قد أبالغ، ولكن ما المشكلة في أن أفعل حين أقول: إن فيلم "البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو"، هو أجمل فيلم مصري شاهدته في السنوات الأخيرة التي لا أعلم كما طالت، عشرة أعوام، عشرين، ربع قرن؟ مبالغة الفرح بهذا العمل، التي قد لا تكون دقيقة، لكنها ابنة نشوة المشاهد الذي خرج من قاعة السينما وأثر الفيلم – كما ينبغي للفن أن يفعل- ما زال داخله، يطرح أسئلته، يرى في الفيلم أملاً ما بوصل خيط قد انقطع عن السينما المصرية، فيلم مهموم بالناس.
الفيلم يعيد إلى الأذهان أعمالاً سينمائية مصرية تركت بصمة في تاريخ الفن السابع، مثل "خرج ولم يعد" أو "الهروب" و"الغول"، الذي نجد تحية واضحة له على لسان البطل، ليس فقط من خلال الإشارة الصريحة إليه، بل في الروح التي يحملها الفيلم: قصة تمزج بين التوتر والتشويق، لكنها لا تنسى الالتزام بالطرح الإنساني العميق، وكذلك في تقاطع الحبكتين، في فقدان البطلين لأي حل سوى الشراسة في مواجهة غياب العدل والقدرة على الحياة بأمان.
"البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو" ليس مجرد فيلم عن رجل وكلبه، بل هو نافذة تنفتح على زوايا القاهرة المخفية والحكايات الصغيرة لتتقاطع مع هموم أكبر، فيلم يروي قصة مدينة تجبر أبناءها على الدخول في صراعات يومية، دون أن تكفل لهم حق الحماية.
خالد منصور، في تجربته الإخراجية الأولى، يصنع عملاً ينغمس في تفاصيل الحياة اليومية لشخص يحاول أن يجد طريقه وسط مدينة تتوحّش يوماً تلو يوم، وكأن الشوارع تضيق عليه كما تضيق به أفكاره. الفيلم يلتقط ببراعة لحظات تبدو عابرة، لكنها تروي الكثير عن واقع يتأرجح بين الحلم والإحباط، كل ما هو مسكوت عنه في قاهرة لم نعد نعرفها، بذكاء وحساسية الفن.
في حالة "البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو"، تبدو مبالغتي أشبه باعتراف صادق أكثر من كونه ادعاءً. خالد منصور، في أولى تجاربه الإخراجية، يضع بين أيدينا عملاً فنياً يعبّر عن معاناة فردية تنبثق منها رؤى جماعية لمجتمع يبحث عن ملاذ، عن إنسانية ضائعة في زوايا مدينة منهكة، مبالغة تشيح البصر عن مشاكل في الإيقاع، عن رسم سطحي لبعض الشخصيات وتتشبّث بما تعتبره أملاً، لإعادة رسم الخريطة السينمائية من جديدة.
يتتبع الفيلم رحلة حسن، حارس أمن بسيط، تتسم حياته بالجمود الظاهري، لكنها تموج تحت السطح بتناقضات لا تنتهي. رامبو، الكلب البلدي، ليس مجرد رفيق لحسن، بل هو الامتداد الطبيعي له. كلاهما يواجهان عالماً يسعى إلى إقصائهما، إلى إغلاق الأبواب كلها في وجهيهما.
العلاقة بينهما تتجاوز مفهوم الصحبة لتصبح مقاومة ضد الظلم، طريقة للبقاء في مدينة لا تمنح سوى القليل لمن يقفون على هامشها وسط واقع يبدو بلا رحمة.
"البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو" ليس مجرد فيلم عن رجل وكلبه، بل هو نافذة تنفتح على زوايا القاهرة المخفية والحكايات الصغيرة لتتقاطع مع هموم أكبر، فيلم يروي قصة مدينة تجبر أبناءها على الدخول في صراعات يومية، دون أن تكفل لهم حق الحماية
الهشاشة الذكورية: صراع حسن بين القوة والانكسار
في قلب "البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو" تتبدّى شخصية حسن كمرآة تعكس أزمة الرجولة المعاصرة في مجتمع يُحمّل الرجال أعباء تفوق قدرتهم، بينما ينزع عنهم حق التعبير عن الهشاشة الإنسانية. حسن، بشخصيته الممزقة، ليس بطلاً بالمعنى التقليدي، بل هو تجسيد للرجل الذي يقف على حافة الانهيار، يُكافح يومياً للحفاظ على توازنه في مدينة تمارس ضغطاً غير مرئي على أحلام سكانها.
غياب الأب في حياة حسن يُشكل نواة التصدع الأول. يظهر الأب كصوت مسجل على شريط كاسيت، رمزاً لحضور مفقود. هذا الغياب لا يترك فقط فجوة عاطفية، بل يُثقل حسن بمسؤوليات تُجبره على ملء فراغ لم يصنعه هو. التسجيلات الصوتية التي يستمع إليها ليست مجرّد ذكريات عائلية، بل هي بقايا إرث مفقود تُعمق شعوره بالعزلة. في كل لحظة يظهر فيها حسن وحيداً، يلمس المشاهد ما خلف هذا الغياب من أثر: رجل يعاني عبئاً مضاعفاً، مطالباً بأن يكون سنداً لعائلته، بينما يبحث هو نفسه عن سند.
عمل حسن كحارس أمن يخلق مفارقة عميقة. المهنة التي تُفترض فيها القوة والحماية تكشف عكس ذلك تماماً في حياته الشخصية. حتى زيه، الذي يحمل كلمة "Security" الناقصة، يُشير بذكاء إلى افتقاده للأمان الحقيقي، سواء كان مادياً أو معنوياً. هذه الصورة ليست مجرد تفصيل بصري، بل هي عنصر سردي يعكس تآكل شعور حسن بالقدرة على مواجهة الحياة.
الصراعات التي يواجهها حسن ليست فقط مع الجار المستبد كارم، بل هي أيضاً مع نفسه. الجار، الذي يمثل سلطة اجتماعية قاهرة، يدفع حسن إلى مواقف تكشف عجزه عن حماية ما يحبه. رامبو، الكلب البلدي، يتحوّل إلى رمز لكل شيء يحاول حسن إنقاذه في حياته. في كل مرة يُهدَّد رامبو، يُذكَّر حسن بفشله في تحقيق سيطرة حقيقية على واقعه.
لكن أعظم ما يُبرز الفيلم هو كونه لا يُصوّر حسن كضحية خالصة. بل يجعل منه نموذجاً للرجل الذي يُكافح، رغم هشاشته، لإيجاد مكان له في عالم يبدو كأنه مصمّم ليُضعفه. هذا الكفاح اليومي، هذه المعارك الصغيرة التي يخوضها حسن، هي ما تجعل شخصيته قريبة من كل مشاهد يشعر بثقل التوقعات التي يضعها عليه مجتمعه. الفيلم لا يدين هشاشته، بل يجعل منها إنسانية تُعطي للصراع الداخلي معناه الأعمق.
القاهرة: كيان حي يعيد صياغة مصائر الأبطال
في "البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو"، تتجاوز القاهرة دورها كخلفية للأحداث، لتصبح كياناً حياً، نابضاً، يعكس صراعات شخصيات الفيلم، ويساهم في تشكيل مصائرها. إنها ليست مجرد مدينة، بل متاهة من المشاعر المتناقضة التي تجمع بين الازدحام والخواء، بين الحيوية واليأس، وكأنها تعكس بدقة عواطف الشخصيات وواقعها المتشابك.
تُظهر الأزقة الضيقة التي يسير فيها حسن يومياً شعوراً بالخنق والانحصار، كأن المدينة نفسها تتآمر مع ظروفه لتقليص أفقه وحصره في دائرة لا تنتهي من التوترات. العمارات العالية التي تلوح كجدران إسمنتية شاهقة، تحاصر الأبطال بصمتها الثقيل، وكأنها تمثل القيود التي لا يمكنهم الفرار منها. هذا الانغلاق المكاني يصبح انعكاساً لانغلاق الخيارات أمام حسن ووالدته، حيث تتحول المدينة إلى سجن مفتوح يمنع أي فرصة للخروج أو النجاة.
في الفيلم، الليل ليس ملاذاً للراحة، بل هو مساحة للخوف والتوتر. مصابيح الشوارع الخافتة وظلالها الممتدة تزيد الإحساس بالعزلة. يتحرك حسن في هذا الليل كمن يبحث عن مخرج في عالم مظلم، أما النهار، فهو ليس أكثر إشراقاً؛ بل يعكس جفاف الحياة، حيث تصبح شمس القاهرة الحارقة رمزاً للضغط المستمر وفقدان الأمل.
اختار المخرج خالد منصور تصوير أماكن حقيقية في القاهرة، بدءاً من الورش الشعبية المكدّسة بالآلات الصدئة، وصولاً إلى الأحياء التي تكاد تختفي معالمها تحت طبقات من القبح والإهمال. هذه الأماكن ليست مجرّد ديكورات، بل هي جزء أساسي من الحكاية. الورش الضيقة تحمل في ضجيجها وصخبها انعكاساً لصراع حسن اليومي للبقاء، بينما الأحياء القديمة تبدو كأنها شاهدة على تاريخ طويل من القهر المتوارث.
القاهرة في فيلم "البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو" لا تكتفي بعكس القهر، بل تتناقض بين كونها مصدر الخطر وموطن الألفة
القاهرة في الفيلم لا تكتفي بعكس القهر، بل تتناقض بين كونها مصدر الخطر وموطن الألفة. الشوارع، رغم قسوتها، تحتضن حياة حسن ووالدته، وكأنهما جزء من روحها الممزقة. الفيلم يضع المدينة في دور مزدوج: فهي العدو والحليف، السجن والملاذ. حسن لا يستطيع الفرار من قيودها، لكنه في الوقت نفسه لا يستطيع أن ينتمي إلى مكان آخر.
المدينة، كما تظهر في الفيلم، هي انعكاس لما وصفه المخرج بأنه "روح مأزومة". إنها أكثر من مجرد مكان يعيش فيه الأبطال. إنها الحيز الذي يتصارعون فيه مع أسئلتهم الوجودية، ويواجهون فيه قيود واقعهم. بين أضواء النيون الباهتة والخراب الذي يلتهم أحياءها، تصبح القاهرة نفسها شخصية مركزية، حاضرة في كل تفصيلة من تفاصيل القصة.
التفاصيل كمحرك درامي: لغة السينما الصامتة
في قلب "البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو"، تكمن قوة الفيلم في التفاصيل الصغيرة التي تُحرك مشاعر المشاهدين دون حاجة إلى كلمات مباشرة. التفاصيل هنا ليست مجرد عناصر مكملة للمشهد، بل أدوات درامية تحمل رمزية ودلالات عميقة تُعزّز من واقعية القصة، وتجعلها أكثر التصاقاً بحياة المتلقي.
في أحد المشاهد التي تبدو عابرة، نرى حسن يُطعم كلبه رامبو وجبة بلا ملح، حتى لا تؤذي صحته. هذه اللحظة البسيطة تحمل في طياتها صورة مُكبّرة لتعاطف حسن مع كائن ضعيف، لكنها أيضاً انعكاس لرفضه الضمني للعالم حوله. حينما يختار مشاركة معاناة كلبه، فهو يختار أيضاً الوقوف ضد القسوة السائدة في محيطه، ويُظهر جانباً إنسانياً نادراً في عالم يبدو أنه قد تخلى عن هذه المشاعر.
زي حسن، الذي يحمل كلمة "Security" بحروف ناقصة، هو تجسيد بصري لفقدان الأمان في حياته. تلك الحروف المفقودة ليست مجرّد عيب في زي العمل؛ إنها رمز لفراغ أعمق في حياته، حيث لا يشعر بحماية حقيقية، سواء من المجتمع أو حتى من ذاته. وفي أحد المشاهد التي تقطع فيها الكاميرا على زيّه الممزق، يُدرك المشاهد أن هذا النقص ليس فقط خارجياً، بل هو جزء من معاناة داخلية تعصف بحسن.
لحظة التخلي عن رامبو ليست مجرد لحظة درامية عابرة، بل هي محور عاطفي يُعيد تشكيل مفاهيم الخسارة والأمل في ذهن المشاهد. قرار حسن بإرسال رامبو إلى حياة أفضل في مكان بعيد، بينما يبقى هو محاصراً في مدينته، يحمل دلالة رمزية قوية. التضحية هنا ليست فقط لإنقاذ الكلب، بل هي انعكاس لرغبة حسن في كسر دائرة الألم، حتى لو على حساب عزلته العاطفية.
الفيلم لا يكتفي بعرض قصة شخصية عن حسن وكلبه، بل يُقدم تأملاً أوسع حول معنى الإنسانية في عالم قاسٍ. من خلال تسليط الضوء على المهمّشين، سواء كانوا بشراً أو حيوانات، يطرح الفيلم تساؤلات حول معنى الحماية، العلاقة بين القهر والمقاومة، وإمكانية العثور على الأمل حتى في أحلك الظروف.
"البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو" ليس مجرد فيلم يروي حكاية مؤثرة، بل هو شهادة على الإمكانيات الكامنة في السينما المصرية. بفضل الأداء التمثيلي الصادق، والإخراج الحساس، وتصوير يعكس تعقيد الحياة اليومية، يقدم الفيلم تجربة تُحرك المشاعر، وتُثير الفكر في آنٍ معاً. إنه دعوة صريحة لدعم الأعمال السينمائية التي تخاطب القضايا الحقيقية، وتُلهم المشاهدين للتأمل في أعمق طبقات حياتهم ومجتمعهم.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 6 ساعاتفعلاً عندك حق، كلامك سليم 100%! للأسف حتى الكبار مش بعيدين عن المخاطر لو ما أخدوش التدابير...
Sam Dany -
منذ 6 أيامانا قرأت كتاب اسمه : جاسوس من أجل لا أحد، ستة عشر عاماً في المخابرات السورية.. وهو جعلني اعيش...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياملماذا حذفتم اسم الاستاذ لؤي العزعزي من الموضوع رغم انه مشترك فيه كما ابلغتنا الاستاذة نهلة المقطري
Apple User -
منذ أسبوعوحده الغزّي من يعرف شعور هذه الكلمات ، مقال صادق
Oussama ELGH -
منذ أسبوعالحجاب اقل شيء يدافع عليه انسان فما بالك بحريات اكبر متعلقة بحياة الشخص او موته
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعاهلك ناس شجاعه رفضت نطاعه واستبداد الاغلبيه