عادت الدراما السورية بقوة لتحتل مكاناً لائقاً على خارطة الدراما العربية بعد توقف دام لسنوات لجأ فيها العاملون بهذا الحقل لشتى الحلول تحقيقاً للبقاء والاستمرارية، فكانت أعمال الـ"بان أراب" أو المشتركة، وغيرها، لكن أعمال البيئة الشامية أو الدمشقية، والتي لم تتوقف بشكل كلي في السنوات الماضية، بقيت موقع اهتمام ليس فقط في صفوف الجمهور السوري وإنما العربي أيضاً.
وبسبب هذه الجماهيرية يحاول أغلب المخرجين، وليس فقط المنتجين، طرقَ بابِها بين الحين والآخر؛ خير مثال على ذلك عودة رشا شربتجي لأعمال البيئة الشامية واختيارها لمسلسل "مربى العز" برغم النجاح الكبير الذي حققه مسلسلها الاجتماعي "كسر عضم " في العالم الماضي، بالإضافة إلى صمود شركة "قبنض للإنتاج الفني" مع مسلسل "باب الحارة" ليصل هذا العام إلى الجزء 13، على الرغم من انكسار خطه البياني الجماهيري، على الأقل لدى الجمهور السوري، وتغير معظم الوجوه المشاركة فيه. كما عاد عثمان حجي ليقدم "العربجي" الذي تدور أحداثه ضمن حارات دمشق. ولكن أعمال البيئة الشامية على الرغم من جماهيريتها تتعرض لانتقادات وخاصة من أبناء بيئتها. فما هي سلبياتها، ولماذا يتم انتقادها؟
برغم أن العمل يدور في فكرته الأساسية حول "العربجي" وما سيعانيه من مكايد وصراعات، إلا أنه في واقع الأمر سيكشف جانباً ليس خفياً عن الحارة الدمشقية في فترة زمنية من تاريخ سوريا
بدأت موضة أعمال البيئة الشامية منذ التسعينيات، مع مسلسل "أبو كامل"، الذي كتبه فؤاد شربجي وأخرجه علاء الدين كوكش، ثم تبعه مسلسل "أيام شامية"، الذي كتبه أكرم شريم وأخرجه بسام الملا، و قام بإنتاج العملين التلفزيون السوري حين كان لنتاجاته أهميتها وميزانيتها الكبيرة كمؤسسة تدعم الإنتاج الدرامي والقائمين عليه.
ويعتبر مسلسل "أيام شامية"، وبشهادة العاملين في الدراما السورية، واحداً من أعمال البيئة التي عكست صورة صادقة عن حياة الدمشقيين وعاداتهم مع بداية القرن العشرين، وكان من بطولة كلّ من خالد تاجا، سليم كلاس عباس النوري، رفيق السبيعي، سامية جزائري، وآخرين.
حقق مسلسل "أيام شامية" نجاحاً وجماهيرية كبيرة؛ الأمر الذي دفع العديد من الكتاب والمخرجين للاقتباس منه، بما فيهم مخرجه بسام الملا. فكان مسلسل "باب الحارة" الذي كتب فكرته مروان قاووق، بينما أسند السيناريو والحوار فيه لكمال مرة، وأنتجته "شركة عاج" للإنتاج الفني والتوزيع في أول أجزائه. ولعب بطولته بسام كوسا، عباس النوري، صباح الجزائري، حسام تحسين بك، سامر المصري، والراحل عبد الرحمن آل رشي، ومنى واصف، إلى جانب عشرات من النجوم الشباب حينها أمثال وائل شرف، أناهيد فياض ، ميلاد يوسف، حسام الشاه. وحقق الجزء الأول منه نجاحاً مدوياً وخاصة شخصية "الادعشري" التي قدمها بسام كوسا وانتهت مع نهايته.
استمر مسلسل "باب الحارة" حتى الجزء الرابع مع نفس الفريق، وربما بنفس النجاح والجماهيرية، إلى أن بدأ مؤمن الملا، شقيق بسام الملا، بمساندته في الإخراج، وانضم إلى العمل كلّ من فايز قزق، قصي خولي، ومهيار خضور، وزهير عبد الكريم، بينما انتهى دور آخرين، كدور أبي عصام الذي كان يلعبه عباس النوري، ودور العقيد أبو شهاب الذي كان يلعبه سامر المصري، لأسباب غير درامية، كما صرح أصحاب الأدوار حينها، ثم توقف لسنوات، وعاد عام 2014 مع الكاتب عثمان جحى والمخرج عزام فوق العادة.
