في لبنان سنة 2016، ركبت سيارة أجرة من منطقة "البور" إلى مكان عملي. كان سؤالي المعتاد للسائق: "قديش؟"، أي كم سيأخذ. في كثير من الأحيان، كان السائق يبادر بسؤال المبلغ المطلوب. خلال حديثنا، سألني السائق: "انت من اللاذقية؟ من الساحل؟"، فقلت له: "لا، ما الذي جعلك تظن ذلك؟"، فقال: "من لهجتك"،ابتسمت ساخراً وقلت: "لديك وجهة نظر نمطية، ولا أستطيع لومك لأنك لا تعرف، وأنت لست الأول من يقول هذا".علمت أنه لا يتحدث عن اللهجة، بل عن حرف "القاف"الذي يلفظ بقوّة في مدينتي سلمية، حيث يمكن أن يظن الآخرون أننا نتشاجر من شدة اللفظ.
وجه السائق كان خالياً من التعبير، وكان سؤاله يحمل بعداً آخر، ربما كان له علاقة بالفترة التي عاشها لبنان تحت الوصاية السورية (1976-2005) وتأثيراتها السلبية على اللبنانيين نتيجة تدخلات وانتهاكات الحرب الأهلية، وكان ذلك يشير إلى انقسامات مناطقية وخوف من التنقل بين بعض المناطق بعد انتهاء الحرب، ما جعل البعض يحمل صورة مشوهة عن الآخرين.
قلت له: "هل تعلم أن هناك مناطق في سوريا تلفظ حرف القاف، مثل سلمية وريف حمص والسويداء؟"، فسألته إن كان قد زار السويداء، فقال: "لا، لم أزر سوريا"، فقلت له: "يجب أن تزورها لتغيير الصورة التي لديك عنها"، ضحك وقال: "سأزور سوريا قريباً وأتعرف عليها". ودّعنا بعضنا ونزلت من السيارة.
هناك عدة أشياء حافظت عليها حين غادرت سوريا، منها لهجتي السلمونية، رغم أن عدة أشخاص قالوا لي إن لهجتي ليست سلمونية جداً وتبدو مختلفة عن باقي متحدثيها، لأن لهجة المدينة ثقيلة باللفظ وفجّة، حيث تمتاز بالتركيز على بعض الأحرف بشكل كبير مثل (ط، ب، ج، ق، ص). كما أن أهل المدينة لا يلفظون الحرف الأخير حين ينادون شخصاً أو في بعض الكلمات. أعتقد أنهم كانوا على حق، فيبدو أنني حافظت على نسخة خفيفة من اللهجة وحروفها، ويجب أن أذكر أن لهجتي واجهت القليل من الامتعاض من قبل بعض الأشخاص، جزء منهم كانوا من بلدتي، فقد كان بعضهم يستبدل لهجته باللهجة الشامية البيضاء كنوع من إخفاء الهوية. لا أعلم من قال لهم إن عليهم أن يفعلوا ذلك، ولا ألومهم على قرارهم، لأننا ببساطة نعيش في عالم سافل وسخيف. لن أنكر أنني حاولت أن أغير لهجتي لمرة أو مرتين فقط، لكنني كرهت التجربة، وشعرت بأنني أخفي جانباً من ذاتي التي أحب، فقد كان مجرد كذب على النفس لأجل التماهي المصطنع مع الآخر ليتم قبولي، فعدت مجدداً إلى الأصل.
يُعتبر حرف القاف من الحروف التي تأخذ مكانة كبيرة في اللهجات السورية، ويُلفظ بوضوح في العديد من المناطق، مثل سكان الساحل، منطقة جسر الشغور في الشمال الغربي، جبل العرب، منطقة الحسكة، ريف حماة وريف حمص، وبعض أرياف البادية. ومن هنا نلاحظ أن حرف القاف ليس خاصاً بأهل الساحل السوري فقط، ولا يقتصر على العلويين أو سكان الجبال، بل يُسمع أيضاً في المناطق الأخرى. بالمقابل، لا يلفظ هذا الحرف بشكل كبير وسط مدن اللاذقية، طرطوس، بانياس وجبلة، حيث لا يظهر كثيراً، لكنه يبقى واضحاً جداً في الأرياف البعيدة أو الملاصقة لهذه المدن. والمعروف أن هذه المناطق المذكورة تمتلك تنوعاً في مكوناتها، والتي أيضا قد اُسقط عليها صورة نمطية تكاد تكون عالمية، صورة شكلتها سياسة التهميش وغياب الوعي، فغذّاها الجهل وكرسها الإعلام على مدار الوقت.
