شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!

"ولَسَوفَ يُعطيكَ ربّك فَتَرضَى"… الله الذي لم يخبرونا به

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة نحن والتنوّع

السبت 1 فبراير 202511:04 ص

تندرج هذه المادة ضمن ملف "هنا نفتح القرآن معاً، ويشعّ الحبّ"، في رصيف22.


في ليالي الوحدة والفشل في بداية طريقي الصعب في الصحافة، كثيراً ما كنت أتساءل: أين الله مني؟ لماذا لا يتدخّل ليدعمني؟ تُرى هل شغله أصحاب السيارات الفارهة لحمايتهم من حوادث الطرق؟ أو قاطنو القصور المعرّضون للغرق في أحواض السباحة؟ يجوز أنه كان مستغرِقاً في تأمين سائحي الفضاء على سطح القمر الذي نكتفي نحن بضوئه الخافت في ليالي انقطاع الكهرباء.

مزاج غاضب ثائر كان يسيطر عليّ؛ أفكار عن العدالة وعلاقتها بالألوهية، وأفكار عن سبب ما أنا فيه من تعثّر، وفي أكثر من مرة وصلت إلى نتيجة فيها شيء من السخرية والهزل والثورة، وهي: الفقر مخلوق والغِنى مخلوق، النجاح مخلوق والفشل مخلوق، ولا بد من تعادل بين المخلوقات، وكما خلق إبليس خلق الملائكة، وبما أني من فقرائه فما المانع أن أكون من شياطينه، وما المانع أن أكون النقمة التي يستخدمها يوماً ضدّ مُترَفيه؟

الفقر مخلوق والغِنى مخلوق، النجاح مخلوق والفشل مخلوق، ولا بد من تعادل بين المخلوقات، وكما خلق إبليس خلق الملائكة، وبما أني من فقرائه فما المانع أن أكون من شياطينه؟

أفكار كثيرة كانت تخطر على بالي، سببها تعثّري وإحساسي بالغربة، وبأن هذا الزمن ليس زماني، ولا هذا المكان مكاني، وعليّ أن أعيد تشكيل نفسي ليكون العكس.

كنت أعود وأقول لنفسي: استغفرْ ربَّكَ، ودعْ هذا الإلحاد؛ فأصوم وأصلّي وأدعو، ولكن بلا جدوى. كنت أقول: ربما السبب في ذنوبي، ربما في انحرافي. ولكن لمَ لا يستجيب لأبي وأمي، اللذين يسيران على صراط مستقيم؟!

صرت أتأمّل في شخصيّة الجبلاوي في "أولاد حارتنا" لنجيب محفوظ، الذي يشاهد الظلم في الحارة ويسمع به ولا يفعل سوى الصمت والمراقبة من قصره المنيف، من وراء حجابه، والحارة يسيطر عليها الأقوياء فقط، من يملكون السلاح، من يملكون المال، أما الطامحون إلى العدل فلن تُجْديهم صرخاتهم.

كان ذلك قبل أن يكلّمني وأصغي إليه، وقبل أن أعرفه بطريقتي لا بطريقتهم. طريقتهم التي صوّرته لي كإمبراطور من القرون الوسطى يجلس على عرشه؛ ليغضب على هؤلاء ويرضى عن هؤلاء، وليمنح هنا ويمنع هناك، وليُعذِّب هنا ويُنعِّم هناك، وفقاً لمعادلة ساديّة، فيها استمتاع بتعذيب الآخرين وذلّهم، ثم تنعيمهم إذا تحمّلوا هذا التعذيب والذل، ولكن في الوقت الذي يختاره هذا السادي.

معادلة لم تنجح إلا في تحريضي على التمرّد عليه، وبرغم يقيني وقتها باستحقاق التمرّد عليه إلا أن شيئاً ما في داخلي كان يقول إنّني أضعف من ذلك. كان ينتظر مجهولاً حتماً سيأتي ويطمئنني.

وفي ليلة مُعتمة، وبينما كنت أفترش الظلام وألتحفه، وأنام على ظهري وأنظر إلى سقف أعرف مكانه ولكني لا أراه، وجدت نفسي أتأمل الليل، وترنّ في أذني أصوات تتحدّث عن الليل، بين أشعار وأمثال وحكم... وبين ازدحام العبارات في عقلي، سمعته يكلّمني برقّة وعطف ويقول:

"والضّحَى واللّيلِ إذا سَجَى، مَا وَدَّعكَ ربُّكَ وما قَلَى، وللآخِرة خيرٌ لكَ من الأولى، ولسَوْفَ يُعطِيكَ ربُّك فترضى".