عاد عثمان حجي ليقدم "العربجي" الذي تدور أحداثه ضمن حارات دمشق، ولكن أعمال البيئة الشامية برغم جماهيريتها تتعرض لانتقادات وخاصة من أبناء بيئتها. فما هي سلبياتها، ولماذا يتم انتقادها؟.
والأهم من كل ذلك أن شخصية أبو عصام التي كانت قد اختفت عادت مرة أخرى للحياة، ضاربة بعرض الحائط كلَّ الانتقادات التي قد توجه لتلك العودة درامياً، معتمدين ومراهنين على جماهيرية الفنان عباس النوري التي وصلت حينها إلى مصر بسبب نفس العمل، وعلى السمعة الطيبة التي حققها.
استمر نجاح باب الحارة عربياً برغم الهفوات، وتمادت شركات الإنتاج في استثماره طالما هناك من يرغب بعرضه، برغم انه أساء، بشكل أو آخر، لصورة المرأة السورية حين اختصرها بمجرد ربة منزل تتزوج وتنجب وتربي الأولاد، بينما لا حضور لها أمام سطوة الرجل، سواءً كان ذلك الرجل أباً أو زوجاً أو حتى ابناً، في حين كانت المرأة في تلك المرحلة من التاريخ شديدة الزهو سواء في مجال الثقافة أو الإعلام أو حتى الطب وغيره.
ورأى البعض أن العمل قدم تلك الحقبة الزمنية بصورة مشوهة وتناقض مع ما كان سائداً داخل الأوساط الدمشقية آنذاك، كما أنه لم يستطع أن يلامس قضايا سياسية هامة كانت تعيشها سوريا في تلك المرحلة الزمنية، وبرر أصحاب العمل ذلك بسبب سطوة الرقيب.
ويعود هذا العام عثمان حجى الذي كتب بعض من أجزاء "باب الحارة" بمسلسل جديد عن البيئة الدمشقية بعنوان "العربجي" من بطولة باسم ياخور، وسلوم حداد، ونادين خوري، وديمة قندلفت، ومحمد قنوع، وميلاد يوسف، وفارس ياغي، ومديحة كنيفاني ،وطارق مرعشلي، وروبين عيسى، وقد اعتبر واحداً من أعمال البيئة الشامية التي قلبت المعايير حول صورة المرأة بشكل خاص، والحارة الشامية بشكل عام.
ولقد شاركه في كتابة النص مؤيد النابلسي، وحظي العمل بمتابعة واهتمام جماهيري، برغم أنه كانت قد تعرض لعقبات إنتاجية كثيرة وتطلب من مؤلفيه إعادة كتابته -بالأصح تعديله درامياً-؛ الأمر الذي جعله ينتقل من مخرج إلى آخر، وحتى أن بعضاً من نجومه قد تبدلوا لظروف بعضها فني وبعضها الآخر بسبب التزامات بأعمال أخرى، فلعبت -ربما لحسن الحظ- ديمة قندلفت دورَ الداية "بدور"، أحد الأدوار المحورية والأساسية في العمل، كما أُسند الإخراج إلى سيف سبيعي.
وبرغم أن العمل يدور في فكرته الأساسية حول العربجي وما سيعانيه من مكايد وصراعات، إلا أنه في واقع الأمر سيكشف جانباً ليس خفياً عن الحارة الدمشقية في فترة زمنية من تاريخ سوريا، تحالف فيها رأس المال (تجار القمح) مع السلطة حينها، متمثلةٍ بالمتصرف (العثمانيين) لفرض سيطرتهم ونفوذهم على المجتمع.
