تشكل المسلسلات ظاهرة رمضانية في العراق كما في الدول العربية الأخرى، لذا تُسارع شركات الإنتاج التلفزيوني والقنوات التلفزيونية إلى طرح نتاجها الفني، وتبذل ميزانيات ضخمة وصلت في العام الحالي الى 20 مليار دينار عراقي، حوالى 152 مليون دولار أمريكي.
لكن النقد لا يُفارق الساحة الفنية، كما لا تجد جميع المسلسلات صدى واسعاً مرحباً بين الأوساط الشعبية والمباركة المجتمعية، إلا أن رمضان الحالي شهد أزمة من نوع آخر وجهت زنادها نحو مسلسل "عالم الست وهيبة" في جزئه الثاني.
قُدم هذا المسلسل لأول مرة، قبل 27 عاماً، وتحديداً في عام 1997، وضم في وقتها نخبة من فناني العراق، مثل الراحلين أمل طه، ومكي عواد، وعبد الستار البصري، وبهجت الجبوري، وسامي قفطان، وغالب جواد. ويتحدث عن عالم تعيش فيه الممرضة ذات الحس الإنساني "الست وهيبة"، التي لعبت دورها الفنانة فوزية عارف، وعن حياة المجتمع خلال فترة الحصار الاقتصادي على العراق، والضيق المادي الذي يدفع "مهدي" أو "مهيدي" إلى حياة الجريمة.
وقد حصد العمل وقتها، نجاحاً لافتاً، ولكن منع حبسبب تطرقه إلى الواقع السياسي، وأعيد عرضه في عام 1998 بعد تعديله. إلى أن أعادت قناة "utv" العراقية إنتاج الجزء الثاني من المسلسل، بعد استقطاب معظم أبطاله، ودشنت حملة إعلانية ضخمة للترويج له، وحصد نسبة مشاهدات عالية وصلت الى أكثر من مليونين في عرضه الأول على يوتيوب، وأكثر من ذلك على شاشات التلفاز.
إساءة لرموز دينية
عرض من المسلسل 7 حلقات فقط، قبل أن يداهمه الاعتراض الذي لم يوجه له فنياً بل سياسياً، ففي 16 أذار/مارس، وجّه رئيس كتلة حقوق النيابية، النائب سعود الساعدي، وهي الجناح السياسي لكتائب حزب الله، طلباً إلى هيئة الإعلام والإتصالات من أجل وقف المسلسل أو إعادة إنتاج بعض مشاهده. وبحسب البيان الذي نشره النائب على صفحاته الشخصية، فإن المسلسل تضمن إساءة عمدية للرموز الدينية، فضلاً عن اقتباسه بعض الشخصيات من النظام السابق.
قُدم مسلسل "عالم الست وهيبة" لأول مرة، قبل 27 عاماً، وتحديداً في عام 1997، وضم في وقتها نخبة من فناني العراق، ويتحدث عن عالم تعيش فيه الممرضة ذات الحس الإنساني "الست وهيبة"، خلال فترة الحصار الاقتصادي على العراق، والضيق المادي الذي يدفع "مهيدي" إلى حياة الجريمة
الساعدي استهدف شخصية بطل المسلسل "مهيدي" على وجه الخصوص، واعتبر أن تسمية بطل المسلسل المجرم بـ"مهيدي أبو صالح"، هي إشارة الى الإمام المهدي، وهو الإمام الثاني عشر في العقيدة الشيعية، وعليه، طالب بوقف المسلسل. ثم ما لبث أن دخل ديوان الوقف الشيعي على خط الأزمة، ونشر في 17 من الشهر الحالي، بياناً، أكد فيه رفضه تناول المسلسل لشخصية الإمام المهدي، ورفض الزج بإسمه في شخصيات إجرامية وعدوانية، وجاء في البيان:
"نستنكر بشدة هذا التلميح سواءً أكان مقصوداً أم غير مقصود، لأن هناك من يتصيد بالماء العكر فيأخذ من تلك الشخصية السلبية في المسلسل عنواناً يلمز به رمزاً من رموز أتباع أهل البيت عليهم السلام، ونطالب الجهات المعنية بالوقوف ضد كل ما يؤدي إلى خدش التعايش السلمي بتناول الرموز الدينية والتطاول عليها ولو بالتلميح".
مظاهرات ضد الست وهيبة
وكان النائب سعود الساعدي قد أرفق طلبه الموجه الى هيئة الإعلام والإتصالات، بوجود انتقادات ومطالبات شعبية لمنع المسلسل، كما دَعت صفحات على مواقع التواصل الاجتماعي للتظاهر ضده، ومن هذه الدعوات:
"النسخة السابقة من المسلسل، كتبت في زمن الطاغية (صدام حسين)، واتخذت نمطاً طائفياً في التركيز على بطل المسلسل المجرم وجعل إسمه (مهدي) ولقبه (ابو صالح) من دون اهتمام بمشاعر الشيعة في العراق وغيره، وهذا طبيعي من ذلك النظام الطائفي، لكننا اليوم نرى إعادة تدوير هذا المسلسل مرة أخرى واتخاذ القناة المذكورة نفس الأسلوب من دون أي مراعاة لعقيدتنا ومشاعرنا، ولذا ندعو جميع الفعاليات الاجتماعية والرسمية والمنصات الإلكترونية للضغط بإتجاه منع عرض هذا المسلسل المسيئ لإسم إمامنا".