يُعتبر حرف القاف من الحروف التي تأخذ مكانة كبيرة في اللهجات السورية، ويُلفظ بوضوح في العديد من المناطق، مثل سكان الساحل، منطقة جسر الشغور في الشمال الغربي، جبل العرب، منطقة الحسكة، ريف حماة وريف حمص، وبعض أرياف البادية
كيف تُبنى الصور النمطية المرعبة؟
"النيل من هيبة الدولة" هي جملة قانونية قد تثير العديد من التساؤلات. لماذا يجب على السلطة أن تخشى على هيبتها من فرد أو شعب تحكمه بقبضة حديدية؟ هل هيبتها بالفعل مهزوزة، أم أن هذه الهيبة غير موجودة في الأساس؟ هذا قد يشير إلى نوع من انعدام الثقة بين السلطة والشعب. وعندما تسعى السلطة للحفاظ على هيبتها، يصبح ذلك أولويتها الكبرى، وهذا يتطلب منها التركيز على قوتها الداخلية بدلاً من الأمور الخارجية، ما يجعلها تستخدم كافة أدواتها الاستخباراتية والأمنية لمراقبة المواطنين. تصل الأمور إلى درجة أن المواطن أصبح يراقب مواطناً آخر، فيتحول الجميع إلى مراقبين لأنفسهم ولمن حولهم، ليعيش الجميع في حالة من الخوف المستمر، حيث "الجدران تمتلك آذاناً تصغي طوال الوقت".
في نص من "سأخون وطني" للكاتب محمد الماغوط، يدور حوار بين شخصين حول المراقبة. يقول أحدهما: "ربما تسمعنا المخابرات"، فيرد الآخر: "أنا من المخابرات، وإذا لم أجد ما أراقبه، سأراقب نفسي"،ثم يتابع قائلاً: "المخابرات تراقب المخابرات"، ليعكس الحالة الغريبة التي تفرضها الرقابة المستمرة.
تأثير اللغة على تشكيل الصور النمطية
الآن للإجابة على السؤال الذي طرحته بما يخص ربط الرموز سوياً، فسأبدأ باللغة وربطها مع السلوك الذي تنتهجه السُلطة. فكما يعرف بعضكم، كلمة "مخابرات" يجب أن تكون كلمة عادية، وإلى حد ما مطمئنة للأفراد في دولتهم، لأنها تعني أن هناك أشخاصاً يعملون كل الوقت لحمايتهم وحماية بلادهم من الخارج. لكن لم تكن تلك القصة بهذه الرومانسية في ذاكرة السوريين، فلقد ارتبط اسم المخابرات (لغوياً) بالاعتقال التعسفي والتغييب القسري والتعذيب (سلوكياً). هذه الصورة لم تنشأ فجأة، بل تم تشكيلها بمرور الوقت، من خلال خطاب السلطة ووسائل الإعلام، ما جعل هذه الكلمة تكتسب دلالات قاسية ومرعبة.
ولأن هذه الصورة قد عكست نتائج إيجابية للسلطة، فبالتأكيد ستقوم بتطبيق كل حذافيرها على باقي الأفرع الأمنية. هذا التأثير اللغوي والاجتماعي يخلق حلقة مفرغة: كلما سمع شخص ما كلمة "المخابرات" ارتبطت في ذهنه مع صور الخوف والتعذيب، وربما يتوقف قلبه ويتمنى لو الأرض تنشق وتبلعه، لأن عنصري (اللغة والسلوك) ارتبطا بصلابة معاً، ليشكلا رمزاً صورياً وسمعياً يمثل كل ما يوقع الرعب بالنفس البشرية، وهذا من شأنه أن يعزّز هيبة السلطة وتكريس الصورة السلبية لهذه الأجهزة في وعي الأفراد.
أما عن حرف القاف واللهجة (اللغة)، فقد استنسخها سوريون عديدون من طوائف وأديان أُخرى، قبل وأثناء الحرب، كنوع من التبجّح لفرض الرمزية السلطوية ذاتها، فالأشخاص الذين قاموا بتقليدها كانوا يشعرون عن جهل بأن لها قوة سحرية خاصة، وبالتحديد أثناء التحقيق أو تحدثهم لشخص حين يقومون باعتقاله.
اللهجة لم تعد مجرّد أسلوب حديث، بل أصبحت رمزاً من رموز القوة والهيبة. هذا التقليد لم يكن مقتصراً على الشخصيات السياسية أو العسكرية، بل امتد إلى أوساط مدنية أيضاً، حيث بدأ بعض المدنيين بتقليد هذا الأسلوب كنوع من التميز أو فرض الذات، حتى أنني أعرف أشخاصاً من أبناء مدينتي قد اعتمدوها في حياتهم اليومية كمدنيين، كأنهم قاموا بعمليات استبدال لعقلهم بشكل كامل. لم يدركوا أن هذا الفعل يحمل في طياته تبني صورة نمطية سلبية قد تؤدي إلى تقسيم المجتمع وتحقيق هيمنة رمزية على الآخر.
فحتى لو كانت هذه التقليدات تبدو للوهلة الأولى غير ضارة، فإنها تعمل على تعميق الهوة بين مختلف فئات المجتمع. لما لا، فهي تعطيهم نوعاً من جرعة السُلطة الممزوجة بالذكورية المريضة، لكنهم ولجهلهم العميق، لم يعلموا أن هذا الفعل سيأتي بكوارث على البلد، حيث يترسّخ الخوف ويعزّز القسوة داخل الأفراد، ما ينعكس سلباً على الروابط الاجتماعية ويعمق الصراعات.
اللهجة لم تعد مجرّد أسلوب حديث، بل أصبحت رمزاً من رموز القوة والهيبة. هذا التقليد لم يكن مقتصراً على الشخصيات السياسية أو العسكرية، بل امتد إلى أوساط مدنية أيضاً، حيث بدأ بعض المدنيين بتقليد هذا الأسلوب كنوع من التميز أو فرض الذات
تفكيك الرموز: بين الحقيقة والتصورات المغلوطة
والآن بعد أن فكّكنا كلا الرمزين بشكل مُبسّط، يمكننا التحدث عن علاقتهم مع المنطقة أو الطائفة العلوية. يمكنك أن تسأل العديد من الناس في سوريا أو خارجها: "من يحكم سوريا؟". غالباً من 50% إلى 85% سيقولون لك إن العلويين هم من يحكمون. وهذا الكلام غير دقيق على الإطلاق، ففي معظم المؤسسات ستقابل ضباطاً ومدراء مؤسسات من مكونات عرقية ودينية مختلفة من الشعب السوري. لذلك، من الأفضل والأكثر دقة القول إن سوريا كانت تحكمها عائلة الأسد بشكل رئيسي، ثم يتبعها تركيبة هيكلية من المحسوبيات (الواسطة) التي يمكن تقسيمها إلى ثلاث طبقات رئيسية: الأولى هي الطبقة النخبوية التي تقدم ولاءً كاملاً للحكم، سواء لاعتبارات مصلحية أو سياسية. الثانية هي الطبقة المتوسطة التي يتواجد فيها مدراء الدوائر الحكومية البسيطة والمسؤولون عن المهام الروتينية، والذين يعتمدون في وظائفهم على المحسوبيات دون القدرة على التأثير الحقيقي في القرار السياسي. أما الطبقة الثالثة فهي الطبقة الجاهلة سياسياً، والتي تقتصر وظيفتها على تكريس الصورة النمطية للدولة عبر استخدام الرموز فقط، دون أن يكون لها دور في صناعة القرار، ورغم أنها قد تكون فاعلة في نشر الفساد، فهي تُعتبر ضرورية لضمان استمرارية الهيكلية السلطوية.