أعاد هذا العمل مسلسلات البيئة الشامية إلى الواجهة، بل أكثر من ذلك عكس صورة حقيقية لواقع الحارة، حيث الرجال يكيدون المكايد ويفترون على النساء، للوصول لغاياتهم، والمرأة لم تعد تلك السيدة الخانعة أو الضلع القاصر الذي خلقت فقط للزواج والفراش وتربية الأطفال، بل ظهرت في صورة مختلفة ومغايرة عما قدمته الدراما عن تلك الفترة؛ فكل نساء العمل قويات قادرات على تغير مصيرهن، إذا ما استطعنا لذلك سبيلاً، فابنة العربجي الصغرى تتزوج سراً من ابن "الخانم" التي تعمل لديها، والداية (بدور) بحنكتها واحتيالها ترث المال وتبيع ذمتها وضميرها في سبيل مصالحها لدرجة أنها تفسد حياة ومصير شابة، وتدفعها للموت.
والسيدة القوية أو "الخانم"، كما تريد أن يلقبها كل الناس، بما فيهم أبناؤها الرجال، لأن هذا اللقب حقها الذي ورثته عن عائلتها، قادرة على خلق الحيل وبيع الضمائر، مقابل الحفاظ على مصالحها ونفوذها، بل إنها امرأة جبارة لا تتوانى عن صفع أولادها الرجال، لو استدعى الأمر ذلك. وقد أدت الدور باقتدار ملفت الفنانة نادين خوري.
سلبيات وانتقادات طالت العمل
رغم السيناريو المحكم، وربما المفاجئ، في تطوراته، والأداء المميز لأبطال العمل، خاصة القديرين سلوم حداد ونادين خوري، والمميزين باسم ياخور ومحمد قنوع، والاجتهاد الواضح الذي بذلته ووفقت فيه ديمة قندلفت في دور الداية، إلا أن العمل لم يخل من ثغرات أوقعته في كثير من الانتقادات، سواءً على صعيد الإخراج أو السيناريو.
ربما يكون مسلسل "العربجي" هو الصورة الإصدق عن بعض حاراتنا، وربما مجتمعاتنا العربية، وليس فقط السورية، لكن تلك الصورة بحد ذاتها ستكون حاجزاً تجاه جماهيريته المقبلة في حال تم إنتاج أجزاء جديدة منه بعد أن تُركت نهايته مفتوحة
العمل مثلاً لم يقدم شخصياته بشكل واضح أو تفصيلي لنفهم على الأقل تاريخها وظروفها التي أوصلتها إلى هذا الحد من البشاعة والرغبة في الانتقام، فشخصية العربجي التي أداها باسم ياخور أتت كنموذج أوروبي لـ"روبن هود" بشعره الطويل، حامي الفقراء والضعفاء، مستغلاً المخرج طول قامة ياخور وضخامته. لكن العمل لم يقدم لنا مسيرة حياته وسبب دخوله المستمر للسجن، وسبب دفاعه عن الفقراء والمستضعفين، وسبب خلافة مع زوجته الذي مرّ مرور الكرام في حوار سريع بين بناته، ثم قتلها خلال الدقائق الأولى من العمل، في حين صدق العربجي أنها هربت مع رجل آخر.
وبعيداً عن بعض التفصيلات الهوليوودية التي استعان بها المخرج ليجعل من بطله خارقاً، تعرض العمل للكثير من الانتقادات، فكيف يمكن بعد 13 جزءاً من باب الحارة أن نصور المرأة بكل تلك القوة والجبروت، وأن نسحق هؤلاء الرجال الذي لا كلمة تعلو فوق كلمة والدتهم الخانم، وكيف سيمرّ زواج بنت العربجي وسط حارة دمشقية بكل تلك السلاسة والرعونة. كما أن العمل قام بتشويه صورة الداية التي عرفت دوماً على أنها كاتمة وحافظة الأسرار، حين أظهرها بلا ضمير، بسبب الخوف أو المال، وربما الرغبة بالانتقام.
ربما يكون مسلسل "العربجي" هو الصورة الأصدق عن بعض حاراتنا، وربما مجتمعاتنا العربية، وليس فقط السورية، لكن تلك الصورة بحد ذاتها ستكون حاجزاً تجاه جماهيريته المقبلة في حال تم إنتاج أجزاء جديدة منه بعد أن تركت نهايته مفتوحة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ ساعة??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 21 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون