يظهر في بداية فيديو رديء الجودة، تتجاوز مدته السبع دقائق، ويعود تاريخ تسجيله إلى ثمانينيات القرن الماضي، شابٌ في مقتبل العمر يُدعى محمد هباش، يرتدي الكوفية الفلسطينية حول عنقه، وقد ثبّت بصره ليبدو وكأنه يتحدث إلى المستمعين عبر الكاميرا مباشرةً قائلاً بنبرةٍ تجمع بين الحسرة والفخر: "فوج الثورة الأول هل... ثلاث رجال وثلاث زنازين... والتهمة حب فلسطين... والحكم الصادر إعدام... يا عطا الزير، يا فؤاد حجازي، يا جمجوم... يا ثلاث نجوم... فوق أرض بلادي بتحوم... وطلعت من عكا جنازة لثلاث طيور... تتدلى من قلب العتمة وتفرش وطني بحزمة نور".
يبدأ بعد ذلك صوت ألحان حسين نازك بالارتفاع، ليمهّد الطريق المناسب لدخول حسين المنذر بصوته الجبلي المشحون بعاطفة قلّ نظيرها، حيث يقف مشدود الكتفين على يمين مجموعة من أعضاء "فرقة العاشقين" الفلسطينية الشهيرة، وهو يلوّح بيديه متوعداً في أداء تعبيري يليق بكلمات واحدةٍ من أشهر المراثي في العصر الحديث.
لم يكن ثمة بيت في تلك الأوقات لم يعرف المرثية الشهيرة؛ "من سجن عكا طلعت جنازة"، لا سيما بيوت الفلسطينيين
لم يكن ثمة بيت في تلك الأوقات لم يعرف المرثية الشهيرة؛ "من سجن عكا طلعت جنازة"، لا سيما بيوت الفلسطينيين. قيل إن هذه المرثية كتبها الشاعر الفلسطيني نوح إبراهيم (1913-1938)، برغم عدم وجود دليل يُثبت صحة ذلك. في أي حال، ارتبطت هذه الأغنية باسم الشاعر الفلسطيني المذكور الذي قضى بغارة للاحتلال البريطاني آنذاك، وقد عُرف عنه إتقانه الشعر المحكي الذي كرّسه بشكل كلي للكتابة عن فلسطين. مُنع نتاجه هذا وتعرض للخنق في ظل احتلالين، لا سيما مع الشهرة الواسعة التي لاقتها أسطواناته المُسجلة في دول عربية عدة، وقد كانت تركز بشكل أساسي على تدوين أبرز الأحداث التي وقعت في فلسطين خلال ثلاثينيات القرن الماضي، بالإضافة إلى الاحتفاء بنضال مقاومين أمثال عبد القادر الجزائري وعز الدين القسام. ولعل هذا الخنق ومصادرة الاحتلال البريطاني للعديد من الأوراق والقصائد التي كان قد ألّفها ونظمها، قد حالا دون قدرة الباحثين على تجميع سيرته أو الوصول إلى أعماله ونتاجه وتوثيقهما.
"سجن عكا طلعت جنازة"
أُعيد إحياء كلمات "من سجن عكا طلعت جنازة"، بصوت فرقة العاشقين (1977)، التي تم تأسيسها أصلاً لتكون صوتاً مقاوماً للاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية، من خلال نشر الحقائق وحكايات البطولة وسيرة المناضلين والشهداء باستثمار قوة الفن وقدرته الكبيرة على التأثير والصون. وقد لاقت الأغنية بصوت أعضاء الفرقة شهرةً واسعة آنذاك، حتى أصبحت شاهداً رسمياً على أحداث مرتبطة بـ"ثورة البراق" (1929)، وحكاية الشهداء الثلاثة الذين أعدمتهم سلطات الانتداب البريطاني في سجن عكا لدورهم البارز في الثورة، في يوم أصبح يُعرف لاحقاً باسم "الثلاثاء الحمراء".