بناءً على هذا، يمكن القول إن هناك الكثير من الناس لديهم صورة مشابهة لتلك المصنوعة في ذهن سائق التاكسي. ربما تختلف قليلاً، لكن الفكرة الأساسية هي ذاتها. فالإنسان بطبعه لا يحب المجهول، لذلك يسعى دائماً لتفسير الأشياء التي يراها أو يسمعها منذ ولادته ليجعلها أكثر ألفة وفهماً. إذا تملّكه الخوف، فإنه يميل إلى التمسك بالمعلومات التي لديه، ويقوم بتشكيل صورة تتناسب مع الظروف المحيطة به وحالته الفكرية، فسائق التاكسي، على سبيل المثال، لم يزر سوريا إطلاقاً، وبالتالي فهي بالنسبة له مكان شبه مجهول، بالرغم من أنه يمتلك بعض المعلومات عنها من مصادر مختلفة. ومع ذلك، فقد فضّل توليد صورة عن سوريا تناسب رؤيته، هذه الصورة أصبحت بالنسبة له أحد الثوابت التي تحميه من التعرّض لمخاوفه من المجهول. لا شك أن المعلومات الجديدة التي أخذها مني قد حدّثت جزءاً من نمط الصورة، فالإثبات بالنسبة لي كان وجهه المبتسم قبل خروجي من السيارة.
من هنا، نستطيع أن نستنتج أن فكرة ربط رموز (اللغة، السلوك، السلطة) التي استخدمتها مجموعة من الناس لتشمل طائفة معينة بأكملها، وإلقاء اللوم على هذه الطائفة فقط لأن بعض أفرادها كانوا في السلطة، هي فكرة غير دقيقة ولا تؤدي إلا إلى التحريض والتجهيل.
هذه التصورات تجعلنا نُحمّل فئة معينة من الناس مسؤولية كل شيء، متجاهلين أن هناك شبكة من العوامل السياسية والاجتماعية التي تؤثر في هيكلية الحكم. هذه الصورة المبسّطة تقوّض فهمنا للأحداث، وتجعلنا أكثر استعداداً لتصديق روايات أحادية الجانب دون النظر إلى الصورة الكاملة. لذلك، يجب علينا أن نتوقف لحظة لنتأمل بعناية الصور النمطية التي نكوّنها في أذهاننا، وأن نتذكر أهمية الاستماع إلى القصة من جميع جوانبها قبل أن نتسرع في إصدار الأحكام، فاليوم، لا يمكننا ربط الذين كانوا يؤيدون النظام السابق مع مجرميه بشكل شامل وعشوائي، ولا يمكننا القول بأن كل من قاتلوا إلى جانب النظام هم من فئة واحدة، وفي الوقت نفسه، لا يمكننا وصف معارضي النظام الذين شاركوا في الثورة بأنهم خونة أو عملاء.
من جهة أخرى، ليس من الصحيح وصف الأشخاص الذين لم يشاركوا في الثورة بأنهم راضون عن النظام. يجب أن نتذكر أن الجميع كانوا تحت نظام سلطوي قمعي ووحشي استمر لأربعة عقود على الأقل.
نفس الأمر ينطبق على كل مكونات الشعب السوري بمختلف خلفياتهم، حيث انضموا إلى بعضهم البعض في الشوارع ليعبروا عن تضامنهم وسعيهم لتحقيق حقوقهم وشكل دولتهم المستقبلية. هذه اللحظة تستدعي احتضان كل الأصوات والعمل معاً، مع التأكيد على أن الجميع جزء أصيل من النسيج السوري، وأن الوحدة الوطنية تقوم على التفاهم المتبادل والاعتراف بحقوق الجميع دون إقصاء أو تهميش.
إنها دعوة لننظر جميعاً في مرآة ذواتنا، لنتساءل كيف يمكننا أن نصبح جزءاً من التغيير الذي ننشده. لا يمكننا بناء مستقبل أفضل إذا حملنا ذات العقلية التي ننتقدها. كل ما نحتاجه هو خطوات صغيرة نحو التفاهم، نحو العدالة، ونحو سوريا التي نحلم بها جميعاً.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 9 ساعاتوحدث ما كنا نتوقعه ونتأمل به .. وما كنا نخشاه أيضاً
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 14 ساعةصادم وبكل وقاحة ووحشية. ورسالة الانتحار مشبوهة جدا جدا. عقاب بلا ذنب وذنب بلا فعل ولا ملاحقة الا...
mahmoud fahmy -
منذ 5 أيامكان المفروض حلقة الدحيح تذكر، وكتاب سنوات المجهود الحربي، بس المادة رائعة ف العموم، تسلم ايديكم
KHALIL FADEL -
منذ 6 أيامراااااااااااااااااااااااااائع ومهم وملهم
د. خليل فاضل
Ahmed Gomaa -
منذ أسبوععمل رائع ومشوق تحياتي للكاتبة المتميزة
astor totor -
منذ أسبوعاسمهم عابرون و عابرات مش متحولون