فزعت من استلقائي وغفوتي وجلست، فوجدته يهمس من جديد ويقول الشيء نفسه:

"والضّحى واللّيلِ إذا سجى، ما ودّعك ربّك وما قلى، ولَلآخرة خيرٌ لك من الأولى، ولسوف يعطيك ربُّك فترضى".

ما هذا؟! إنه الله يتكلّم؛ إله حنون، لم أهُن عليه؛ يَعِدُني بالعطاء حتى أرضى. سيفعل مثلما تفعل أمي: تُطعمني حتى أشبع!

عرفت وقتها طريق الحب، وبدأت أفهم ما كان يقوله الصوفية الذين كنت أعرفهم ولكني لا أفهمهم أو بالأحرى لا أحسّ بهم. عرفت أن علاقته بي يمكن أن تكون علاقة حبّ، وأنها ليست علاقةً ساديّةً، وعرفت أنني حين أطلب يجِب ألا أطلب من سلطان حاكم، وإنما من حبيب قريب، وأنني حين كنت أسأله كسلطان كان يغضب ولا يعطي، لأنني هنا أخلُّ بجوهر الذي بيني وبينه، لأنني أخون الحبّ، والعهد الذي بيننا.

بدأت أتأمّل حديثه إلي، وما زلت برغم السنين أتأمّله: لماذا أَقسم بالضُّحى وباللّيل قبل أن يطمئنني بأنه ما ودّعني وما قلى، قبل أن يعدني بأن الآخرة خيرٌ لي من الأولى وأن القادم أفضل مما فات وأن حياتي الجديدة بعد أن عرفته ستكون هي الحياة، وقبل أن يؤكّد في النهاية أنه سوف يعطيني حتى أرضى؟

فهمت أنه قَسَمٌ ولكن في داخله عِظة، وإفهام. في داخله السرّ. لقد جمع النور بالظلام، جَمَعَ النقيضين، وجَمْعُ النقيضين سرّ استمرار الحياة؛ فالنقيضان هما أصل الوجود الإنساني كما يقول ابن عربي، في تفسيره لسورة الضحى التي جاءت بها هذه الآيات.

فالتقاء الذكر بالأنثى سرّ استمرار الحياة، وفي افتراقهما أو بعدهما يهيج الحب ويلتهب الشوق، ويزداد الإحساس بالفقدان والنقصان والرغبة في الاكتمال، حتى إذا ما التقيا كان الشبق عالياً، وكانت للأحضان حرارة وللقبلات حلاوة، وللقذف لهيب، وكان الإحساس بالرضا عالياً، وتنتج عن ذلك كله حياة جديدة.

أتى الله بالتبرير والعظة والفلسفة في طيات قسمه الذي بدأ به حديثه إليّ، ثم فسّر تبريره بعد ذلك وقال باقي الآيات. قال لي إنه ما ودّعني وما تركني، ولكنه اختار لي المتعة الأكبر. اختار لي الزهو بالنجاح بعد الفشل. واختار لي الرضا بالعطاء بعد الفقر. واختار لي أعلى درجات الاستمتاع، وأعلى درجات الإحساس.

ما هذا؟! إنه الله يتكلّم؛ إله حنون، لم أهُن عليه؛ يَعِدُني بالعطاء حتى أرضى. سيفعل مثلما تفعل أمي: تُطعمني حتى أشبع!

ووجدت تعضيداً لما وصلني في تفسير ابن عربي، الذي يقول عن سرّ البعد أو القلى بين الله ونبيه: ليشتدَّ شَوْقه، ويلطِّفَ سرّه، وتذوبُ أنانيته بنارِ الشوق، ثم فَتَح طريقه، ورفع حجابه بالكلية، وكوشف بالحق الصِّرف؛ ليكونَ ذوقه أتمّ وكشفه أكمَل.

طمأنتني سورة الضحى، وتلقّيتها وقتها على قدري، وقدّرتها وعداً بالنجاح، وبأنه سوف يعطيني حتى أرضى، وبأن كشفي سيكون أتمّ وأكمل، ونجاحي وتحققي سيكونان أوثق وأقوى. لن يكونا ضربة حظ، ولن يأخذا وقتاً بسيطاً ينتهي. سيكون أثرهما كبيراً، وحقيقياً وخالداً.

عرفت بعد ذلك شيئين مهمّين جدّاً؛ أوّلهما أن الله لا يحدّه زمان ولا مكان، وأن كلّ ما في الكون ظهور له، وتجلٍّ من تجليّاته، وفهمت قول ابن الفارض في قصيدته "التّائية"، عن الذات الإلهية:

"جَلَتْ في تَجَلّيها الوجودَ لِناظري/ففي كُلّ مَرْئيٍ أراها برؤيَةِ".

وقفت عند "في كلّ مرئِيٍّ أراها"، وفهمت أن الله موجود في كل شيء حولنا، وهنا وصلت إلى معنى التصوف.

فبما أنه موجود في كل موجود، إذاً كلّ حب هو فيه، وكلّ عشق هو له، وكلّ أَلَهٍ هو منه. تعاملت مع الأشياء، ومع العمل، والنجاح، والحياة، بهذا المنطق، فأحببت العمل، وأحببت الحياة، وأحببت النجاح.

أما الشيء الثاني الذي عرفته، فهو فكرة الاتّحاد كذروة للحبّ. قرأت ما نقله عبد الرحمن بدوي، في كتابه "شطحات الصوفيّة"، عن أن الصوفيّ يتدرّج في مراحل الحب، بدءاً من الشوق والوجد، مروراً باللهيب، انتهاءً بالذوبان والاتحاد بالمحبوب، حتى تصير أنت وهو شيئاً واحداً، وحينها قد تتحدّث نيابةً عنه، كأنك هو، كأنك السيد، كأنك مالك كل شيء.

وتذكّرت الحديث القدسي الذي وثّقه البخاري، ويقول فيه الله: "... فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورِجله التي يمشي بها..."، وقلت إن هذا الحديث يمثل حالة الاتحاد.

أنا أحب، فيعطيني الحب، ولسوف يعطيني حتى أرضى، ألم يجدني وحيداً فآنسني، ووجدني حائراً فطمأنني، ووجدني غريباً فوطَّنَني. فأما يتيم الحبّ فلن أقهر

وبما أن الله في كل شيء، وكل عشق هو منه وله وفيه كما فهمت من ابن الفارض، إذاً ينطبق قانون الاتحاد (الذي فهمته من كتاب بدوي ومن حديث البخاري)، على أي تجلٍّ من تجليّاته، وعلى أي شيء من الموجودات، وهنا وصلت، وهنا استمتعت، وهنا رضيت.

تعاملت مع الكتابة التي أمتهنها بهذا المنطق، وصرت أغازلها، وأعانقها بكل ما لدي من عشق. تبتعد فيزداد شوقي، وتهجرني فأجري وراءها. أنفصل عن كل شيء غيرها، وأخلص إليها حتى ترضى عني، فنذوب في بعضنا البعض وأصير أنا الكتابة، وتصير الكتابة أنا.

وتقول لي الكتابة ونحن في شبقنا: ولسوف أعطيك حتى ترضى... فتنجب لي أفكاراً ومقاربات ومعاني. تنجب لي نجاحاً وتحققاً، وتنجب لي وجوداً جديداً، وجوداً سعيداً.

أنا أعيش الآن في زماني. أعيش في مكاني. أنا الآن قادر، بل مُهيمن؛ أنا أحب، فيعطيني الحب، ولسوف يعطيني حتى أرضى، ألم يجدني وحيداً فآنسني، ووجدني حائراً فطمأنني، ووجدني غريباً فوطَّنَني. فأما يتيم الحبّ فلن أقهر، وأما السائل عنه فلن أنهر، وأما بنعمة الحب فأتحدّث.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

قد لا توافق على كل كلمة ننشرها…

لكن رصيف22، هو صوت الشعوب المضطهدة، وصوت الشجعان والمغامرين. لا نخاف من كشف الحقيقة، مهما كانت قبيحةً، أو قاسيةً، أو غير مريحة. ليست لدينا أي أجندات سياسية أو اقتصادية. نحن هنا لنكون صوتكم الحرّ.

قد لا توافق على كل كلمة ننشرها، ولكنك بضمّك صوتك إلينا، ستكون جزءاً من التغيير الذي ترغب في رؤيته في العالم.

في "ناس رصيف"، لن تستمتع بموقعنا من دون إعلانات فحسب، بل سيكون لصوتك ورأيك الأولوية في فعالياتنا، وفي ورش العمل التي ننظمها، وفي النقاشات مع فريق التحرير، وستتمكن من المساهمة في تشكيل رؤيتنا للتغيير ومهمتنا لتحدّي الوضع الحالي.

شاركنا رحلتنا من خلال انضمامك إلى "ناسنا"، لنواجه الرقابة والترهيب السياسي والديني والمجتمعي، ونخوض في القضايا التي لا يجرؤ أحد على الخوض فيها.

Website by WhiteBeard
Popup Image