لم تُعِد فرقة العاشقين إحياء كلمات أغنية زجلية لشاعر لم يعش طويلاً فحسب، فأحيته وكلماته، بل ساهمت بشكل أساسي في الإبقاء على قصة من قصص البطولة الفلسطينية حيّةً في ذاكرة الأجيال، حتى بعد مضيّ أكثر من 90 عاماً على أحداثها.
شهداء "الثلاثاء الحمراء"
"كانوا ثلاثة رجال يتسابقوا عالموت... أقدامهم عليت فوق رقبة الجلاد...
وصاروا مثل يا خال وصاروا مثل يا خال... طول وعرض البلاد...".
قدّمت قوات الانتداب البريطاني أكثر من ألف عربي وفلسطيني للمحاكمة على خلفية أحداث "ثورة البراق"، وحُكم على 27 منهم بالإعدام، من بينهم شهداء "الثلاثاء الحمراء"، الذين تروي أغنية الشاعر نوح إبراهيم، قصتهم: فؤاد حجازي وعطا الزير ومحمد جمجوم.
وكانت ثورة "البراق"، أول انتفاضة فلسطينية ضد محاولات تهويد القدس في عهد الانتداب البريطاني. قامت عندما بدأ اليهود بتنظيم مظاهرات ضخمة عند حائط البراق في آب/ أغسطس 1929، بمناسبة ما أسموه "ذكرى تدمير هيكل سليمان"، مدّعين أنه مكان خاص باليهود وحدهم. وقد شهدت الثورة صدامات بين الفلسطينيين من جهة، واليهود وقوات الانتداب من جهة أخرى، في مدن فلسطينية عدة منها الخليل وصفد ويافا، واستمرت لأيام.
قدّمت قوات الانتداب البريطاني أكثر من ألف عربي وفلسطيني للمحاكمة على خلفية أحداث "ثورة البراق"، وحُكم على 27 منهم بالإعدام، من بينهم شهداء "الثلاثاء الحمراء"، الذين تروي أغنية الشاعر نوح إبراهيم، قصتهم
وفي 17 حزيران/ يونيو عام 1930، تم إعدام كلّ من الشبان الثلاثة شنقاً في سجن القلعة في مدينة عكا، على الرغم من الاحتجاجات التي عمّت مناطق عدة في الوطن العربي للتراجع عن حكم الإعدام بحقهم.
فؤاد حسين حجازي (1911-1930)
كان فؤاد حجازي، أصغر الرجال الثلاثة الذين أُعدموا صبيحة ذلك اليوم، وهو أول من نُفِذ فيه حكم الإعدام وذلك قبل رفيقيه الآخرين، بتهمة القتل والتحريض على الثورة، واقتيد هو ومجموعة كبيرة من أبناء صفد -مسقط رأسه- للمحاكمة، وقد صدر حكم الإعدام بحقه هو وثمانية منهم.
كان فؤاد يتيم الأب، وله شقيقان اثنان، درس الثانوية في الكلية الإسكتلندية، وحصل منها على شهادة المترك، ليعمل بعد ذلك في مصلحة الصحة العامة في صفد، ولم يتخرج فؤاد من الجامعة الأمريكية في بيروت كما يُشاع، بل شقيقه أحمد هو الذي تخرّج منها، ولم يغادر فلسطين طوال حياته، وقد أعدمته قوات الانتداب البريطاني أساساً قبل أن يبلغ عامه العشرين.
في الليلة السابقة لصبيحة تنفيذ حكم الإعدام، كتب فؤاد وصيته مخاطباً أمه وأخويه والأمة العربية، وقد نشرتها جريدة "اليرموك" الحيفاوية في 18 حزيران/ يونيو 1930، وهذا جزء مما جاء فيها:
"... أما أنت يا أماه، فصبراً صبراً، ولا يشتد جزعك لمصرع فؤاد، لأنه حي خالد الذكر، أبد الدهر، إذ ما معنى الحياة في هذه الدنيا إلا الاجتهاد في العمل الصالح لأجل تخليد الذكر، فأنا بحمد الله قد تخلّد ذكري وستتوارثه الأجيال الآتية جيلاً بعد جيل، لهذا عليك أن تفرحي لفؤاد، الذي قضى، قبل أن يتجاوز العقد الثاني من عمره وقد خلد له هذا الذكر...
إن الأمة التي يكثر شهداؤها هي الجديرة بالحياة، أما الأمة التي تخلد إلى السكينة أمام الظلم وتقف مكتوفة الأيدي أمام القهر، فجدير بها أن يُمحى اسمها من لوح الوجود".
الأمة التي تخلد إلى السكينة أمام الظلم وتقف مكتوفة الأيدي أمام القهر، فجدير بها أن يُمحى اسمها من لوح الوجود
نُقل عن فؤاد، حديثه حين أتى وفدٌ للجمعية الإسلامية-المسيحية في حيفا إلى سجن عكا لزيارة المساجين الثلاثة المحكومين بالإعدام، وقد باتوا رموزاً للثورة وقدوةً لآلاف الشباب العربي الذي يهتف باسمهم خارج أسوار السجن، قائلاً: "دعونا نموت، لا تشغلوا أنفسكم بنا، فإن هذه الأحكام التي يصدرونها في حقنا يجب أن لا نأبه بها وأن لا تشغلنا عن التفكير في مستقبل بلادنا، نحن المكبّلين بالحديد، فكيف تؤخركم أنتم عن العمل لخير بلادكم، نحن لسنا بحاجة إلى التشجيع، وكل ما نحن بحاجة إليه هو أن نسمع قبل أن يفرّق البين بيننا وبين الحياة وقبل أن نعلَّق على أعواد المشانق، أنكم أمة تستحق الحياة".
محمد خليل أبو جمجوم (1902-1930)
تنقل الوثائق مواقف وأحداثاً من داخل سجن عكا قبيل تنفيذ حكم الإعدام لكل من الشبان الثلاثة، مثل آخر ما قالوه لأقربائهم وعوائلهم ورفاقهم، وقد نُقل عن جمجوم حسّه الفكاهي وتعاطيه مع الأشياء بهزلية وضحك. وعُرفت عنه حادثة شهيرة خلال صبيحة يوم تنفيذ حكم الإعدام، إذ كان من المقرر أن يكون الأخير خلال مسير الشهداء الثلاثة نحو حبل المشنقة، ولكنه أصرّ على أن يتقدم رفيقيه، ليكون ثاني الشهداء بدلاً من عطا الزير.
وُلد جمجوم في مدينة الخليل، وتلقّى دراسته الابتدائية فيها، وشارك بفعالية منذ صغره في معظم المظاهرات التي شبّت في المدينة احتجاجاً على شراء أراضي الفلسطينيين واغتصابها، وبذلك كان رمزاً من رموز المقاومة العربية للصهيونية، إلى أن اعتقلته سلطات الاحتلال البريطاني قبل موعد زفافه بأيام، يوم 27 آب/ أغسطس 1929، بتهمة المشاركة في الثورة وقتل يهوديَين.
وقد ذُكر في كتاب "الثلاثاء الحمراء في الحركة الوطنية الفلسطينية"، لعادل مجاهد العشماوي، مقتطفات من الحديث الأخير لجمجوم مع والدته حين رآها تبكي، فقال: "ولماذا تبكين يا أماه؟ أتبكين عليّ لأنني أريد أن أموت شهيداً؟ زغردي يا أماه، زغردي، لأن هذا اليوم هو يوم عرسي". فقالت أمه: "وهل تظن أني آسفة عليك يا محمد؟ لا يا ولدي، وأي شيء أشرف من هذه الميتة؟ ومن تكن مثلي لها ولد يقف مثل هذا الموقف هل تتأسف؟ وهل تحزن؟ لا، وغنّت له على طريقة أهل الخليل:
السجن لك قفص من الذهب
والقيد لك خلخال
وحبل المشنقة كردانك
يا زينة الرجال".