وجّه النائب سعود الساعدي طلباً إلى هيئة الإعلام والاتصالات من أجل وقف المسلسل أو إعادة إنتاج بعض مشاهده. بحجة أنه تضمن إساءة عمدية للرموز الدينية، فضلاً عن اقتباسه بعض الشخصيات من النظام السابق.
وبالفعل خرجت في 17 آذار/مارس تظاهرة أمام هيئة الإعلام والاتصالات في بغداد، حضرها عدد قليل من مؤيدي النائب، ورفعت شعار "مهدينا خط أحمر"، وفي اليوم نفسه أصدرت القناة بياناً، أقرت فيه اجتماعها مع هيئة الإتصالات، واستجابتها الى طلب تعديل المسلسل، والتزامها باللوائح والضوابط، ومنه:
"أخذت القناة بنظر الاعتبار كافة الملابسات والملاحظات التي أشارت لها هيئتكم الموقرة، وما أوردها بیان ديوان الوقف الشيعي، واعتباراً من حلقة اليوم، ونؤكد على تقديسنا ودفاعنا عن كل ما يمس اطياف المجتمع العراقي من قريب أو بعيد، كما نشيركم إلى معالجة جميع الحلقات السابقة على كافة منصات قناتنا".
ولكن القناة سرعان ما حذفت البيان، من منصاتها.
منع المسلسل
رغم تأكيد القناة على التزامها باعتبارها واحدة من القنوات العاملة في الفضاء الوطني -على حد تعبيرها-، ولكنها أعلنت وقف عرض المسلسل، بسبب الدعوى القضائية المرفوعة ضده، من قبل كتاب النص الأصلي، صباح عطوان. ففي 18 آذار/مارس الحالي، نشر الكاتب صباح عطوان منشوراً على صفحته الشخصية في فيسبوك، أكد فيه على ربحه قضية رفعها ضد القناة، واتهامها بسرقة حقوق الملكية للمسلسل، وعدم منحه أي مستحقات مالية عن اقتباس نصه الأصلي.
بعد الاعترضات، كسب الكاتب صباح عطوان قضية كان قد رفعها ضد القناة وحكم القضاء العراقي بوقف عرض المسلسل، حيث اتهمها بسرقة حقوق الملكية وعدم منحه أي مستحقات مالية عن اقتباس نصه الأصلي. البعض يعتقد أن الإطار التنسيقي باعتراضه على المسلسل ساهم في تسريع البت في الدعوى
ولكن اعتقادات واسعة تؤكد أن سبب المنع الحقيقي يرجع إلى الدعوة التي أطلقها النائب ضد المسلسل، ويعزي توقيت صدور الحكم إلى هذا الاعتقاد، إذ أن كاتب المحكمة رفع الدعوة منذ مدة طويلة، ولكن أُهمل النظر فيها حتى هذا الوقت.
أستاذ العلوم السياسية المتقاعد عثمان الموصلي، يؤكد هذا الرأي، ويرى أن اعتراض بعض كتل الإطار التنسيقي على المسلسل كان فاعلاً في التسريع من قرار المحكمة، وينبع من عدائهم للقناة، وتناولها للعديد من الملفات ضدهم، إضافة الى عائديتها الى خصمهم السياسي "خميس الخنجر".
ويصف القصة في حديثه لرصيف22 بأنها "مجرد مناكفة سياسية، تأتي في وقت الشدة السياسية، وخلاف الكيانات مع بعضها ضمن صراعهم على منصب رئاسة البرلمان".
والجدير بالذكر أن قناة العراقية الرسمية سبق أن بثت حلقات الجزء الأول من المسلسل خلال السنوات الماضية، دون أن تثير أي ضجة بين الأوساط الشعبية أو السياسية.
وسبق أن طال القناة اتهام مشابه، بعد عرض إحدى حلقات مسلسل "وطن" الذي بثته في عام 2022، لرجل دين شيعي يبرر جريمة بآية قرأنية، واعتذرت القناة عن ذلك لاحقاً في بيان لها نشرته على منصاتها الإلكترونية.
كما تعرّض مقر القناة في منطقة الكرادة وسط بغداد لهجوم بقنبلة يدوية في مطلع العام الماضي، على إثر تناول مقدم برنامج "الحق يقال"، عدنان الطائي، إلى التوظيف الطائفي في السياسة العراقية.
هل تلتزم جميع القنوات بقرار المنع؟
أصدر القضاء العراقي أمره بوقف المسلسل، واستجابت القناة لهذا الطلب، ويشير مصدر في المكتب الإعلامي لهيئة الإعلام والإتصالات، الى أن الهيئة هي منظمة حكومية وتالياً هي تتبع للإطار التنسيقي في كثير من قضاياها باعتباره التحالف الحاكم.
ولكن هل يعني ذلك التزام جميع القنوات بأوامر الإطار التنسيقي؟.
يقول المصدر لرصيف22 إنْ أوامر الهيئة أو القضاء ملزمة لجميع القنوات العراقية المرخصة من قبلها، ويشمل أيضاً جميع القنوات العاملة أو التي تمتلك مكاتب داخل العراق، سواء كانت مقارّها فيه أو في خارجه، وفي حال مخالفتها تتعرض لعقوبات قانونية.
بطل المسلسل الفنان غالب جواد "مهيدي" قال إن "القرار مجحف وظالم بحقه وحق كادر المسلسل، وإنه سبق أن عاش أمراً مشابهاً في العام 1997، حين منعت الرقابة في العهد السابق عرض (مسلسل عالم الست وهيبة)".
وقال جواد في لقاء على إذاعة ميلان FM الفنية إنّ "أسباب المنع في السابق واليوم، متشابهة، للأسف نحن ندعي الديمقراطية اليوم وندعي حرية الفن، لكن هذه حكايات نريد أن نسردها للمتابعين في شهر رمضان لإدخال السعادة لبيوت الناس"، مشيراً الى الأجدر بالهيئة العودة إلى نقابة الفنانيين، باعتبارها المسؤولة عن الأعمال الفنية.
وسبق أن تعرض الفنان إلى منع مسلسله "الكاسر" على القناة نفسها في العام الماضي، بسبب اتهامه بالتعدي على العشائر وجنوب البلاد.
متى سنعيش حياة طبيعية؟
محمد سعد (20 عاماً) من بغداد، هو أحد المشاركين في التظاهرة، يؤكد أن المسلسل تعمد إظهار جرم وقسوة البطل "مهيدي أبو صالح"، ودرج هذا الإيحاء الى جملة من الإساءات التي تشنها جهات خارجية على العقيدة الشيعية.
أما علي جاسم (23 عاماً)، وهو أحد طلبة المرجعية الدينية العليا في النجف، فيرى عكس ذلك، ويعتقد أن اسم "مهدي" رائج في مختلف الأطياف العراقية، ومنهم الصالح والطالح.
بطل المسلسل الفنان غالب جواد "مهيدي" قال إن القرار مجحف وظالم، وإنه سبق أن عاش أمراً مشابهاً في 1997، حين منعت الرقابة مسلسل عالم الست وهيبة".
ويقول لرصيف22 إن إسم المهدي بحسب العقيدة الشيعية الإثني عشرية هو "محمد بن الحسن"، أما الكنية أبو صالح، فتطلق بحسب قوله لجميع الذكور في البلاد، ويكنى بها من لم يُرزق بابن ذكر أيضاً، بغض النظر عن إسمه، فهل يعني ذلك دفع الجميع لاستبدال إسمي المهدي أو محمد؟ أو وقف أي عمل فني يلمح الى هذه الأسماء؟ ويعتقد ضرورة عدم توظيف الدين في مثل هذه القضايا التي تساهم في انتقاص القيمة الدينية للشخصيات المقدسة.
يقول زيد الوائلي (29 عاماً) من محافظة بغداد لرصيف22: "متى تنتهي هذه المهازل ونعيش حياتنا الطبيعية بعيداً عن هذا التفكير الذي يدشنه السياسيون الذين تركوا الفساد المستشري والجريمة المنظمة واتجهوا لمنع مسلسل درامي يتابعة الكثير من العراقيين"، ويعتقد أن المسلسل يخلو من أية إساءة للطائفة الشيعية خاصة أن السنّة يقدسون المهدي بدورهم.
وفي ظل هذه الموجة يتساءل الكثيرون عن حرية التعبير التي كفلها الدستور في مادته الـ38.
الناشط المدني وعضو نقابة الفنانين، سجاد البيضاني، يؤكد أن الحرية المقصودة وهمية، فهي حرية مقيدة بالخلافات أو المصالح السياسية، ونشهدها دائماً، ويعتقد أن الفن أصبح البيئة المستهدفة في الخصومات السياسية، لأن جميع الكيانات السياسية تمتلك منصات إعلامية وتُعلن حروبها ضد الخصوم عبر برامجها ومسلسلاتها، التي تحولت إلى منصات للرسائل السياسية.
رصيف22 تواصل مع أحد كوادر الإنتاج في المسلسل والذي فضل عدم ذكر إسمه لأسباب أمنية، وأكد على وجود عداوات سياسية خلف وقف المسلسل، ويشير إلى أنه سيعاد بثه قريباً دون تحديد وقت زمني لذلك.
قد يعود بث المسلسل بشكل طبيعي، ولكن أزمة السياسيين مع حرية الرأي والإعلام لا تزال تعصف بالمجتمع، ففي حين يعيث الفساد في البلاد ويستشري الترهل الأمني، والأضرار البيئية، تتجه النخبة السياسية إلى منع المسلسلات دون منع تلك الكوارث، مما يشير بوضوح إلى أولويات الطبقة السياسية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحبيت اللغة.