شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!
أثر داعش لا يزال موجوداً… كيف تبدّل رمضان شرق الفرات؟

أثر داعش لا يزال موجوداً… كيف تبدّل رمضان شرق الفرات؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

سائق حافلة يدخِّن سيجارة وإلى جانبه كأس كبيرة من الشاي الخمير (شاي على الطريقة التركية)، عدد قليل من الرجال في المقاهي يلعبون ورقة الشدة (الكوتشينة)، إما "تركس"، أو "بوراكو"، على ثمن المشروب أو لعبة ودية في نهايتها يدفع كل منهم ثمن ما شربه، شبان أو مراهقون يجلسون قرب ضفة نهر الفرات ليدخّنوا سجائرهم أو يقضوا بعضاً من الوقت…

صور أخرى كثيرة كان من الممكن مشاهدتها خلال ساعات النهار في أيام شهر رمضان في منطقة شرق الفرات لولا الخوف الذي سيطر على السكان منذ دخول تنظيم داعش المنطقة نهاية عام 2013.

بعيداً عن صور المفطرين، فإنّ الكثير من العادات في شهر رمضان تبدّلت وما تزال منذ هذا التاريخ، وبقي التغيير صورة من صور الأثر الممتد لداعش شرق نهر الفرات. 

على سبيل المثال، كانت المساجد في فترة الإمساك تعتمد نداءً موحداً وهو "يا أمة خير الأنام... أمسكوا عن الطعام"، يردده المؤذن عبر مكبرات الصوت عدة مرات، ثم بعد حوالى 15 دقيقة ينطلق أذان الفجر. لكن الأمر تبدّل إذ اعتبر داعش هذه الجملة من "البدع والإضافة على الدين"، وأقر بدلاً منها الاكتفاء بالأذان بصيغته الكاملة، وبات الأمر مقروناً بـ"أذان أول" للأمساك عن الطعام، وأذان ثان لإعلان صلاة الفجر.

اضطهاد عادات نسائية

تقول السيدة غادة، التي تقطن في قرية "محميدة"، بريف دير الزور الغربي، لرصيف22: "في سنوات ما قبل داعش، كنتُ أقيم خلال شهر رمضان لمرة أو اثنتين 'مولداً للنساء'، فنجتمع في فترة ما بعد التراويح داخل غرفة في منزلي، نردد بعض الأناشيد التي تمدح الرسول محمد أو نقرأ 'مولد العروس'، أو 'مولد بن حجر'".

من بينها موالد النساء والطقوس الصوفية وزيارة القبور… صور عديدة من المشاهد التي كان من الممكن مشاهدتها خلال ساعات النهار في أيام شهر رمضان في منطقة شرق الفرات اختفت إلى غير رجعة - على ما يبدو - بفعل الخوف الذي سيطر على السكان منذ دخول تنظيم داعش المنطقة نهاية عام 2013

توضح غادة أنه خلال هذا المولد، هناك ضيافة تقدم للنسوة، من فواكه أو قطع حلوى "الراحة" أو "جوز الهند"، مردفةً "كنا نوقد شموعاً وبخوراً ونضع على الطاولة في الوسط بعضاً من الملح والسكر في صحون صغيرة، وشيئاً من المال ولو بقيمة صغيرة جداً، والهدف أن تطرح البركة في البيت ورزقه. ولكل مولد كنت أقيمه إهداء، مرة لروح أمي، ومرة لروح أبي، وهكذا".

تشدد السيدة السورية على أن "كل هذا كان يحدث قبل دخول داعش للمناطق التي نعيش فيها. لكنه حرّم هذه العادة واعتبرها من البدع"، مستطردةً بأنها لم تعاود الكرّة بعد خروج التنظيم لسببين، "الأول هو أن العدد الأكبر من النسوة والرجال بات يعتبر هذه الموالد محرمة فعلاً تأثراً بعقائد التنظيم أو خوفاً من مخالفتها، والثاني هو خوفي الشخصي من وصول خبر إقامتي مولداً لأحد موالي داعش الذين ما يزالون يعملون بشكل سري في مناطق شرق الفرات".

تصر غادة على أن هؤلاء العناصر "مثل الأشباح والجن، يخرجون ليلاً ليطبقوا عقوباتهم بحق من يرمونه بتهمة الكفر أو الشرك أو التعامل مع قسد (قوات سوريا الديمقراطية)".

أما السيدة منى، وهي ربة منزل عمرها 53 عاماً، تعيش قرب مدينة البصيرة بريف دير الزور الشرقي، فتقول: "اعتدت أن أزور المقبرة في كل يوم خميس من شهر رمضان. أجلس بجانب قبور أفراد العائلة، وأشعل شمعاً قرب قبري أمي وابني، أقرأ 'جزء عمّ'، أو بعضاً من 'ربع يس'، وبعض النساء يرددن عدداً من الأغاني التي نسميها بـ'النعي'، قبل أن نوزع ما نستطيع من حلوى أو خبز، نهدي ثوابها لروح الأموات الذين نزورهم".

تلفت منى إلى أن هذا الفعل بالنسبة لداعش بمثابة "شرك علني، وبدعة توجب العقاب. فما عدنا نجرؤ على فعلها ونكتفي بزيارات خارج أيام شهر رمضان"، مؤكدةً أن من يمارس هذه العادات اليوم بعد خروج داعش "معرض لخطر تطبيق العقوبة من قبل مجموعاته التي ما تزال تتحرك سراً في شرق الفرات".

وأد الطقوس الصوفية

اعتاد يونس، وهو اسم مستعار لشاب ثلاثيني يعيش في مدينة الرقة، زيارة مقامات "الأولياء الصالحين" ومشايخ الصوفية مع والدة، خلال شهر رمضان، وذبح خروف أو ما تيسّر هناك وتوزيع اللحوم على الفقراء. 

اعتادت منى زيارة قبور أفراد العائلة وإشعال الشموع عند قبر أمها وابنها. هذا الفعل بالنسبة لداعش اعتُبر بمثابة "شرك علني، وبدعة توجب العقاب. فما عدنا نجرؤ على فعلها ونكتفي بزيارات خارج أيام شهر رمضان"، تقول لرصيف22

لكن داعش نسف ودمّر هذه المقامات، ومنذ زمن وجوده في المنطقة الشرقية لم يعد ممكناً إقامة "حَضَرَات" أو موالد تقام في شهر رمضان أو سواه. "فكل هذه الممارسات تعتبر شركاً صريحاً في عقائد التنظيم، وممارستها توجب العقوبة التي كانت تراوح بين الجَلد أو السجن الذي يعقبه دورة استتابة (معسكر مغلق لمن يوجب عليهم التوبة ويتلقون فيها دروساً دينية مكثفة ويفرض عليهم سوراً طويلة من لقرآن يحددها شيخ الدورة)، أو قد تصل لحد 'القتل تعزيزاً'، بقطع الرأس أو بطريقة يختارها القاضي الشرعي للمنطقة التي يُحاكم فيها المتهم بالشرك أو الكفر"، يقول يونس.

ويضيف: "لأن الخوف من داعش ما يزال يحكم الناس، صار من المرعب إقامة أو حضور مولد ما، أو حتى الحديث عن مكرمات مشايخ الصوفية، أو ممارسة أي طقس ديني بشكل علني على غير طرائق وعقائد داعش إذ قد يصل الخبر لخلايا التنظيم، وبالتالي تُطبّق العقوبة بعد خطف المخالف أو داخل بيته".

علاوة على ما سبق، يوضح عبد الحميد (اسم مستعار أيضاً لشاب من الرقة)، أن حتّى الصدقات حالياً توزّع تحت شعار: "في سبيل الله"، وكل مظاهر التبرّك بالشخصيات الصوفية أو صحابة النبي محمد، باتت مخيفة، وتتم ربما سراً، لافتاً إلى عدم وجود أي "مقام" في المناطق التي كان يحتلها داعش، وحتى مشايخ الصوفية لم يعد يجرؤ أحد منهم على المجاهرة بطقس صوفي في هذه المناطق، لا خلال شهر رمضان ولا غيره. "من يجرؤ على مثل هذا الفعل عليه أن يتوقع عقوبة شديدة من خلايا التنظيم، والعقوبة غالباً هي القتل بطريقة شنيعة"، يختم عبد الحميد.

الأطفال والمراهقون أيضاً تأثّروا

حتّى الأطفال والفتيان في المنطقة، تبدّلت عاداتهم وأفعالهم في شهر رمضان. بشكل أساسي، زاد عدد الأطفال والمراهقين الملزمين بحضور الدروس الدينية ودورات تحفيظ القرآن منذ زمن داعش حتى اليوم. قبل دخول التنظيم، لم يكن عدد الأطفال الذكور في كل مسجد يتجاوز الـ50 تقريباً. مع دخول داعش، باتت هناك دورات مكثفة ومستمرة للأطفال من الجنسين - مع إلزام الطفلات بارتداء النقاب بدءاً من عمر 9 سنوات.

"لأن الخوف من داعش ما يزال يحكم الناس، صار من المرعب إقامة أو حضور مولد ما، أو حتى الحديث عن مكرمات مشايخ الصوفية، أو ممارسة أي طقس ديني بشكل علني على غير طرائق وعقائد داعش إذ قد يصل الخبر لخلايا التنظيم، وبالتالي تُطبّق العقوبة بعد خطف المخالف أو في بيته"

برغم خروج داعش من المنطقة لم يتغيّر الأمر تقريباً. يقول أبو حيان، وهو اسم مستعار لرجل خمسيني يعيش في إحدى بلدات ريف دير الزور: "من يجرؤ على مناقشة الأمر؟ وجود كل هذا التطرف يحتاج سلطة جدية في القضاء عليه. في مناطق واسعة في سوريا، ما من فرصة للأشخاص لفرض تطرفهم على الآخرين. وفي كثير من المناطق انتهى أثر داعش تقريباً، ونادراً ما تجد أناس ما زالوا يُظهِرون التطرف".

يتهم الرجل قسد بتجاهل "خلال التنظيم النائمة" إذ يردف بغضب: "لكن في مناطق سيطرة قسد، من يجرؤ على مخالفة داعش علناً يُعاقب من قبل خلاياه، والأهالي باتوا متأثرين بشكل طوعي بالتطرف. الكل يُلزم أطفاله دورات تحفيظ القرآن والدروس الدينية خلال شهر رمضان وسواه، والكل يلزم أبناءه باتباع عادات داعش في رمضان. حتّى من يمتلك عذراً شرعياً للإفطار، لا يُظهر إفطاره لأحد ولو بالقول، ومن يمتلك مقهى يغلقه طوال ساعات النهار غالباً، ولا يفتح أبوابه إلا بعد صلاة التراويح".

ويواصل أبو حيان: "كانت عادة وقف بيع الوجبات السريعة خلال نهار رمضان محصورة في بعض مطاعم دمشق. كنا نسمع بوجود هذا الأمر ونستغربه ونحن نتساءل: ما الذي يفعله ابن السبيل أو المسافر الذي أبيح له الإفطار؟ أو ماذا يفعل غير المسلم لو جاع في الطريق؟ اليوم هناك من يلتزم بهذا في مناطق دير الزور منذ أن فرضه داعش بتحريمه بيع الطعام للمفطرين، واعتبار الأمر 'إعانة لهم على المعصية'". 

ويوضح أن باعة المشروبات الساخنة والتبغ عادةً ما يبدلون بضاعتهم خلال شهر رمضان ببيع العصائر والمشروبات الرمضانية في أكياس بلاستيكية لا يمكن الشرب منها مباشرة، خوفاً من داعش.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel
Website by WhiteBeard
Popup Image