عطا أحمد الزير (1865-1930)
كعادة أهل مدينة الخليل الفلسطينية في الأعراس، طلب الزير من أقربائه أن يأتوه بـ"الحنّاء"، إذ عدّ أن يوم إعدامه هو يوم عرسه، وقد نُقِل عنه خلال حديثه مع شقيقاته خلال زيارتهن الأخيرة له في سجن عكا، قوله: "لا تظنن أني ميت، أنا حي فلا تبكين علي، أتأسفن علي؟ لست جباناً لأخشى الموت، لا يخاف الموت سوى الجبناء، الأنذال، وضعيفي الإيمان بالله والآخرة".
من رسالة شهداء "الثلاثاء الحمراء: "ختاماً نرجوكم أن تكتبوا على قبورنا 'إلى الأمة العربية، الاستقلال التام أو الموت الزؤام، وباسم العرب نحيا وباسم العرب نموت'"
وينحدر الشهيد الزير من مدينة الخليل، وهو فلاح بسيط، عُرَف بقوته الجسمانية وجرأته، وكان مشاركاً بارزاً في معظم المظاهرات ضمن مدينته التي انطلقت تنديداً بهجرة الصهاينة إلى فلسطين، وقد اعتقلته قوات الانتداب البريطاني على خلفية مقتل أكثر من ستين صهيونياً، وجرح خمسين آخرين خلال انتفاضة "البراق" في مدينة الخليل وحدها.
الوصية الأخيرة
تحتفظ السجلات والوثائق التاريخية برسالة موقّعة باسم شهداء "الثلاثاء الحمراء"، وقد تركوها أمانةً عند رجل يُدعى سليم بك عبد الرحمن، ويُعتقَد أنه كان سجيناً في سجن عكا آنذاك أيضاً، ليقوم بنشرها وإيصالها إلى الأمة العربية بعد وفاتهم. اتخذت الرسالة طابع الوصية، وهذا بعضٌ مما جاء فيها:
"... رجاؤنا إلى الأمة العربية في فلسطين أن لا تنسى دماءنا المهراقة وأرواحنا التي سترفرف في سماء هذه البلاد المحبوبة، وأن تذكر أننا قدّمنا عن طيب خاطر أنفسنا وجماجمنا لتكون أساساً لبناء استقلال أمتنا وحريتها، وأن تبقى الأمة مثابرةً على اتحادها وجهادها في سبيل خلاص فلسطين من الاعتداء، وأن تحتفظ بأراضيها فلا تبيع للأخصام منها شبراً، وأن لا تهون عزيمتها، وأن لا يضعفها التهديد والوعيد، وأن تكافح حتى تنال الظفر، ولنا في آخر ساعات حياتنا رجاء إلى أمراء وملوك العرب والمسلمين في سائر أنحاء المعمورة، بأن لا يثقوا بالأجانب ولا سياسييهم، وليعلموا ما قال الشاعر بهذا المعنى: ويروغ منك كما يروغ الثعلب".
واختتموا رسالتهم بالقول: "الآن بعد أن رأينا من أمتنا وبلادنا وبني قومنا هذه الروح الوطنية وهذه الحماسة القومية، فإننا نستقبل الموت بالسرور والفرح الكاملين ونضع حبلة المرجوحة، مرجوحة الأبطال، بأعناقنا عن طيب خاطر فداء لك يا فلسطين. وختاماً نرجوكم أن تكتبوا على قبورنا 'إلى الأمة العربية، الاستقلال التام أو الموت الزؤام، وباسم العرب نحيا وباسم العرب نموت'".
لم يمت ذكر شهداء يوم الثلاثاء، أقلّه في ذاكرة جيل لا يبدو أنه نسي، ولكن ما تزال كلماتهم الأخيرة التي خاطبوا بها الأمة العربية جمعاء دَيناً لم يوفَ. فهل يتحقق وقد مضت أكثر من تسعين سنةً على استشهادهم؟
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومينفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومينعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ يومينعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع