المرأة الوحيدة التي أذكرها منتقبة في مدينة الحسكة كانت والدة صديق، وارتدته لقناعة زوجها الدينية دوناً عن بقية أشقاء الزوج الذين لم يكونوا يمشون على ذات خطاه.
نساء ريف المناطق الشرقية كنّ يتعاملن مع الحجاب على أساسين: الأول أن تكون الفتاة عزباء فتراها ترتدي شالاً فوق رأسها يُظهر جزءاً كبيراً من مقدمة شعرها، والثاني المتزوجة التي تربط حول حجابها ما يُسمّى بـ"عصاب" أو "عصبة"، ولهذه العصبة ذات الشكل الدائري حول الرأس وظائف منها دفع حر الصيف وبرد الشتاء، إضافة إلى دورها في موازنة ما قد تحمله المرأة الريفية فوق رأسها (حزمة حطب، قِدر، منسف)، وهي، أي العصبة، مكان لتعليق الحلي في الأعراس، ويتبدل لونها وشكلها وطبيعة القماش الذي تُصنع منه.
ما قبل التحوّل
كانت المساجد أيضاً مختلفة. الاختلاف كان في شكل ونوعية الالتزام الديني في المنطقة الشرقية من سوريا، إذ كان رجال الدين من القائمين على المساجد يظهرون غالباً بثياب طويلة، وذقون قصيرة إلى متوسطة الطول، ويعمدون إلى ارتداء عمائم خضراء أو حمراء، وبعضهم صفراء ذات خيوط ذهبية اللون.
وهنالك قسم من رجال الدين كانوا يُعرفون بـ"السادة"، وهم كل شخص ظن الناس أنه ذو حظوة ومكانة عند الله، فمدّه بمعجزة أو قدرة ما، ويُلقَّب الواحد منهم بـ"السيّد فلان"، والسيد قد يكون شيخ طريقة صوفية ما أو ممثلاً عنه في المنطقة، وقد يكون مجرد رجل عابد حفظ الكثير من النصوص المقدسة وتفاسيرها وشرحها، وأخذ على عاتقه أن يحفّظها ويشرحها لمَن حوله من سكان القرية أو الحي.
وثمة نوع ثالث من رجال الدين كانوا يُلقَّبون بـ"المدّاحين"، وهم منشدون يستخدمون "الدفوف" خلال ترديدهم أناشيد في معظمها تمدح النبي محمد، وصحابته، ومشايخ مؤثرين في الحركة الصوفية، مثل عبد القادر الجيلاني أو أحمد الرفاعي أو محمد الخزنوي، وغيرهم. وهؤلاء المداحون لا يمارسون الإنشاد إلا في "مولد" يقيمه ذوو ميت ما في آخر يوم من مجلس عزائه، أو في مناسبة دينية مثل عيد المولد النبوي ورأس السنة الهجرية.
النساء لم يكنّ ملزمات بشكل معيّن من الملابس، والحجاب لم يكن يُفرض قسراً على الفتيات عند بلوغهن مرحلة "الدراسة الإعدادية"، أو "الثانوية"، إلا من بعض العائلات، وهذا الأمر كان معمولاً به في غالبية مناطق المحافظات الشرقية، ولم يكن ثمة مكان مخصص للنساء في مساجد المنطقة الشرقية قبل بداية الألفية الثالثة، وكانت الشرفات المخصصة للنساء تزدحم بهنّ في ليالٍ قليلة، لا يتجاوز عددها أصابع اليد الواحدة طيلة العام، مثل ليلة القَدر.
كان مسلمو دير الزور بتعدد الطرق الصوفية والمذاهب التي ينتمون إليها، يقيمون في ليلة النصف من شعبان طقساً يعتبره البعض وثنياً، فيشعلون الشموع ويتركوها تطوف فوق نهر الفرات بعد تثبيتها على قطع من الخشب أو الفلّين، وهي شموع نذور لـ"الخضر"، الشخصية التي تقدسها كل الديانات الإبراهيمية، في طقس يقيم مثله جزء من الهنود في عباداتهم.
