ضمن تقرير تلفزيوني عن احتفالات أهل غزة بأخبار نجاح مفاوضات وقف إطلاق النار، يظهر على الشاشة شاب ثلاثيني يلوحّ بإحدى يديه في الهواء، محاولاً تقليد زملائه الذين يصفّقون ويغنون، لكن يداً واحدة لا تصفّق كما يقال، وهذا الشاب لا يملك يداً ثانية، وربما هو لا يعرف حتى أين هي يده الآن، أهي في المقبرة، أم تحت أنقاض بيته، أم أكلتها الكلاب التي نهشت جثث أصدقائه أو أقاربه الأقل حظاً في هذه الحرب؟
صبية في مقتبل العمر، التقيتها في مصر قبل سنة من الآن، حيث كانت قد خرجت للتو من غزة بعد أن فقدت كامل أفراد عائلتها، ولكن الحظ فقط هو ما جعل منها الناجية الوحيدة، كتبت منذ يومين أن من يُمكنها إبلاغهم أن الحرب رحلت كلهم رحلوا معها. أي أنه لم يبق لديها من تخبره أو أن تزف له بشرى انتهاء الحرب.
شاب ثالث، يعيش مع عائلته الصغيرة في خيمة من خيام مواصي خان يونس، عبّر عن شعوره حيال توقيع اتفاق الهدنة بطريقة لا يمكن المرور عليها دون حرقة في الصدر ومرارة في الحلق، حيث قال: "لقد نزحنا سبعة أفراد من عائلة واحدة، وها نحن سنعود ثلاثة فقط".
رجل يبدو من ملامحه ومن لحيته البيضاء أنه تجاوز السبعين من عمره، يشرح لمراسل قناة تلفزيونية عن حيرته بين أن يعود بعد يومين إلى بيته في شمال غزة، كما يمكن لأي نازح أو مسافر أن يعود، أو أنّ عليه أن يأخذ معه الخيمة التي تأويه منذ سنة. بالطبع ليس مرد الحيرة هو حب الخيمة، بل أن الرجل ليس متأكداً إن كان بيته قد بقي سليماً حتى الآن وقابلاً للسكن، أو تمّت تسويته بالأرض، ولا أحد من الجيران ظلّ هناك في الشمال ويمكنه أن يتصل به ليسأله. "لا أعرف يا بنيّ"، يقول الرجل: "أخاف أن تلزمني هذه الخيمة هناك".
وأخيراً، امرأة من تل السلطان في رفح، قررت عدم العودة لأن بيتها تم مسحه على محور فيلادلفيا، حيث سيظل جيش الاحتلال متواجداً في المرحة الأولى من هذا الاتفاق.
النقص إذن هو العنوان الرئيس لكل شيء ولكل حدث؛ نقص في العائلة ونقص في الأطراف، نقص في البيت ونقص في الأرض، نقص في الأبناء والآباء والأصدقاء والأخوة، نقص في الناس ونقص في مساحة غزة. فهل يمكن للفرح أن يكون كاملاً؟
النقص إذن هو العنوان الرئيس لكل شيء ولكل حدث؛ نقص في العائلة ونقص في الأطراف، نقص في البيت ونقص في الأرض، نقص في الأبناء والآباء والأصدقاء والأخوة، نقص في الطعام والماء ونقص في اللباس وفي الجسد الذي يرتدي اللباس، نقص في الناس ونقص في مساحة غزة. فهل يمكن للفرح أن يكون كاملاً؟
الإجابة قطعاً لا، فمن يمكنه غير الناجين من هذه الحرب، والتي أكلت كل شيء، أن يعبّر عن فرحه. إنهم هم فقط من يستحقون أن "يحتفلوا" بتوقف الموت القادم من الجهات الخمس وفي كل لحظة، فرغم الخسائر الباهظة إلا أن الحياة تستحق أن تُعاش، ويستحق من حصل على فرصة جديدة لعيشها أن يفرح لأن الموت لم يخطفه، وهو حصراً من له كامل الحق في أن يعبّر عن هذا الفرح بالطريقة التي يرتئيها؛ بيد واحدة، بالبكاء، بالضحك الهستيري، بخيمة على الكتف أو على أنقاض البيت، بلغة الهزيمة أو بأناشيد النصر.
لكن لماذا وبماذا يحتفل البعيدون عن غزة؟ بماذا تحتفل فتاة أو شاب قضى السنة الأخيرة من عمره في مشاهدة الحرب على شاشة التلفاز، ولم يفعل شيئاً سوى الاستغناء عن وجبته الأسبوعية من ماكدونالد؟ هل يعتقد فعلاً أنه بهذا الاحتفال يتضامن مع أهل غزة؟ دعونا نشير إلى الجرح ونسميه باسمه، لأن دفن الرأس في الرمال قد يفيد فرداً هنا أو نعامة هناك، لكنه لا يجوز أن يكون سمة غالبة على شعب أو حتى شريحة أو فئة من شعب، ولكي نشير إلى الجرح لا بد من طرح الأسئلة الصعبة ودون مواربة أو مجاملات:
لنأخذ مدينة رام الله مثالاً لا حصراً، وما يجوز عليها يجوز على المدن الفلسطينية والعواصم العربية بدرجات متفاوتة. لقد تألم الناس في رام الله على مدار أيام وشهور الحرب الهمجية على إخوانهم في قطاع غزة، وكان هذا الألم حقيقياً لا مزيفاً، وتم التعبير عن شعور العجز بما لا يُحصى من المرات ومن الكتابات، لكن النتيجة لم تتغير طوال هذه المدة: لم يخرجوا لا مع البطل ليؤازروا فعل البطل حسب تعريفهم له، وكذلك لم يخرجوا مع الضحية ليحاولوا منع فعل المجرم بحقها، والبطش بها.
خرج أهالي الأسرى الإسرائيليين لدى حماس والفصائل، على مدار سنة كاملة، أغلقوا فيها الشوارع وهاجموا حكومتهم وناشدوا العالم للمطالبة بأسراهم. لقد أُغلِقت شوارع وتعطلت مراكز مدن من أجل مئتي أسير، بينما لم يحرك خمسون ألف شهيد حميتنا العربية ولا الإسلامية، إلا بشعار هنا ووقفة هناكأقصد أن كل من يؤيدون الحرب، ولا يرون منها إلا زاوية خسائر إسرائيل، وأن خسائر الشعب الفلسطيني ضريبة مستحقة للتحرير، لم يقوموا بواجبهم البطولي أو النضالي لمساندة هذه البطولة في غزة، بل مارسوا دور مشجّعي كرة القدم من خلف الشاشات لا أكثر. كما أن كل من يرفضون الحرب ويرون المآسي التي تعرّض لها إخوانهم في القطاع، هم كذلك لم يخرجوا ولو في مظاهرة واحدة حقيقية ومشابهة لما كان يحدث في إيرلندا أو لندن، مظاهرة يكون عنوانها الأوحد هو وقف هذه الإبادة.
يؤسفني أن أطرح المثال التالي من باب المقارنة: لقد خرج أهالي الأسرى الإسرائيليين لدى حماس والفصائل، هم وشرائح كبيرة من مجتمعهم، على مدار سنة كاملة، أغلقوا فيها الشوارع وهاجموا حكومتهم وناشدوا العالم للمطالبة بأسراهم. لقد أُغلِقت شوارع وتعطلت مراكز مدن من أجل مئتي أسير، بينما لم يحرك خمسون ألف شهيد حميتنا العربية ولا الإسلامية، إلا بشعار هنا ووقفة هناك.
بأي عين نحتفل إذن، وتحت أي عنوان، ومن أجل أي تضليل للذات قبل الآخرين، وما هي الصورة التي نريد أن نقدمها للعالم، الصديق منه والعدو على حد سواء؟ في الحقيقة (المُرة للأسف) أن هذا ليس احتفالاً بقدر ما هو تسجيل للنقاط ضد بعضنا البعض، وهو ما نبرع فيه عند كل محكّ جدي، وهو ما يمكن تسميته انتصاراً لرأي على الرأي الآخر.
أما ما حصل في غزة على مدار سنة وثلاثة أشهر فغني عن الوصف، وهو لا يستدعي منا إلا الخشوع أمام من فقدناهم، وفي حضرة من فقدوا أبناءهم وبيوتهم وكل ما هو عزيز عليهم، ومن لديه رأي آخر فليقنعنا بأن هذه الاحتفالات مُستحقة وهي خاتمة لحدث ليس لدينا مشكلة لو تم تكراره كل يوم وكل ساعة.
الأولى من كل تسجيل النقاط والمناكفات هذه هو أن نجلس لنراجع التجربة، أن نجلس كقيادات مسؤولة وشعب حكيم، وأن نفكر أين أخفقنا وأين ربحنا، ما الذي يمكنه أن يقرّبنا من هدفنا النهائي بالتحرّر، وما الذي يبعدنا عنه. أما غير ذلك فليس أكثر من احتفال بانتصار فئة منا على الأخرى، وإسكات لكل صوت مخالف، وتكريس لكل تشنج.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Ahmed Gomaa -
منذ ساعتينعمل رائع ومشوق تحياتي للكاتبة المتميزة
astor totor -
منذ 4 أياماسمهم عابرون و عابرات مش متحولون
مستخدم مجهول -
منذ 4 أيامفعلاً عندك حق، كلامك سليم 100%! للأسف حتى الكبار مش بعيدين عن المخاطر لو ما أخدوش التدابير...
Sam Dany -
منذ أسبوعانا قرأت كتاب اسمه : جاسوس من أجل لا أحد، ستة عشر عاماً في المخابرات السورية.. وهو جعلني اعيش...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلماذا حذفتم اسم الاستاذ لؤي العزعزي من الموضوع رغم انه مشترك فيه كما ابلغتنا الاستاذة نهلة المقطري
Apple User -
منذ أسبوعوحده الغزّي من يعرف شعور هذه الكلمات ، مقال صادق