شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
خريطة الشهوة في باريس... كيف يستهلك عالم الليل عاملات الجنس المهاجرات؟

خريطة الشهوة في باريس... كيف يستهلك عالم الليل عاملات الجنس المهاجرات؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

تنويه: المقابلات مع العاملات الجنس المهاجرات في باريس جاءت في سياق بحث بعنوان : الهجرات العابرة للحدود والعلاقات الاجتماعية - عاملات الجنس نموذجاً. كما تجدر الإشارة إلى أن جميع الأسماء الواردة مستعارة لحماية المشاركات.

تبدو خريطة باريس دائرية الشكل، يشطرها نهر السين إلى نصفين، محولاً نصفها العلوي كشكل قطعة كرواسان، المخبوز الفرنسي الشهير والشهي، الذي يعد أحد مفردات "مدينة النور" إلى جانب العطور والموضة والفن، لكن خلف هذا الألق، تختبئ باريس أخرى تظهر مع غروب الشمس، حيث تتحول المدينة إلى شبكة معتمة تخفي وراءها عالماً من الشهوة، والعنف، والاتجار بالبشر.

في عام 2016، أصدرت فرنسا قانوناً يجرّم شراء الخدمات الجنسية. ورغم أنه يهدف ظاهرياً إلى الحد من الاتجار بالبشر، إلا أنه دفع عاملات الجنس إلى زوايا مظلمة من باريس، ما زاد من معاناتهن. من أزقة "بورت دو فانسان" إلى "ستراسبورغ سان دوني" وحتى غابات "بولونيا"، تحوّلت عاصمة الموضة إلى خريطة للجنس محكومة بالتصنيفات العرقية التي تعكس جذوراُ عنصرية مقيتة.

خريطة الشهوة

يفرض القانون الفرنسي غرامة مالية تصل إلى 1,500 يورو على من يتم ضبطهم متلبسين بشراء الخدمات الجنسية. وفي حال تكرار المخالفة، ترتفع الغرامة إلى 3,750 يورو. وعلى الرغم من أن القانون يبدو ظاهرياً كخطوة لمكافحة الاتجار بالبشر، مع إعفاء العاملين في هذا المجال من التجريم المباشر، إلا أنه أدى عملياً إلى زيادة معاناتهم.


جغرافيا الشهوة في باريس: كيف يستهلك الليل عاملات الجنس المهاجرات.

فقد دفعت هذه التشريعاتُ العاملين في الخدمات الجنسية إلى الأزقة النائية والشوارع المعزولة، وكذلك الغابات الموحشة في أطراف باريس لحماية الزبائن، وهو ما أسهم في مضاعفة العنف الذي تتعرض له العاملات في الخدمات الجنسية، وفقاً لدراسة أعدّها معهد السياسة الاجتماعية الفرنسي بالتشارك مع منظمات أخرى عام 2018.

ووفق تقرير نشرته صحيفة "لو باريزيان" فعاملات الجنس من أصول عربية ينشطن بشكل ملحوظ في منطقتَي جاري دو نورد وشاتو-روج. في حين تشهد منطقتا ستراسبورغ-سانت دينيس وبوليفار دو بيلفيل تواجداً بارزاً للعاملات من أصول إفريقية، وبالأخص من دول جنوب الصحراء مثل نيجيريا وغانا والكاميرون.

وفي بوا دو بولوني، حيث تهيمن ظاهرة العمل في الجنس التقليدية، يمكن ملاحظة تواجد المتحولين جنسياً جنباً إلى جنب مع العاملات من الإكوادور، بالإضافة إلى الأسيويات وبعض الأشخاص من أوروبا الشرقية.

أما منطقة بوابة فانسن في الضواحي الشرقية، فهي تستقطب أيضاً عاملات جنس من جنسيات متعددة مثل نيجيريا وأوروبا الشرقية، حيث تشهد هذه المنطقة نشاطاً جنسياً مكثفاً، وخصوصاً في الشاحنات الصغيرة والمتهالكة.

تظهر هذه الخريطة الجغرافية أن العاملات لا يتأثرن فقط بالقوانين، بل يخضعن أيضاً لتصنيفات عنصرية وطبقية تحدد أجورهن وطبيعة الزبائن الذين يتعاملون معهن.

العربية جارية وراقصة محجبة

يضاعف هذا التقسيم الجغرافي لأعراق العاملات في الجنس من معاناتهن، إذ إن الزبائن الذين يقصدونهن وفقاً للمنطقة التي يتواجدن فيها، يأتون محمّلين بأوهام جنسية يسعون لتحقيقها معهن، وبهذا المعنى يتحوّل هذا التقسيم الجغرافي - العرقي كسوق يخضع لقوانين العرض والطلب التي تتشكل وفق الخيالات الجنسية والعنصرية.

يتخيّل زبائن الدعارة المرأة العربية وفق صورة نمطية محددة، بوصفها خاضعة ومقهورة، وغالباً ما يُطلب منها تجسيد دور الجارية أو الراقصة، بل يصل الأمر أحياناً إلى مطالبتها بارتداء الحجاب والعباءة

ففي الأزقة التي تكثر فيها العاملات من أصول عربية، وخاصة في منطقتي جاري دو نورد وشاتو-روج. تقول العشرينية سمر، المنحدرة من أصول عربية: "يأتي الزبون إليّ متخيلاً أنني أمثّل صورة المرأة الخاضعة والمقهورة بسبب خلفيتي الثقافية كوني من أصول عربية، حتى إنني تعرضت لمواقف طُلب مني فيها تجسيد دور الجارية أو الراقصة لإرضاء خيالاتهم".

وتؤكد على هذه التجربة الأربعينية أمل، التي تقول وهي تلمس شعرها وتشير إلى جسدها: "لون شعري الداكن وجسدي الممتلئ قليلاً يحفز خيال الزبائن. كثيراً ما طلبوا مني ارتداء العباءة والحجاب".

الشبقة والمتوحشة والمطيعة

ترتبط صورة الإفريقيات في ذهن الزبائن كنساء شبقات لا حدود لرغباتهن الجنسية. تقول جاكلين (37 عاماً)، العاملة الجنسية ذات الأصول الإفريقية: "يربطني الزبائن بالجنس المعتمد على العنف، ودائماً ما أتلقى تعليقات تصنفني كإحدى النساء اللواتي لا يعرفن حدوداً لرغباتهن الجنسية".

وتتفق مع هذا الرأي الكاريبية تاتيانا (19 عاماً): "كثيراً ما يصفني الزبائن بأنني متوحشة بشكل غريزي، ما يشعرني بالدونية طوال الوقت".

أما الآسيويات اللاتي يعملن في منطقة غابات بولونيا، فيعتقدن أن الزبائن يرونهن كنساء طيّعات لا يرفضن أي خيال جنسي مهما بلغ مجونه. في هذا السياق، تقول يينغ، وهي عاملة جنس في عقدها الثالث: "عندما يأتي الزبائن من أجلنا نحن الآسيويات، فإنهم يقصدون خيالات جنسية بعينها".

وتضيف: "بسبب لوني وأصلي، أجد نفسي مضطرة لقبول الاعتداءات الجسدية، فالزبون يأتي إليّ ليس لأنني أفضل النساء، بل لأنني في خياله طيّعة وأستطيع أن أكون انعكاساً لرغباته. وهذا، للأسف، هو واقع سوق الجنس".

بورصة الأسعار

بالإضافة إلى الخيال الجنسي، يخضع التقسيم الجغرافي للعاملات في الجنس أيضاً لاختلافات في الأسعار، مما يزيد من تعميق النظرة العنصرية تجاههن. تكون أسعار خدمة الجنس للعاملات القادمات من أوروبا الشرقية أعلى مقارنة بنظيراتهن من آسيا أو العالم العربي وإفريقيا.

تقول ينغ: "في نظر الزبائن، نحن الآسيويات مجرد سلع رخيصة لا نختلف كثيراً عن المنتجات الصينية رديئة الصنع. ومهما قدمنا من خدمات، فإننا لن نحصل أبداً على ما تحصل عليه عاملات الجنس الأوروبيات".

تخرج جاكلين حفنة من العملات المعدنية من جيبها وتعدّها بتأنٍ قبل أن تشير باصبعها إلى بشرتها السوداء قائلة: "بسبب لوني، أُجبر على العمل بأجر منخفض، وأواجه عنصرية مهينة ورقابة خانقة. ورغم كل ذلك، لا يساوي ما يقدمه جسدي حتى ثمن وجبة بسيطة".

ينظر زبائن الدعارة إلى عاملات الجنس الآسيويات كسلع زهيدة القيمة، ويشبهونهن بالمنتجات الصينية منخفضة الجودة، الأمر الذي ينعكس على أسعار خدماتهن الجنسية، التي غالباً ما تكون أدنى من نظيراتهن الأوروبيات

أما آنستازيا (29 عاماً)، القادمة من أوروبا الشرقية والتي تعمل في منطقة بوابة فانسن، فتقول: "يعلم كل من يأتي إلى هنا أننا نعمل من أجل لقمة العيش. هم يعرفون جيداً أن الفقر هو السبب في وجودي هنا، ولأنهم يعرفون ذلك، فهم يستغلون ضعفنا لمساومتنا على أجسادنا". وتكمل بأسى: "كنت أعمل في ريد ديستريكت بهولندا، لكنهم طردوني لأن جسدي تغيّر، لأنني أصبحت بدينة. حتى جسدي فقد قيمته الكاملة بمجرد أن زاد وزني قليلاً".

كدمات في الجسد والروح

تقول سمر: "عملت سابقاً في خدمة المنازل، في الحقيقة لا أجد فارقاً في الشقاء والمهانة بين عملي كعاملة جنس وبين عملي السابق، لكن في مهنتي هذه المهانة أقصر زمناً إذ لا يستغرق أكثر من 15 دقيقة".

بدورها تقول يينغ: "لا يتوقف الألم عند الكدمات التي أحصيها على جسدي وأنا أتفقد أمام المرآه، إلا أن الأذى يتجاوزه إلى الروح". تكمل : "للهرب من الرقابة ومن ملاحقة الشرطة، أعمل في غابات بولونيا، هذا المكان مرعب وبارد، ولأنه معزول فإن الاعتداءات الجسدية والنفسية تصبح أكثر حدّة. عندما يقف الأمر عند الإهانة اللفظية أعتبر أنني شخص محظوظ. كثيراً ما أتظاهر بعدم الفهم، كي لا أسمح للزبون بالتمادي، فكلانا يعرف أن إهانتي هي لذته".

مكالمة قاتلة

بالإضافة إلى شعورهن بالخوف نتيجة العمل ليلاً في مناطق نائية ومعزولة، تعيش عاملات الجنس العربيات رعباً مضاعفاً إذا ميّزن لهجة أحد الزبائن العرب، خشية أن يكتشف هويتهن ويبلغ أقاربهن بحقيقة عملهن.

"كلما صادفت شخصاً من أصول مغاربية، شعرت بالاختناق. أتخيله وهو يتصل بعائلتي ليحدثهم عن حقيقة عملي، فأشعر بالعار والخوف". هذا ما قالته سمر عن أكثر ما يؤرقها في عملها. وتضيف: "إذا اكتشف أحد عمومتي أو أخوالي طبيعة عملي، فلن يترددوا في قتلي".

سمر: كلما صادفت شخصاً من أصول مغاربية، شعرت بالاختناق وأتخيله وهو يتصل بعائلتي ليحدثهم عن حقيقة عملي، فأشعر بالعار والخوف.

أما أمل فتقول: "تبرأت عائلتي مني بمجرد أنهم شكّوا في طبيعة عملي، وكأن الشك وحده كافٍ لقطع كل روابط الدم والرحمة. أؤمن أن الله سيغفر لي إذا تبت، لكن عائلتي؟ لا، مستحيل. فذنبي لا يُغتفر أبداً وهم لا يرتكبون الذنوب".

يُذكر أن عدد العاملين في سوق الجنس في فرنسا يقدر بحوالى 30,000 شخص، 85% منهم من النساء و93% منهم أجانب. وبحسب الدراسات، يعاني ما بين 50% و70% من الأشخاص الذين يعملون في هذا المجال من مشاكل نفسية تتراوح بين الضعف النفسي والمشاكل النفسية الحادة. كما يتعرض 51% منهم للعنف الجسدي في إطار عملهم، ويتعرض 64% للإهانات أو أفعال الإذلال أو الوصم.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel

بالوصول إلى الذين لا يتفقون/ ن معنا، تكمن قوّتنا الفعليّة

مبدأ التحرر من الأفكار التقليدية، يرتكز على إشراك الجميع في عملية صنع التغيير. وما من طريقةٍ أفضل لنشر هذه القيم غير أن نُظهر للناس كيف بإمكان الاحترام والتسامح والحرية والانفتاح، تحسين حياتهم/ نّ.

من هنا ينبثق رصيف22، من منبع المهمّات الصعبة وعدم المساومة على قيمنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image