ماذا حدث؟
ظن العالم أن الصور التي تداولتها وسائل الإعلام عن قيام نساء من الرقة بنزع النقاب أو التدخين العلني بعد خروج داعش من المدينة كانت مؤشرات على انتهاء مرحلة مظلمة، وأن الأثر الذي تركه التنظيم بعد سيطرته على أجزاء واسعة من المنطقة الشرقية انتهى بإخراجه من المنطقة، إلا أن غالبية النساء اللواتي يعشن حالياً في المنطقة التي بات يُصطلح عليها بـ"شرق الفرات" يرتدين النقاب على الرغم من كون "قوات سوريا الديمقراطية" هي "سلطة الأمر الواقع" التي تسيطر على المنطقة.
ورغم اختلاف الأيديولوجيا جذرياً بين "داعش" و"قسد"، وعمل الأخيرة على نشر ما تؤمن به من أفكار سياسية في المنطقة، إلا أن الأثر الذي تركه التنظيم المتشدد أقوى بمرات، وهو ليس محصوراً بالأزياء النسائية فقط، بل يتعداه إلى حد إقامة دورات دينية في المساجد وبشكل دائم من قِبَل رجال دين لا يخفون إيمانهم بما يؤمن به "داعش"، دينياً. وغالباً ما يكون "المتعلمون" في هذه المساجد من صغار الجنسين. ولتشجيع الأطفال على "التعلم" أكثر، تُقام مسابقات لتحفيظ القرآن وحفلات تكريم للمتفوقين الذين لا يثبت تفوقهم إلا بحفظ القرآن كاملاً.
"النساء لم يكنّ ملزمات بشكل معيّن من الملابس، والحجاب لم يكن يُفرض قسراً على الفتيات عند بلوغهن مرحلة ‘الدراسة الإعدادية’، أو ‘الثانوية’، إلا من بعض العائلات... ولم يكن ثمة مكان مخصص للنساء في مساجد المنطقة الشرقية قبل بداية الألفية الثالثة"
ما فرضه داعش خلال فترة سيطرته انعكس على العادات المجتمعية. منعه إقامة الأعراس الجماعية غيّر في طبيعة الأعراس بعد العودة إلى إحيائها، فبات من النادر أن تحضر فتاة عرساً لأحد أبناء أخوالها أو جيرانها وهي تضع مساحيق التجميل، وباتت المساحيق لا تُرى على وجه الأنثى إلا في مكانين: الأول في حفلة عرس لا يحضرها إلا الأصول الأقربين، وهي حالة نادرة أيضاً، أما المكان الثاني فهو غرفة نومها مع زوجها.
حتى الشبان في المنطقة تبدل مزاجهم في قصات الشعر، فداعش حرّم عليهم إزالة الذقن وقص الشعر قصيراً، في حين أن الدارج قبل الحرب كان أن شعر الرجل قصير، ومَن يقوم بإطالته هو "متشبه بالنساء"، ويتعرض لموجات سخرية وتنمر تصل إلى وصفه بـ"طنط"، وهي كلمة تعني في مفاهيم سكان المنطقة "مثلي الجنس"... لكن ما فرضه التنظيم دفع عدداً كبيراً من الشبان إلى إطالة شعرهم وصار الأمر يُعتبر عادياً، بل واجباً فهو مِن "السنّة"، كما روج التنظيم في فترة وجوده.
كانت التصفية الجسدية العقاب الأمثل والأسرع لمخالفي شريعة تنظيم داعش أو مُعلني الخصومة معه، ولعل الخوف من ممارساته هو السبب الأساس في استمرار أثره الذي ينعكس في مظاهر التشدد الديني المنتشر في مناطق "شرق الفرات".
هذا الخوف كان نتيجة لصناعة الرعب التي خلقها التنظيم طيلة فترة وجوده من خلال تطبيق أحكام قاسية وبشكل علني ومكثف بحق مخالفيه، وكان قد ربط أقسى العقوبات بالأفعال الجنسية وبلباس النساء، فالرجم لمَن يتهمه بممارسة "الزنى"، والرمي من شاهق لمَن يتهمه بالمثلية الجنسية، والجلد العلني لكل امرأة لا ترتدي النقاب، والضرب لمَن تُظهر يديها أو ترتدي لوناً غير الأسود... ولأن خطر التنظيم لم ينتهِ بعد من وجهة نظر السكان نتيجة لمجموعة كبيرة من الجرائم المسجلة باسمه في شرق الفرات، فإن الخوف مستمر.
