء العرب والمسلمين فحسب، بل امتد إلى كثير من الروس أيضاً، فاستلهموا من آياته موضوعات لقصائدهم، بل حاكوها في كثير من الأبيات، وظهر ذلك بشكل جلي في أعمال الشاعر الروسي الشهير ألكسندر بوشكين، الذي تأثر بالشرق العربي حضارياً وتراثياً وروحياً.

تذكر الدكتورة مكارم الغمري، في كتابها "مؤثرات عربية وإسلامية في الأدب الروسي"، أن ألكسندر بوشكين (1799-1873)، في مقدمة شعراء روسيا الذين استلهموا القرآن والسيرة النبوية، حيث تتبوأ قصائده "قبسات من القرآن" التي كُتبت عام 1824، مكانةً مهمةً بين المؤلفات الأدبية الروسية المستوحاة من التراث الروحي والإسلامي والسيرة النبوية، وهي برهان دامغ على قدرة القيم القرآنية على عبور آفاق الزمان والمكان والتغلغل في نفوس أناس لا يؤمنون بعظمة القرآن.

التأثير الروحي للقرآن الكريم في بوشكين

أبعد من ذلك، تعكس هذه القصائد المكانة المهمة التي أحدثها القرآن في التطور الروحي لبوشكين. وتنقل الغمري عن الناقد الروسي تشرنيايف في كتابه "رسول بوشكين في إطار مؤلفه قبسات من القرآن"، قوله: "أعطى القرآن أول دفعة للنهضة الدينية عند بوشكين، وكانت له أهمية ضخمة في حياته الداخلية". فضلاً عن ذلك، القرآن "أول كتاب ديني يدهش خيال الشاعر بوشكين ويقوده إلى الدين"، ففي وقت كتابة "قبسات من القرآن" كان بوشكين "يحاول أن يخفي عن أصدقائه ذلك الانتقال من العلاقة غير الجادة بموضوعات الدين إلى العلاقة الجادة بها، وهو ما كان يحدث آنذاك في تلك الفترة داخل روحه".

لم يقتصر تأثير القرآن الكريم على الشعراء العرب والمسلمين فحسب، بل امتد إلى الروس أيضاً، فاستلهموا من آياته موضوعات لقصائدهم، بل حاكوها في كثير من الأبيات، وظهر ذلك بشكل جلي في أعمال الشاعر ألكسندر بوشكين

ويتألف "قبسات من القرآن" من تسع قصائد لا تحمل عناوين، ومدرجة وفق تسلسل الأرقام. وبحسب الغمري، يستلهم بوشكين في القصيدة الأولى السور التي تتناول جوانب من سيرة الرسول محمد، والتي جذبت اهتمام الشاعر الروسي بصفة خاصة.

تأثر بوشكين بسورة "الضُحى"

قصائد "قبسات من القرآن" مختلفة الطول ومتنوعة الوزن، وهي تتناسب مع الآيات القرآنية التي اقتبس منها بوشكين وأسس عليها أشعاره، ففي مقطع من القصيدة الأولى حاكى فيه القسم القرآني في آيات عديدة مثل "والشّفع" و"النّجم"، بحسب نعمات عبد العزيز طه، في دراستها "تأثير الإسلام في الأدباء الروس... ألكسندر بوشكين وميخائيل ليرمنتوف وليو تولستوي وإيفان بونين".

وتذكر طه، أن بوشكين استلهم من سورة "الضُحى" بعض المعاني التي تشير إلى تأثر الرسول عندما انقطع عنه الوحي فترةً من الزمن ولم يحدث قبلها مثل هذا الانقطاع، فأحزنه ذلك الانقطاع. يقول الله تعالى في الآيات (1-3) من السورة: "وَٱلضُّحَىٰ (1) وَٱلَّيلِ إِذَا سَجَىٰ (2) مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَىٰ (3)".

ويقدّم محمد الصابوني، في كتابه "صفوة التفاسير"، تفسيراً لهذه الآيات الثلاث كما فسرها المفسرون الأوائل، حيث يقسم الله تعالى بوقت الضحى، وهو صدر النهار حين ترتفع الشمس، ويقسم بالليل إذا اشتدّ ظلامه، وغطّى كل شيء في الوجود.

حين يقتبس بوشكين "القيمة الأخلاقية" القرآنية يستخلصها من سياقها في القرآن ليعيد تجسيدها من خلال "الأنا" الداخلية، وعبر مقوماته الفنية.

وبحسب تفسير ابن كثير، هذا قسم من الله بالضحى وما جعل فيه من الضياء، وبالليل إذا سكن فأظلم وادلهم، وذلك دليل على قدرته. أما "ما ودعك ربك وما قلى"، فتعني ما تركك ربك يا محمد منذ اختارك، ولا أبغضك منذ أحبك، وهذا ردّ على المشركين حين قالوا: "هجره ربه"، وهو جواب القسم.

وبحسب طه، يحاكي بوشكين هذا المعنى في مقطع من القصيدة الأولى، فيقول:

"أقسم بالشفع وبالوتر

أقسم بالسيف وبمعركة الحق

أقسم بالنجوم والصباح

أقسم بصلاة العشاء

لا، لم أودعك".

ويصل بوشكين في ختام القصيدة إلى المقطع الذي يدلّ على الآية التاسعة من سورة "الضحى"، حيث يقول الله" "ألَم يَجِدكَ يَتِيماً فَـَٔاوَىٰ (6) وَوَجَدَكَ ضَآلّاً فَهَدَىٰ (7) وَوَجَدَكَ عَآئلاً فَأَغنَىٰ (8) فَأَمَّا ٱليَتِيمَ فَلَا تَقهر (9)".

وفي تفسير هذه الآية يقول الصابوني، إن الله يذّكر النبي بنعمه عليه عندما كان صغيراً ليشكر ربه، فقال ألم تكن يا محمد يتيماً في صغرك فآواك الله إلى عمك أبي طالب وضمّك إليه؟

ولما عدّد الله هذه النعم الثلاث، أوصاه بثلاث وصايا مقابلها، منها عدم احتقار اليتيم، أو غلبه على ماله، فقد كنت (يا محمد) يتيماً فآواك الله، كما وصاه بألا يزجر السائل، وأن يُحدّث الناس بفضل الله ونعمه.

ويتابع الشاعر أبيات قصيدته الأولى مُقتبساً معاني هذه الآيات، فيقول:

"فمن إذاً شملت برعايتي

وأنزلت السكينة عليه

وحميته من المطاردة القاسية

أحبب اليتامى، وقرآني

وبشر المخلوقات المهتزة".

وتذكر طه، أن الله تولّى الرسول برعايته وأنزل عليه السكينة وواساه عند محنته وحزنه وهمه وما لاقاه من أهل الطائف عندما كلمهم عن الإسلام ودعاهم إلى كلمة التوحيد، فحماه من مطاردة السفهاء الذين كانوا يسبّونه ويرمونه بالحجارة، وحرّك الله عاطفة أهل البستان الذي لجأ إليه النبي فصرفوهم عن الرسول. وفي هذه الأبيات يتضح تأثير القرآن على بوشكين ومعرفته بالقصص القرآني الكريم.

اقتباس قصة اختباء الرسول في الغار

ويتابع بوشكين اقتباساته من القرآن الكريم، فيذكر في منتصف القصيدة قصة خروج النبي مع صاحبه أبي بكر الصديق من مكة إلى المدينة، التي وردت في الآية 40 من سورة "التوبة"، حيث يقول: "إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ".

ويذكر الصابوني في تفسير هذه الآية: أي إن لم تنصروا الرسول أنتم فإن الله الذي نصره حين كان ثاني اثنين، حيث لم يكن معه أنصار ولا أعوان حين خروجه من مكة مهاجراً إلى المدينة، وذلك عندما كان الرسول مع أبي بكر الصديق مختبئين في جبل ثور، ووقتها قال الرسول لصاحبه تطميناً وتطييباً: "لا تخف إن الله معنا"، فأنزل الله السكون والطمأنينة على رسوله، وأيّده وقوّاه بجنود من عنده والملائكة يحرسونه في الغار، وجعل كلمة الشرك سافلةً دنيئةً حقيرةً، وكلمة التوحيد هي الغالبة الظاهرة.

وعلى معاني هذه الآية يؤسس بوشكين أبياته:

"يا من في ظل السكينة

دسستُ  رأسَه حباً

وأخفيته من المطاردة الحادة

ألست أنا الذي رويتك في يومِ قيظ

بمياهِ الصحارى؟

ألم أهب لسانَك

سلطةً جبارةً على العقول؟

اصمد إذاً وازدرِ الخداع".

إعادة تجسيد القيم القرآنية في أبيات شعرية

وبحسب الغمري في كتابها المذكور آنفاً، فإن "قبسات من القرآن" هي خليط بين الموضوعي والذاتي، فهي ليست محاكاةً بالمعنى المباشر لهذه الكلمة، فالقيم القرآنية التي تكتسب وجوداً موضوعياً في هذه القصائد تنعكس من خلال الجانب الذاتي للفنان في بصمته الفنية الخاصة، وأسلوبه الشعري المميز، ومنهجه الفني ورؤاه.

وبمعنى آخر، فإن بوشكين حين يقتبس "القيمة الأخلاقية" القرآنية يستخلصها من سياقها في القرآن ليعيد تجسيدها من خلال "الأنا" الداخلية، وعبر مقوماته الفنية.

ولا يلتزم بوشكين في قصائده بتسلسل "المعاني الأخلاقية" كما وردت في القرآن الكريم، بل قد يجمع في القصيدة الواحدة بين معانٍ من سور مختلفة، مثلما فعل في القصيدة الأولى. وبحسب الغمري، هذه المعاني يجمع بينها في الصورة الشعرية المعنى المجازي الذي يضمره الشاعر ويودّ الإيحاء به إلى القرّاء.

قراءة بوشكين للقرآن الكريم

ولم يكن بوشكين ليحاكي هذه الآيات في قصائده لولا اطّلاعه على الترجمات الفرنسية والروسية لمعاني القرآن الكريم وتفاسيره، والتي أمدت وسقت قريحته ومخيلته بزاد الشعر، حيث لامست العِبر وقصص الأنبياء في القرآن خطاب بوشكين الفلسفي العقائدي، بل أثرته، حسب ما يذكر ناظم مجيد الديراوي في دراسته "ترجمة معاني القرآن إلى اللغة الروسية وأثرها في بوشكين ومعاصريه".

وبحسب الديراوي، قرأ بوشكين بإمعان ترجمتَي معاني القرآن الكريم باللغتين الروسية لميخائيل فيريوفكين، والفرنسية لأندريه دو روييه، ولعله اطّلع أيضاً على قصائد "الديوان الشرقي" للأديب الألماني يوهان غوته، الذي سبق الأدباء الروس في اقتباساته من القرآن الكريم والمعلقات العربية وقصائد الشعراء المسلمين عامةً، والشعر الصوفي خاصةً، وكذلك حكايات "ألف ليلة وليلة"، وما نُقل عن الألمانية من مؤلفات ذات صلة بسيرة النبي محمد والعقيدة الإسلامية.

اقتبس بوشكين آياتاً من سور "البقرة" و"الكهف" و"مريم" و"طه" و"الحج" و"النور" و"الأحزاب" و"محمد" و"الفتح" و"القيامة" و"عبس" و"التكوير" و"الفجر" و"البلد" و"الضحى"، واستعار قصصاً ومواعظ هادفةً وعبراً حكيمةً وثقّت تمسكه بالفكر الإيماني السّمِح

ومن ترجمة فيريوفكين، اقتبس بوشكين آياتاً من سور "البقرة" و"الكهف" و"مريم" و"طه" و"الحج" و"النور" و"الأحزاب" و"محمد" و"الفتح" و"القيامة" و"عبس" و"التكوير" و"الفجر" و"البلد" و"الضحى"، واستعار قصصاً ومواعظ هادفةً وعبراً حكيمةً وثقّت تمسكه بالفكر الإيماني السمح.

وفي دراسته "بوشكين والقرآن"، يذكر مالك صقور، أن بوشكين قرأ القرآن أول مرة عندما كان منفاه في قرية "ميخائيلوفسكي"، وذكر ذلك في قصيدة "الحفارة":

"في المغارة السرّية

في يوم الهروب

قرأت آيات القرآن الشاعرية

فجأةً هدّأت روعي الملائكة

وحملت لي التعاويذ والأدعية".

وذات مرة، كتب الشاعر من قرية تريغورسك لأخيه في بطرسبورغ: "إني مشغول بكلمات القرآن"، كما كتب لصديقه في موسكو يقول: "كنت مضطراً إلى الهروب من مكة إلى المدينة، وقرآني تخاطفته الأيدي، والكثيرون بانتظاره". وهنا يشبه بوشكين ديوانه الثوري، الذي يهاجم فيه القياصرة، بالقرآن، لأنه كان يعلم أن القرآن في بداية الدعوة كان يُتداول بسرّية.

ولم يكتفِ بوشكين بقراءة القرآن، بل طلب أن يسمع ترتيله عندما كان في جنوب روسيا وفي أثناء زيارته لمنطقة أرضروم.

كما قرأ بوشكين سيرة النبي محمد، وحاول أن يعرف كل شيء عنه، وكان معجباً جداً بشخصيته. وفي أثناء إقامته في مدينة كيشنيوف كانت له صديقة إغريقية تجيد اللغتين الإيطالية والفرنسية وتتكلم العربية جيداً. وبحسب صقور، هناك عُثر في مخطوطات بوشكين على أحرف الهجاء العربية وشرحها، مما يؤكد أن بوشكين حاول أن يتعلم اللغة العربية على يد صديقته.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

منبر الشجعان والشجاعات

تكثُر التابوهات التي حُيِّدت جانباً في عالمنا العربي، ومُنعنا طويلاً من تناولها. هذا الواقع هو الذي جعل أصوات كثرٍ منّا، تتهاوى على حافّة اليأس.

هنا تأتي مهمّة رصيف22، التّي نحملها في قلوبنا ونأخذها على عاتقنا، وهي التشكيك في المفاهيم المتهالكة، وإبراز التناقضات التي تكمن في صلبها، ومشاركة تجارب الشجعان والشجاعات، وتخبّطاتهم/ نّ، ورحلة سعيهم/ نّ إلى تغيير النمط السائد والفاسد أحياناً.

علّنا نجعل الملايين يرون عوالمهم/ نّ ونضالاتهم/ نّ وحيواتهم/ نّ، تنبض في صميم أعمالنا، ويشعرون بأنّنا منبرٌ لصوتهم/ نّ المسموع، برغم أنف الذين يحاولون قمعه.

Website by WhiteBeard
Popup Image