تندرج هذه المادة ضمن ملف "هنا نفتح القرآن معاً، ويشعّ الحبّ"، في رصيف22.
لم يخفِ أديب ألمانيا الخالد يوهان غوته، افتتانه بالنص القرآني، عادّاً أن الأثر الذي تركه القرآن في النفوس يعود إلى أسلوبه الصارم الرائع، فيما رأى المستشرق النمساوي جوزيف فون هامر-برغشتال، أن سحر لغة القرآن وطابعه الإلهي كانا السبب في انتشار دعوة النبي محمد، وليس قوّة السيف.
ولا يستغرب أن يحوز القرآن إعجاب كثرٍ من أبناء الحضارة العربية من غير المسلمين. فالمفكر المصري القبطي لويس عوض، كان دائم التعبير عن ولعه بلغة القرآن وعذوبتها، ومن البديهي إذاً أن يكون المسلمون أشد تعلّقاً بكتابهم المقدس.
ويفتن كتاب المسلمين المقدس من يجول بين صفحاته، بسبب جلال لغته وعمق معانيه وأثره في النفوس، إذ تسكنك كلماته بهدوء، فتشعر وكأنك إزاء نص يحثّك في لطفٍ على الترقّي الروحي والأخلاقي.
كلما غلبتني الأنانية في موقف، تقفز في رأسي الجملة القرآنية "ويؤثرون على أنفسهم ولو كانت بهم خصاصة"، فأقاوم أنانيتي وأشعر بلذة غريبة حين أنتصر
وللقرآن وجوه كثيرة غير وجه العسكرة، الذي يحتشد في الخطاب الدعائي الغربي، ويهدف إلى تصدير فهم قاصر عن الإسلام، يختزله في كونه دين إرهاب وعنف. في مقابل هذه الصورة النمطية، ترسخ الكثير من آيات القرآن لبناء منظومة قيم عابرة للحدود والأديان، وكأنها رسالة إنسانية عالمية الدعوة.
"ويؤثرون على أنفسهم"
لي تجربة خاصة مع النص القرآني؛ ففي طفولتي فُتنت بإحدى الآيات القرآنية، حيث يقول الكتاب الحكيم في الآية 9 من سورة الحشر: "وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ".
كلما سمعت جملة "وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ"، أتأثر بشدة لجمال النص وموسيقاه من ناحية، وعمق المعنى الذي حاولت تدبّره مراراً. في البداية قصدت شيخ المسجد المجاور لبيتنا وسألته عن معنى الآية، فشرح لي تفسيراً مدرسياً جامداً، ثم سألت أمي فكان تفسيرها أكثر عمقاً وأبعد أثراً في نفسي وسلوكي حتى هذه اللحظة.
شحذ الشيخ وقتذاك كل ما يعرفه من تفاسير القرطبي والطبري وابن كثير... إلخ، وألقاها على مسامعي، وشرح لي أسباب النزول، وفهمت منه أن الآية هي جزء من سورة الحشر المدنية، وأنها نزلت في امتداح سلوك أهل المدينة الذين أحسنوا استقبال إخوانهم من مهاجري مكة، وفضلوهم على أنفسهم.
كلما سمعت جملة "وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ"، أتأثر بشدة لجمال النص وموسيقاه من ناحية، وعمق المعنى الذي حاولت تدبّره مراراً.
لم يقصّر الرجل في أداء مهمته حيال طفل صغير؛ أوضح لي التفاسير كما تعلّمها، لكنه لم يحِل النص المقدس إلى الحياة اليومية، ويسقطه على السلوكيات الشخصية، كما يجب أن يكون النص القرآني حاضراً وفاعلاً، فظلت قيمة الإيثار عالقةً في واقعة تاريخية طرفاها الأنصار والمهاجرون.
ومن شروح التفاسير، يقول الطَّبري في جامع البيان: "يقول تعالى ذكره: وهو يصفُ الأنصار: ‘وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ’ مِن قبل المهاجرين، ‘وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ’، يقول: ويعطون المهاجرين أموالهم إيثَاراً لهم بِها على أنفسهم ‘وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ’، يقول: ولو كان بهم حاجة وفاقة إلى ما آثَرُوا به مِن أموالهم على أنفسهم".
حين توجهت بالسؤال نفسه إلى أمي، كانت الإجابة مختلفةً. قالت لي إن الإيثار هو أن تفضّل الآخرين على نفسك، وتقاوم أنانيتك، وشرحت لي الأمر بتبسيط قائلةً: "إذا كنت تأكل مع صديقك في المدرسة، وفي يدك حلوى هو يريدها، أعطه إياها وكنّ راضياً"، ثم شرحت لي الكثير من الأمثلة العملية الأخرى على هذا المنوال.
رافقني هذا النص القرآني كظلّي، وكنت كلما غلبتني الأنانية في موقف، تقفز في رأسي الجملة القرآنية "ويؤثرون على أنفسهم ولو كانت بهم خصاصة"، فأقاوم أنانيتي وأشعر بلذة غريبة حين أنتصر، وظللت مديناً لأمي وشرحها العفوي للآية القرآنية هذه، إذ ساعدتني في تهذيب نفسي قدر المستطاع.
كبرت وبقيت الآية في وجداني؛ قرأت في علوم اللغة والتراث العربي عن قيمة الإيثار، ووجدت أن معنى الكلمة مشتقّ من الفعل أثر، وآثره على نفسه أي فضّله وأكرمه، ويشكل الإيثار وجدان أبناء الثقافة العربية منذ القدم، ولعل قصة سخاء حاتم الطائي قبل الإسلام، تمثّل جذوراً بعيدةً لهذه القيمة، إذ اقترن السخاء باسم الطائي، فكانت العرب تقول "السخاء حاتم، والشعر زهير"، كما قيل في وصف الكرم: "كرمٌ حاتميّ".
وعن الفرق بين الإيثار والسخاء والجود، عدّد ابن قيِّم الجوزية في كتابه "مدارج السالكين"، فروقاً بين هذه الأفعال، برغم أنها كلها أفعال بذلٍ وعطاء. يقول: "وهذا المنزل، أي الإيثار: هو منزل الجود والسخاء والإحسان، وسمِّي بمنزل الإيثار لأنه أعلى مراتبه، فإنَّ المراتب ثلاثة؛ المرتبة الأولى ألا ينقصه البذل ولا يصعب عليه، فهو منزلة السخاء، أما الثانية: أن يعطي الأكثر ويبقي له شيئاً، أو يبقي مثل ما أعطى فهو الجود، أما المرتبة الثالثة فأن يؤثر غيره بالشيء مع حاجته إليه، وهي مرتبة الإيثار".
الإيثار في العالم المتقدّم
في العصر الحديث، عُرفت قيمة الإيثار بأشكال مختلفة، فصار التطوع في الخدمة العامة فعلاً إيثارياً في المجتمعات المتقدمة، إذ ينفق المواطنون جزءاً من وقتهم أو أموالهم لخدمة المجتمع من دون انتظار مقابل غير مساعدة الآخرين.
وتعدّ المجتمعات المتقدمة الإيثار معياراً لتقييم الإنسان، فعندما يتقدم أحدهم لطلب منحة جامعية أو حتى وظيفة، يكون عدد الساعات التي قضاها متطوعاً في خدمة المجتمع معياراً مهماً وربما مرجحاً لقبوله، فما يحققه الإنسان في هذه المجتمعات من سلوك إيثاري يكون رصيداً مضافاً في سيرته الشخصية.
لعل قصّة أستاذ الفلسفة في جامعة "أكسفورد" توبي أورد، مثال جيد على تبنّي المنظومة الغربية لقيمة الإيثار؛ تبرّع الرجل في عام 2009، بأكثر من ثلث دخله، أي 10 آلاف جنيه إسترليني، للجمعيات الخيرية العاملة في البلدان الأكثر فقراً. كما تبرّع بمبلغ 15 ألف جنيه إسترليني من مدّخراته، كبداية لتعهده بالتبرع بمليون جنيه إسترليني على مدار حياته.
تبقى هناك مشتركات إنسانية، لعل الإيثار من أهمها، وتظل الآية القرآنية تتردد في الآفاق: "وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ"، ليتعلم منها كل الناس هذه القيمة النبيلة
ثم دشن الأستاذ الإنكليزي حملةً لتجنيد أشخاص آخرين، على غرار بيل غيتس، للتبرع بـ10 في المئة على الأقل من جملة الأرباح التي يجنونها في حياتهم. وبعد مرور عام، انضم إليه 64 شخصاً، تعهدوا بالتبرع بمبلغ 14 مليون جنيه إسترليني.
لاقت قصّة توبي أورد، احتفاءً واسعاً وقتذاك، ولكم أن تعرفوا أيضاً أن تمويل أهم الجامعات الغربية نتاج السلوك الإيثاري؛ إذ يأتي الجزء الأكبر من تمويلها عبر تبرعات أفراد ومؤسسات.
ولتبنّي الغرب قيمةَ الإيثار في العصر الحديث تفسيراتٌ علمية رصينة؛ ففي دراسة أعدّها باحثون أوروبيون عام 2017، قال العلماء إنّ الإيثار الناتج عن القيم الفردية يغيّر المجتمع الغربي؛ حيث شهدت المجتمعات في الدول الغربية ارتفاعاً في النزعة الفردية لبعض الوقت، وهذا بدوره ساعد في خلق أجيال من الأشخاص ذوي العقليات الإيثارية.
ووفق نظرية التحديث التي وضعها رونالد إنجلهارت، فإن زيادة الثروة والأمن في الدول الغربية أدّت إلى تحوّل في القيم من الجماعية إلى الفردية. وبدأ الناس بالتقليل من تقدير السلطة والاستبداد، في حين أصبحت الحرية وفرصة التعبير عن الذات أكثر أهميةً.
وبرغم الاختلاف بين منظومتي القيم الغربية والعربية، تبقى هناك مشتركات إنسانية، لعل الإيثار من أهمها، وقد حثّ عليه النص القرآني قبل أكثر من 1400 عام، لذا تظل الآية القرآنية تتردد في الآفاق: "وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ"، ليتعلم منها كل الناس هذه القيمة النبيلة، على اختلاف معتقداتهم وأعراقهم.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
حوّا -
منذ 3 أيامشي يشيب الراس وين وصل بينا الحال حسبي الله ونعم الوكيل
مستخدم مجهول -
منذ 4 أيامكل هذه العنجهية فقط لأن هنالك ٦٠ مليون إنسان يطالب بحقه الطبيعي أن يكون سيدا على أرضه كما باقي...
Ahmed Mohammed -
منذ 4 أياماي هبد من نسوية مافيش منطق رغم انه يبان تحليل منطقي الا ان الكاتبة منحازة لجنسها ولا يمكن تعترف...
مستخدم مجهول -
منذ 5 أياموحدث ما كنا نتوقعه ونتأمل به .. وما كنا نخشاه أيضاً
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 6 أيامصادم وبكل وقاحة ووحشية. ورسالة الانتحار مشبوهة جدا جدا. عقاب بلا ذنب وذنب بلا فعل ولا ملاحقة الا...
mahmoud fahmy -
منذ أسبوعكان المفروض حلقة الدحيح تذكر، وكتاب سنوات المجهود الحربي، بس المادة رائعة ف العموم، تسلم ايديكم