وإذا كان من المنطقي أن ينتهي عامل الخوف بانتهاء مسبباته، فإن استمرار تصديق ما يؤمن به التنظيم هو الأكثر خطورة لكونه يحمي تشدده من الزوال.
تزداد خطورة أثر داعش ضمن مناطق مثل "مخيم الهول"، الذي ما يزال سكانه عرضة لأيديولوجيا التنظيم، فهم يعيشون تحت سطوة مَن يسكن معهم من بقايا التنظيم المتطرف، رغم أن السلطة في المخيم الواقع على بعد نحو 45 كيلومتراً شرقي الحسكة من المفترض أنها لـ"قوات سوريا الديمقراطية". لكن سُجِل عددٌ كبيرٌ من جرائم القتل داخل المخيم بسبب مخالفة الضحايا لقواعد داعش الشرعية.
"كانت المساجد مختلفة... وكان رجال الدين من القائمين على المساجد يظهرون غالباً بثياب طويلة، وذقون قصيرة إلى متوسطة الطول، ويعمدون إلى ارتداء عمائم خضراء أو حمراء، وبعضهم صفراء ذات خيوط ذهبية اللون"
وبحسب أرقام تمكّنتُ من جمعها، سُجّلت في العام العام الماضي 96 جريمة قتل، من بين ضحاياها 63 امرأة، غالبيتهن قُتلن لمخالفة قواعد شرعية نص عليها قانون داعش. وخلال الفترة الممتدة من بداية العام الحالي وحتى منتصف شهر آب/ أغسطس سجلت 46 جريمة قتل، من بين ضحاياها 27 امرأة قُتلن لمخالفة شريعة داعش أيضاً. ويضاف إلى ذلك عدد كبير ممّن اعتُدي عليهم بالضرب أو بإحراق خيمهم.
كما تشير أرقام إلى أن نحو 1500 شخص غادروا "مخيم الهول" نحو مناطق في حلب والرقة ودير الزور دون خضوعهم لأي برنامج إعادة تأهيل مجتمعي أو نفسي، وبالتالي هنالك خطر أن يمارس بعضهم ذات العقائد في المناطق التي عادوا إليها.
ماذا بعد؟
القضاء على أثر داعش يحتاج إلى عمل جاد من منظمات المجتمع المدني، والمنظمات الأممية المعنية. على هذه الجهات أن تمارس دورها في معالجة آثار ما خلّفه التنظيم على المستويين النفسي والمعرفي في المنطقة، وهي مسألة تحتاج إلى زمن طويل وبرامج تستهدف كل شريحة عمرية على حدة، على أن يكون الاستهداف الأكبر لشريحتي الأطفال والشباب. والشريحة الأخيرة تُعَدّ الأخطر لكونها تُعَدّ في أعراف التنظيم الشريحة العمرية المكلفة بالقتال لنشر أفكاره.
يبقى أن إنهاء أثر داعش يتطلب أولاً إنهاءً حقيقياً لخطره العسكري، ومن ثم إنهاءً لأثره في المساجد من خلال إبعاد المتأثرين به عن منابر الخطابة، ومواجهة أي شكل من التطرف القادر على التأثير في الآخرين.
العودة إلى عرس مختلط تمسك فيه الصبايا بيد الشبان ضمن حلقة الدبكة لا تبدو مستحيلة إذا وُجدت جهات رسمية وشعبية ومنظماتية ترغب في مشاهدة الصبايا وقد تزينّ وارتدين "زبوناً مقصباً"، ورمين فوق شعرهنّ على عجل "هبرية"، لا تعيق انسدال "الغرة"، أمام إحدى العينين لتكون للعين الثانية حرية البريق حين وقوعها على عين شاب يراقبها وهي تمشي بجوار قرينتها وهنّ يغنين "والعريس عد سياقة يا علالة".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ ساعة??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 21 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون