يتصدر مسلسل "أولاد بديعة" قائمة الأكثر مشاهدة في منصة "شاهد"، العمل كتبه يامن الجحلي وعلي وجيه، وأخرجته رشا شربتجي، ويحكي قصة أولاد بديعة مجهولي النسب، وتدور أحداثه في سوق الدباغة في دمشق بين ثلاثة أزمنة، الأول هو مطلع التسعينات، والثاني 2009، والثالث هو الوقت الحاضر.
لا شعور بالذنب لدى الشخصيات
أثناء متابعة العمل لا ينتظر المشاهد مبررات لجرائم الأبطال، إذ لا يعالج العمل الصراع بين الخير والشر بشكله الكلاسيكي والمستهلك، بل يبحث عميقاً في الخير والشر غير المطلقين في الإنسان نفسه، وبدايات بذرة كل منهما.
لا يتوقع "المشاهدون" ممن عاش وكَبُر في الشارع أفعالاً غير تلك التي يرتكبها أولاد بديعة، وهي امرأة "على البركة" لا تنطق إلا بجملة واحدة هي: "يا كريم"، حيث يسوقها البحث عن الطعام إلى سوق الدباغة مطلع التسعينيات ومعها طفلتها التي لا تتجاوز الخمس سنوات، وقد لعبت دورها باقتدار الممثلة السورية (أمارات رزق).
لا ينتظر المشاهد مبررات لجرائم الأبطال -وهي كثيرة-، إذ لا يعالج العمل الصراع بين الخير والشر بشكله الكلاسيكي والمستهلَك، بل يبحث عميقاً في الخير والشر غير المطلقين في الإنسان نفسه، وبدايات بذرة كل منهما
تربي بديعة ابنتها الكبيرة التي يصبح اسمها سكر، التي تؤدي شخصيتها حين تكبر (سلاف معمار)، قبل أن تحبل بين الدباغين بولديها التوأم، شاهين الذي ييلعب دوره (سامر اسماعيل)، وياسين الذي يلعب دوره (يامن الحجلي)، وقد أنجبتهما من عارف الدباغ (فادي صبيح) بسبب اعتدائه عليها، وهنا تظهر لمحة أخرى من لمحات "عدم المحاكمة الأخلاقية"، فعارف الدباغ (فادي صبيح) واقع بالفعل في غرام بديعة برغم اعتدائه عليها، وهي لقطة تضع المشاهدين في حيرة لكنها أساسية في بناء العمل.
يتصارع أولاد بديعة مع شقيقهم مختار (محمود نصر) الإبن الشرعي الوحيد لعارف الدباغ على إرث أبيهم الذي مات قبل أن يعترف بأبوته لهم، ودون أن يكتب لهم شيئاً من أملاكه.
الاغتصاب والقتل والسرقة وتلفيق التهم والخاوات، جميعها أفعال لم تخضع في العمل لتقييم أخلاقي أو إنساني، لا من قبل الأبطال ولا حتى المشاهدين؛ فالقصة تدور عن عوالم قاسية وتشكّلت بطريقة غير طبيعية، وعليه أنتجت إنساناً عليه أن يصارع للحصول على أبسط بديهيات الحياة، أولها أن يكون له اسم ووجود في الحياة.
سر القبول الكبير للعمل
(ما بيشغلني/ فاحت ريحة البارود/ ياسينو يا برنس/ زبون مداوم) هي "لازمات لفظية" جاءت على لسان أبطال العمل، حيث استخدمت كل شخصية في المسلسل تقريباً لازمة لغوية تناسب طابعها ومستواها الثقافي وموقعها في الصراع، بلغة تشبه ما نحكيه في الشارع ومع الأصدقاء، لتصبح جمل العمل ومنذ الأسبوع الأول لعرضه ردوداً بين مستخدمي مواقع التواصل الاجتماعي يستخدمونها بطريقة فكاهية تنم عن إعجاب كبير بالمسلسل وتبني للغة ابطاله.
استخدمت كل شخصية في العمل لازمة لغوية تناسب طابعها وموقعها في الصراع، وتشبه ما نحكيه في الشارع ومع الأصدقاء، فصارت جمل العمل ردوداً بين مستخدمي مواقع التواصل الاجتماعي.
لا شك أن العمل يشبع حاجة المشاهدين للـ"أكشن"، عبر أحداثه القاسية والدموية والتي تتصاعد وتيرتها بسرعة مناسبة ويتم تأديتها بحرفية عالية.، وهي قسوة لا ينسى المسلسل أن يربطها بقسوة المهنة والمكان الأساسي الذي تدور فيه الأحداث "سوق الدباغة"، ولاحقاً -في زمن آخر- بظروف الحرب وما تتركه في الناس من تكسير للقيم والثوابت الاجتماعية بهدف النجاة في صراع البقاء.
أداء مبهر ببعد نفسي لكل الشخصيات
التقييم الأهم لأي مسلسل هو مستوى أداء الممثلين فيه، وها نحن نشاهد أداء متميزاً لجميع الأبطال، ولعل الممثل محمود نصر الذي لعب دور "مختار" قد استنطق الشخصية المكتوبة، وخاض في عالمها النفسي ونشأتها المضطربة ليقدم شخصية تمثّل بكل ما فيها؛ حتى عينه وأذنه تمثّلان.
ليس جديداً على سلافة معمار أن تلعب دوراً لافتاً، بأداء محترف ومقنع يعلق المشاهد فيه وفي تفاصيله، خاصة أنها تميزت في الأدوار المركبة التي تحمل في بنيتها الدرامية تناقضات كبيرة ومتطرفة، فهي تنحاز بقصد أو بدون لرواية المرأة عن نفسها، بعيداً عن تقييم الآخرين لها، وربما أولهم المشاهد، حيث تتهم سلافة معمار دائماً بالجرأة الزائدة، إلا أنها تتشرّب الشخصية وتصادقها امرأة لامرأة وتبحث في أسلوبها الشكلي والنفسي والعاطفي لتقدم دوراً يحبّه المشاهد رغم الإجرام والشر الذي فيه، وتنسيه بوعي ومهنية دورها الأخير في مسلسل الخائن الذي لم يمض على انتهاءه عدة أيام قبل بدء مسلسل "أولاد بديعة".
كذلك، تستحق أمارات رزق الإجادة المستمرة بأدائها لما فعلته في الحلقات الأولى من العمل، بديعة التي "على البركة" ولا تتحدث، لكنها تمثّل بانفعالات وجهها، فقد استطاعت من دون كلام أن تقول كم هي خائفة، أو كم هي محبة، والمشهد الأهم قامت بأداءه بعينين جاحظتين وهي تلد توأمها ساهين وياسين.
رشا شربتجي "تسن سكاكينها"
استخدمت رشا شربتجي أفضل أدواتها في العمل، فاختيار الأماكن للتصوير كان ممتازاً، والكوادر ممتعة، وتلوين المشاهد جاء احترافياً، خاصة أن العمل يدور بين عدة أزمنة تختلف عناصرها من ناحية الملابس والسيارات والإكسسوارات والألوان، إلا أنها قدرت على تقديم صورة ممتعة توازي ما يعرض في المنصات العالمية، وتواكب احتياج المشاهد للوحات فنية عالية الجودة، وهنا لا بد من الإشادة بالطاقم الفني للمسلسل والإسناد الجمالي الذي يظهر في كل الكوادر وفي أصغر التفاصيل ليميز زمناً عن آخر، وطبقة عن أخرى، وحتى ثقافة اجتماعية عن سواها.
الاغتصاب والقتل والسرقة وتلفيق التهم والخاوات، جميعها أفعال لم تخضع في العمل لتقييم أخلاقي، لا من قبل الأبطال ولا حتى المشاهد؛ فالقصة عن عوالم تشكّلت بطريقة غير طبيعية وأنتجت إنساناً عليه أن يصارع للحصول على أبسط بديهيات الحياة
القطارت المدمرة في أطراف دمشق حيث يجتمع أولاد بديعة مع شقيقهم مختار، كانت من أفضل المواقع التي استُخدمت في التصوير، إذ أن المكان غير مألوف بالنسبة للمشاهد ومخيف في نفس الوقت، وتدور فيه أهم المشاهد التي يتصارع فيها الأخوة على المال والسلطة والنسب حتى، فيحاول كلواحد منهم أن يقتص من الآخر فوزه، وهي مشاهد تذكرنا بأصل الصراع القائم ومدى الألم الذي تعانيه الشخصيات المظلومة قبل أن تكون ظالمة.
غابت سوريا كصورة عن المشهد منذ سنوات طويلة بسبب الأعمال المشتركة التي تم تصويرها في لبنان أو بسبب ضعف الإمكانيات الإنتاجية، وبالطبع بسبب تداعيات الحرب وامتناع الكثير من المحطات عن شراء الأعمال السورية، إلا أن الكاتبين والمخرجة يعيدون الوضع إلى ما كان عليه عبر الحوار الواقعي، وعبر الكاميرا الذكية.
إذ تم تصوير المشاهد بأسلوب تخبر المشاهد فيه أن الدراما في سوريا عادت لما كانت عليه، وأنها تتعافى شيئاً فشيئاً، فقد قامت شربتجي بتصوير سوريا المدينة، والأطراف، وسوريا القديمة، وسوريا المدمرة، كما مرر الكاتبان خلال العمل الكثير عن تفاصيل الحياة في الحرب وبعدها، مثل أزمة الدولار، وأزمة المحروقات، والسكن والتعفيش، والفساد والدعارة، وحتى المفقودين ومعضلتهم القانونية، وتشكل العصابات وأثرياء الحروب.
البطولة المشتركة... سحر الدراما السورية
اللافت في المسلسل أيضاً هو أن مستوى أداء الشخصيات التي تلعب أدواراً ثانوية أو شبه رئيسية لم يكن أقل من المستوى الأدائي لأبطال العمل، الأمر الذي حافظ على سوية مرتفعة في كل المشاهد، سواء ضمت الشخصيات الرئيسية أم لا. ولعل أبرزهم "محمد حداقي" (أبو الهول) الذي يلعب دور رئيس عصابة يبدو للمشاهد أنه من مناطق الرقة أو الشمال الشرقي السوري، والذي أصاب الثراء في وقت الحرب بسبب السرقة و"الخاوات"، وكذلك "غزوان الصفدي" الذي يؤدي دور القوّاد بأدق التفاصيل.
بطل العمل هو من يتخذ القرار الذي يؤثر على بقية الشخصيات، إلا أن الدراما السورية اعتمدت منذ البداية على البطولة المشتركة، في كل أنواع الإنتاجات التي قدمتها. فمنذ سنوات لم يجلس المشاهد ليتابع القصة السورية المصورة في سوريا والتي يؤديها ممثل/ة سوري فقط، لذا يتصدر اسم العمل أي حديث عن الدراما في رمضان، فاليوم لا مجال للاستخاف بالمشاهد؛ الجميع يريد قصة جديدة وتمثيل بمستويات عالية وإخراج متفوق، وهذا ما اعتدنا أن تقدمه لنا الدراما السورية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
عبد الغني المتوكل -
منذ 17 ساعةوالله لم أعد أفهم شيء في هذه الحياة
مستخدم مجهول -
منذ 18 ساعةرائع
مستخدم مجهول -
منذ 5 أيامكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت