شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!
التغريبة العلوية... يوم سقط الأبَدُ الأسد

التغريبة العلوية... يوم سقط الأبَدُ الأسد

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي نحن وحرية التعبير

الخميس 23 يناير 202512:55 م

التغريبة في تاريخنا ترادف التهجير القسري المترافق بالعنف، وذاكرتنا تختزن العديد من حوادث التغريب، ابتداءً من تغريبة بني هلال، مروراً بالتغريبة الفلسطينية، وانتهاءً بتغريبة السوريين، هجرةً وتهجيراً إلى بلدان الجوار والشتات.

بدايةً، أعرف أني سأتعرّض للتساؤلات المستنكرة: وهل ما تتحدث عنه تغريبة؟ ولماذا لم تتحدث عن التغريبة "السنية" على مدى سنيّ الثورة السورية؟

نعم لا مجال للمقارنة بين التغريبتين، لكن هذا ليس حديثي الآن، بل سأحاول تفسير الرعب العلوي من مقاتلي المعارضة، ومن مدنييها السنّة كذلك، خلال سنوات الثورة وأيام سقوط الأسد.

أخطأت التقدير –كغيري- حين ظننت أن هيئة تحرير الشام في عملية "ردع العدوان" ستكتفي بحلب، أو ستقف على أعتاب مدينة حماة على أكثر تقدير، لم يكن بحسبان أكثرنا أن دخول الفصائل العسكرية مدينة حماة تعني أن طريق القصر الجمهوري صار مفتوحاً بلا عقبات، وأن سقوط نظام الأسد بات وشيكاً وحتمياً.

عصر الخميس الموافق للخامس من كانون الثاني/ ديسمبر الماضي، ووسط ترقب حذر من الريف العلوي حول حماة، سرت كالنار في الهشيم أخبار سقوط المدينة بيد الفصائل التي دخلتها بدون مقاومة، بعد يومين من المناوشات على حدودها الشمالية. خبرٌ ليس كأي خبرٍ لدى العلويين المنتشرين في ريف حماة من الجهات الثلاث الأخرى، وجارنا الذي أطلّ من داره ليخبرنا بصوت متهدج ملؤه الخوف: "حما راحت"، أي أن مدينة حماة قد سقطت بيد المعارضة المسلحة، هو مثالٌ عن كيفية وقع الخبر على جموع الطائفة. قالها وكأن فاجعة المذبحة ستحلّ بنا سريعاً كحتمية لا يمكن تجنبها، كنت وقتها أعتني بمساكب الخضرة الشتوية جانب منزلي. حاولت الإبقاء على تماسكي بدون أي ردة فعل. كنت متيقناً لحظتها أن أفضل خيار هو البقاء في المنازل ولا شيء يستدعي التحرّك، لكن الحركة النشطة التي دبت في الجوار لترتيبات سريعة للمغادرة باتجاه الغرب أثارت لدي بعض القلق.

نعم، أعترف أن بعض الخوف قد انتابني، الخوف الذي منعني من الوقوف بوجه بعض أقاربي لسؤالهم: "لماذا تغادرون بيوتكم؟ وما الفرق بين حماة وطرطوس؟ ساعات فقط تفصل بين سقوط حماة وسقوط الساحل، ولا مفرّ، ابقوا واستقبلوا جيش المعارضة القادم بلا سلاح أسلم لكم". كان من الصعب للغاية مخاطبة النازحين بهذا الكلام، فالهلع والرغبة بالنجاة سيّدا الموقف، كان من بين النازحين حفيدتي ذات الأشهر الثلاثة، وقد حشرت بين والديها على دراجة نارية مجتازة طريقاً جبلياً مع متاعٍ كاد يضغط على نفَسها.

سيل النازحين الذي ملأ الطرقات العامة التي تربط بين الداخل والساحل كان مخيفاً في كثافته، والمسافة التي تحتاج ساعة لقطعها بالسيارة احتاجت أربع أو خمس ساعات، ووقود المركبات الذي ازداد الطلب عليه ارتفع سعره لعدة أضعاف إذا توفر

دراستي لعلم النفس أفادتني بفهم سيكولوجيا الجموع، وبكيفية انتشار الشائعات بين الحشود، خاصة في لحظات الاضطراب والخوف، وكيف أن مئة عاقل في هذه الحالات لا قيمة ولا دور لهم، أو كما أوضح غوستاف لوبوان في كتاب "سيكولوجيا الجماهير"،كيف أن الوعي الجمعي في حالات الحشد هو أقل بكثير من الوعي الفردي لأي فرد فيه.

سيل النازحين الذي ملأ الطرقات العامة التي تربط بين الداخل والساحل كان مخيفاً في كثافته، والمسافة التي تحتاج ساعة لقطعها بالسيارة احتاجت أربع أو خمس ساعات، ووقود المركبات الذي ازداد الطلب عليه ارتفع سعره لعدة أضعاف إذا توفّر. عشرات الآلاف، وربما مئات الآلاف، من المغادرين لقراهم ومدنهم مصطحبين ما تيسر من الأغطية والمتاع الشخصي في سيارات، منها عربات نقل مكشوفة وجرارات زراعية، بعضهم اصطحب بقرته مع أكياس علفها، نساء وأطفال محشورون كيفما اتفق مع فُرشٍ اسفنجية، وفي بعض الطرقات، حين استعصاء حركة السيارات، نزل البعض وأكملوا الطريق سيراً مع أحمالهم. يوم حشرٍ علوي شهدته الطرق الواصلة بين الداخل والساحل. ترُى، ما الذي دفع العلويين لهذه التغريبة إن صحّت التسمية؟

الجواب لا يمكن اختصاره بكلمات قليلة، ثمة سياق امتد لعقود خاتمته عقد ثورة السوريين مطلع العام 2011، إذا صرفنا النظر عما تختزنه ذاكرة العلويين من اضطهاد وتهجير في العهد العثماني، فإن زمن الانتداب الفرنسي، ثم الحكومات الوطنية بعد الاستقلال، قد شهد عيشاً طبيعياً بين العلويين وبقية الطوائف دون أية صدامات أو حوادث تذكر، قدّم فيه العلويون شخصياتٍ بارزة في الثقافة والأدب والسياسة، لكن انقلاب الأسد الأب عام 1970 أخذ الطائفة إلى منحىً مختلف، عمل فيه الزعيم الانقلابي الجديد على خطفها ورهنها لصالح ترسيخ حكمه عبر العديد من الأدوات وآليات السلطة وألاعيبها المخابراتية.

والواقع أن تهمة الطائفية لنظام الأسد تصدّق فقط في حالة اعتباره لعب على التمايزات الفئوية الطائفية واستثمرها لصالحه، وضمن هذه اللعبة المدمرة كان على العلويين أن يصدقوا بداهة أنهم مهدّدون من قبل السنّة، وأن غياب سلطة الأسد تعني تعرضهم للإبادة بلا أدنى شك، وقد ساعده النزاع الدموي مع الإخوان المسلمين أواخر سبعينيات وأوائل ثمانينيات القرن الفائت على ذلك، والتحالف المتين، بين أدواته الأمنية وأغلب رجال الدين العلويين، أمّن للأسد الأب والابن فرصة ترسيخ هذه القناعة لتدفع أغلب أبناء الطائفة للالتفاف حول سلطتهم والدفاع عنها.

عمل البعض على المماهاة بين النظام المستبد وبين الطائفة العلوية، وزادت الطين بلة حوادث القتل الطائفي في ريف اللاذقية وعدرا العمالية وغيرها، ولا نغفل هنا دور السلطة في تسهيل حوادث كهذه

أما الإفقار المديد عبر شحّ المشاريع التنموية وبؤس الخدمات في الأرياف العلوية فقد دفع نسبة عالية من شباب الطائفة إلى الخيار الوحيد المتبقي ابتغاء موردٍ للعيش، تمثّل بالانتساب للمؤسسات الأمنية والعسكرية، ليتحولوا – شاءوا أم أبوا- إلى حماة سلطة الأسد ومصالح طبقته الحاكمة، ثم باعهم "وهم السلطة" عبر سياسات التجهيل والتفتيت واختراق رجال الدين، كي يقتنع العلوي الذي يعيش في كوخ متهالك في جرود جبال الساحل أنه من أهل السلطة، أما المتنفّذون وكبار محدثي الثروة والنفوذ فقد أدوا دورهم السلطوي المطلوب في تثبيت الولاء للأسد ووهم حماية الطائفة من الخطر الأكيد في حال غيابه.

ومع بداية الثورة السورية جهد نظام الأسد منذ اللحظة الأولى على شيطنة الحراك السلمي وربطه بالطائفية والعمالة، وهو ما نجح نسبياً في زيادة المخاوف لدى العلويين، خاصةً بعد العسكرة والنزاع المسلح الذي امتد لسنوات فشلت فيه المعارضة المسلحة في تقديم خطابٍ مطمئن للطائفة، وقد عمل بعضهم على المماهاة بين النظام المستبد وبين الطائفة العلوية، وزادت الطين بلة حوادث القتل الطائفي في ريف اللاذقية وعدرا العمالية وغيرها، ولا نغفل هنا دور السلطة في تسهيل حوادث كهذه لشد عصب الطائفة أكثر وتبرير والمساهمة في العنف المنفلت المفتوح الذي مارسته الآلة الحربية على المناطق الثائرة. سياق طويل أقنع أغلب العلويين أنهم مستهدفون من قبل الطائفة السنية ومقاتلي المعارضة، وسيتعرضون للإبادة إذا انقلبت الطاولة واندحر آل الأسد.

وبالعودة إلى حديث التغريبة، فإن السلوك المنضبط عموماً لمقاتلي هيئة تحرير الشام سرعان ما غيّر المزاج العام وهدّأ المخاوف، ولم تدُم تلك التغريبة سوى بضعة أيام، فالحركة المعاكسة للنزوح بدأت بعد ساعاتٍ فقط من الإعلان عن هروب الأسد وسقوط نظامه بكامل أركانه وأدواته العسكرية والأمنية، واستكمال اجتياح مناطق النظام وصولاً إلى القصر الجمهوري، متضمّناً ذلك عبور بعض القرى العلوية دون أية أعمال انتقامية، بثّ بعض الطمأنينة لدى النازحين فبدأت حركة العودة المعاكسة من الساحل إلى الداخل، لتُستكمَل خلال بضعة أيام، ويروي بعضهم كيف تقطعت بهم السبل وناموا في الطرقات وفي سياراتهم في جوٍ شديد البرودة.

أما حفيدتي ذات الثلاثة أشهر، والتي نزحت مع أبيها وأمها إلى جبال الساحل، فقد عادت بعد عدة أيام بكامل عافيتها وقد تعلمت كيف ترفع رأسها عن المخدة لأقول لها مازحاً: أنت أجمل من يستجيب لأغنية "ارفع راسك فوق، انتَ سوري حر".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

بالوصول إلى الذين لا يتفقون/ ن معنا، تكمن قوّتنا الفعليّة

مبدأ التحرر من الأفكار التقليدية، يرتكز على إشراك الجميع في عملية صنع التغيير. وما من طريقةٍ أفضل لنشر هذه القيم غير أن نُظهر للناس كيف بإمكان الاحترام والتسامح والحرية والانفتاح، تحسين حياتهم/ نّ.

من هنا ينبثق رصيف22، من منبع المهمّات الصعبة وعدم المساومة على قيمنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image