يُنشر هذا النصّ ضمن "لنتخيّل"، وهو ملفّ مفتوح يضم نصوصاً، مدوّنات، قصصاً، مقابلات وتقارير صحافيةً نتخيّل من خلالها المستقبل الذي نوّد أن نعيش فيه، أو ذلك الذي سيُفرض علينا.
بعد مرور قرن تقريباً، سيعمّ السلام العالم، وسيعرف الوطن العربي حقّ المعرفة، هذه المرة، معاني كالحرية والديموقراطية والمواطنة.
حسناً، لنكن واقعيين الآن: هل يحق لي كإنسان يعيش في تلك البقعة "الموكوسة" من الدنيا، أن أتخيّل؟ وما منتهى هذا الخيال بالتحديد؟ أعني أنّ هناك على الأرجح قانوناً ما، سُنّ بواسطة مسؤول ما، بغرض تقنين هذا الفعل المسمّى "الخيال"، حتى لا يضرّ بمواطنينا البسطاء الراضين، فمثل هذه القيم غريبة على مجتمعنا المحافظ، وهي بكل تأكيد مستحدثة قادمة من الغرب لغرض أوحد: "المساس بقيم الأسرة المصرية"، ومسؤولونا لا يتسامحون أبداً فى أي شيء يمسّ بقيم الأسرة المصرية.
يقول "العواجيز" في بلدنا: "هتطلع في العالي، هتقع على جدور رقبتك".
لذلك، لنبداً بأحلام أراها تحتمل التحقيق...
هل يحق لي كإنسان يعيش في تلك البقعة "الموكوسة" من الدنيا، أن أتخيّل؟
حديقة لكلّ مواطن
"وصف المسؤولون هذا المقترح بأنّه الحلّ الأخير".
أطلّت الصحف الحكومية، في أول يوم في السنة الجديدة 2090، بخبر مستهجَن. استهجنه على حدّ سواء كلّ من الشعب وأعضاء مجلس الشعب والصحافيون الذين نقلوا الخبر، والخبر مفاده أنه قد تمّ مساء أمس، وفي سرّية تامّة، تمرير مقترح من أحد نواب مجلس الشعب لإنشاء حديقة عامة فى مدن أخرى غير القاهرة، التي تُركت فيها حديقة عامة وحيدةً "علشان السيّاح ما ياكلوش وشّنا"...
يتذكر الناس بشكل مبهم اقتلاع كل الحدائق، وإقامة مجموعة مهولة من الكافيهات والمولات. يحكي لهم آباؤهم عن تلك الكيانات التي أصبحت تتسوّل الزبائن، فأصبح كل من يجبره حظه العاثر على المرور أمام مولات أو كافيهات "الجناين" (كما اصطلح العامة على تسميتها)، مضطراً إلى ارتداء لافتة صغيرة على عنقه تتدلى على صدره، مدوّناً عليها مفردات الراتب، وكان هذا تصرّفاً كافياً لئلا يتحرّش به أصحاب الكافيهات.
أطلّت الصحف الحكومية، في أول يوم في السنة الجديدة 2090، بخبر مستهجَن. استهجنه على حدّ سواء كلّ من الشعب وأعضاء مجلس الشعب والصحافيون الذين نقلوا الخبر، والخبر مفاده أنه قد تمّ مساء أمس، وفي سرّية تامّة، تمرير مقترح من أحد نواب مجلس الشعب لإنشاء حديقة عامة فى مدن أخرى غير القاهرة، التي تُركت فيها حديقة عامة وحيدةً "علشان السيّاح ما ياكلوش وشّنا"..
شيئاً فشيئاً ازدحمت الشوارع الجانبية، وأصبح المرور مستحيلاً، فقامت الحكومة بممارسة هوايتها المعهودة في توسيع الطرق، وما إن تمّ ذلك حتى تصارع أصحاب الكافيهات على بناء فروع جديدة لهم على أرصفة المشاة، فانصرف الناس عن الطرق الموسعة أيضاً، وقاموا سرّاً بخلق ممرات ضيقة بين الشقق والعمارات، لتأدية الزيارات الاجتماعية وإشباع أغراض التواصل الإنساني. ولأغراض الحياة العملية، أقاموا أنفاقاً مموهةً تبدأ من غرف النوم وتتجمع تحت الأرض في شبكة كبيرة، وتنتهي بأغطية مجارٍ مزيّفة تقع أمام بوابات المصالح الحكومية والهيئات والمستشفيات والبنوك.
استيقظ المسؤولون ذات يوم، ولم يجدوا مواطنين في الشوارع. عقدوا محادثات عميقةً جداً لمعرفة كيف سيبدو ذلك أمام المجتمع الدولي، واتفق الجميع على أنّه أمر ربما لن يبدو جيداً،
ودارت مناقشات ووقعت صولات وجولات في هذا الموضوع، وأجمع الجميع أخيراً على أنّ الوضع مقلق ويتصل بالأمن القومي مباشرةً، لأنه يمسّ مساساً خطيراً بسمعة مصر أمام المجتمع الدولي.
وذات جلسة عشوائية من جلسات مجلس الشعب، قال أحد النواب غاضباً: "مصر معروفة بشوارعها المزدحمة التي يستحيل السير فيها، والتي كانت إلى وقت قريب توازن كفّة التعداد السكاني للكوكب الذي تتناقص أعداده كل يوم لأسباب معروفة أو غير معروفة. عندما يسألنا المجتمع الدولي: "ودّيتوا الناس فين؟… هنردّ نقوله: إييييه؟!".
وجم الجمع في المجلس، لأنهم عدّوا نقطة النائب الموقّر وجيهةً فعلاً، وقام أحد النواب فجأةً دون أي اتفاق وقال: "نزرع شجراً!"...
نظر إليه الجميع مستغربين، فشرح لهم كيف أنّ الناس قديماً اعتادوا التجمّع في الإجازات في الحدائق، أو الاستراحة العابرة على الطرق حول الأشجار، وعزز ذلك بحكايات سمعها من جدّته الكبرى، والدة جدّته.
تداول المجلس الأمر، واستدعى أعضاؤه علماء الإنثربولوجيا والاجتماع، فأكدوا حكايات جدّته فعلاً، واتفقوا على أنّ الحل وجيه إلى درجة كبيرة، فاتفق المجلس على أنه ربما من الأفضل إنشاء حديقة عامة في كل مدينة كتلك الحديقة الكبيرة الوحيدة التي تقع في القاهرة، وحظر إقامة أي كافيهات في داخلها أو حواليها أو حتى على جانبي الطرق المؤدية إليها، بغرض استعادة السيولة المرورية للمواطنين في الشوارع.
لكن كيف سيمرّرون هذا المقترح للشعب؟
ارتأى المسؤولون أن يعلنوا الخبر في الجرائد أولاً، وأن يغطّي التلفزيون أخباراً مثل "تمت زراعة شجرة أمام بيت المحافظ صباح اليوم، وقد رواها المحافظ بنفسه، والتقط صورةً جماعيةً هو وأفراد عائلته معها"، ثم يقلّده في هذا الأمر فنانو الشعب المحبوبون.
وتم الاتفاق كذلك على تخصيص يومين في الشهر كعطلة رسمية مخصصة لزيارة الحدائق، وانتشرت الملصقات التي تحمل عنواناً واحداً: "قريباً... فتح أبواب الحدائق للمواطنين".
وسيظهر دكاترة الجامعات على التلفزيون للتحدث عن مدى فائدة الأشجار للمواطن، وللتذكير أيضاً ببعض العناصر المهمة التي نسيها العامة، مثل أنّ الأشجار مصدر رئيس للأوكسجين، وأنّ تعرّض الفرد للمساحات الخضراء يحسّن من صحته النفسية، وكل هذا طبعاً بغرض تهيئة الرأي العام لاستقبال حديقة عامة في كل مدينة، حتى لا يشكّل الأمر صدمةً لجموع المواطنين الذين لم تعتد عيونهم في الشوارع إلا على رؤية الخرسانة والإسفلت.
ارتأى المسؤولون أن يعلنوا الخبر في الجرائد أولاً، وأن يغطّي التلفزيون أخباراً مثل "تمت زراعة شجرة أمام بيت المحافظ صباح اليوم، وقد رواها المحافظ بنفسه، والتقط صورةً جماعيةً هو وأفراد عائلته معها"، ثم يقلّده في هذا الأمر فنانو الشعب المحبوبون.
اختفاء التكشيرة
"عرض غريب يهدّد الهوية الثقافية للبلد"
ذات يوم، ذهب أحد المواطنين إلى السوق، واشترى بعض السلع، وحين جاء وقت الدفع وسمع الأسعار، حاول التجهّم، لكنه لم يستطع. جاهد في ضمّ حاجبيه، أو رفعهما حتى، لإبداء الدهشة، ولكنه لم يقدر. نظر حوله، فوجد الكثيرين يحاولون فعل ذلك أيضاً، ويفشلون مثله. في صمت دفع النقود ثم عاد إلى البيت. اصطدم بالجيران وهم متجمهرون على سلّم العمارة، يتحدثون عن العرض الجديد المبهم. حالة غريبة تمنع الناس من العبوس، وخلصوا إلى أنّه ربما عارض غريب من أعراض برد الشتاء واحتقان الجيوب الأنفية.
لم يعرف أحد أو بالأحرى لم يهتم أحد بمعرفة السبب، وهو الإفراط في تناول عيش التموين في الوجبات الثلاث الرئيسية، وقد أصاب الناسَ بخدرٍ في عضلات الحاجبين والجبهة، فبدأ يقلّ تجهّم واعتراض الأفراد شيئاً فشيئاً إلى أن خفّا تدريجياً حتى انتهيا، والمواطنون لم يكونوا يعترضون بالكلام، لأنّه تمّ محو مفردات الاعتراض من القاموس في آخر اجتماع للمجمع اللغوي بدعوى ندرة الاستخدام، وكان فعل الاعتراض قد انحسر منذ زمن في تقطيبة الحاجبين أو كرمشة عضلات الجبهة، لإظهار بضعة خطوط أفقية، وهو فعل نمطي يتم كي يعبّر به المرء عن استغرابه أو اعتراضه المقرون باستحالة إمكانية تغيير الأمر المعترَض عليه. وإنما هو أي اعتراض والسلام يميز الأفراد عن الحمير المسوقة…
والمسؤولون الذين لا يتناولون عيش التموين، قطّبوا حواجبهم وكرمشوا جباههم، لإبداء الاستغراب من حالة الرضا العامة البادية على وجوه المواطنين، والتي نقلها على الهواء مباشرةً مراسلون تبدو على وجوههم أمارات رضا مشابهة، بينما كانت إجابات جميع المواطنين في الشارع أنهم استيقظوا ذات يوم ووجدوا أنفسهم على هذه الحالة التي لم يعرف أحد متى بدأت. وكتب صحافيون تصاحبهم حالة الرضا نفسها عن ظاهرة اختفاء التكشيرة من على وجوه المواطنين، وتساءلوا: هل تدوم إلى الأبد؟
أما المسؤولون، فبعد اجتماعهم الطارئ، توصلوا إلى أنّ هذه الحالة العامة لا بدّ ناتجة عن انتهاجهم الطريق الصحيح، ومن فرط سعادتهم ورضاهم عن تلك النتيجة قرروا زيادة حصة الأفراد من عيش التموين.
أما المسؤولون، فبعد اجتماعهم الطارئ، توصلوا إلى أنّ هذه الحالة العامة لا بدّ ناتجة عن انتهاجهم الطريق الصحيح، ومن فرط سعادتهم ورضاهم عن تلك النتيجة قرروا زيادة حصة الأفراد من عيش التموين
ولفت الأطباء الأنظار إلى أنّ جموع المواطنين يجب أن يتوقعوا تدلياً ملحوظاً في ملامح الوجه نتيجةً للخدر الحاصل في عضلات الجبهة، ونوّه علماء الأنثربولوجيا بأنّ التكشيرة التي هي جزء من الثقافة المصرية في طريقها إلى الانقراض بعد سنوات قليلة، وستحلّ مكانها التعبيرات المسطحة…
وسينتشر بعد هذه الحادثة بعشر سنوات، نوع جديد من الرحلات السياحية القصيرة التي تستمر يومين أو ثلاثة أيام، حيث يأتي السياح الأجانب إلى مصر ليلتقطوا صوراً للشعب الذي اشتهر على الإنترنت بملامحه المتدلية وتعبيراته المسطحة، ويتصادقوا مع المواطنين الذين يدعونهن إلى الأكلة الشعبية للبلد، وهي كوب من الشاي مع رغيف من عيش التموين. وقد وجد أغلب السيّاح أنّ ذائقتهم ترفض تلك الوجبة، ولكن الأمر ينتهي بهم دائماً إلى تناول لقمة أو لقمتين على الأكثر، إكراماً لمضيفيهم.
لاحظ السياح عارضاً غريباً عند عودتهم إلى بلادهم. هو تخدير في عضلات الجبهة يستمرّ لمدة ثلاثة أيام ثم يزول، واحتار العلماء الأجانب في السبب، واجتمعوا على أنّ الامر ليس بذي بال، ولكنهم أكدوا على مرضاهم ضرورة تقليل الكاربوهيدرات في طعامهم، واستبدالها باللحم لتحسين استجابة عضلات الوجه تدريجياً.
والآن، لنعد من المستقبل إلى اللحظة الراهنة.
لا أعلم حقاً مصير الحدائق في المدن. أتمنى أن يكون مصيرها الأفضل دائماً، ولكني حاولت بجدية تخيّل ذلك فلم أستطع.
ولا أعلم ما إذا كان سيُكتب للتكشيرة الاختفاء لأسباب حميدة. أيضاً حاولت تخيّل ذلك ولم أستطع.
ولكن… لننظر حولنا.
أعتقد أنّ واقعنا كان عصيّاً على التخيّل.
لم يتخيّل أحد واقعنا اليوم، لأنّ أي شيء يمكن أن يحدث غداً.
ولأنّ أي شيء يمكن أن يحدث...
لنبقِ باب الخيال مفتوحاً…
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 11 ساعةوحدث ما كنا نتوقعه ونتأمل به .. وما كنا نخشاه أيضاً
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 16 ساعةصادم وبكل وقاحة ووحشية. ورسالة الانتحار مشبوهة جدا جدا. عقاب بلا ذنب وذنب بلا فعل ولا ملاحقة الا...
mahmoud fahmy -
منذ 5 أيامكان المفروض حلقة الدحيح تذكر، وكتاب سنوات المجهود الحربي، بس المادة رائعة ف العموم، تسلم ايديكم
KHALIL FADEL -
منذ 6 أيامراااااااااااااااااااااااااائع ومهم وملهم
د. خليل فاضل
Ahmed Gomaa -
منذ أسبوععمل رائع ومشوق تحياتي للكاتبة المتميزة
astor totor -
منذ أسبوعاسمهم عابرون و عابرات مش متحولون