لم يعش الشاعر الفلسطيني نوح إبراهيم في زمننا الحديث، فلم يقف المعجبون والمعجبات على أبواب المعارض في انتظار توقيعه، ولم تعرض أمسياته الشعرية –الشعبية- على شاشات التلفاز، ولم يمتلك رفاهية أن يجلس على بحر حيفا وهو في سن الخمسين ليكتب قصيدةً لحبيبته المتخيّلة. جاء مبكراً مثل غيمة صغيرة في بدايات القرن الماضي عام 1913، ورحل قبل أن تمطر غيمته نقطة ماء واحدة في ظلال الثلاثين من العمر. كتب عن فلسطين بصفتها الأمّ والحبيبة المتخيّلة وهو ما يزال في ريعان شبابه فمنع البريطانيون قصائده ولكنّهم لم يستطيعوا منع ألسنة النساء اللواتي رددن كلماته في المناسبات. حارب الاستعمار بقلمه وسلاحه، رغبةً في الحرية التي لم ينلها لا هو ولا بلاده، ليرحل سنة 1938 بغارةِ شنتها طائرة بريطانية، تاركاً وراءه إرثاً لم يستطع أي من الباحثين أو الكتّاب أن يشملوه لأسباب كثيرة، أهمها احتلالان لم يتخل أيٌّ منهما عن طمس الهوية الفلسطينية الثقافية.
"وحيفا من هنا بدأت"
لم تكن حياة نوح إبراهيم مرفّهة أو باذخة على غرار الكثير من نخب فلسطين الثقافية في بدايات تسعينيات القرن الماضي، بل عاش وأسرته على القليل، لا سيما بعدما قتِل والده وهو ما يزال طفلاً. ومع انتهائه من دراسة الصّف السادس، انتقل للدراسة في مدرسة دار الأيتام بالقدس، فتعلّم تجليد الكتب وغيرها من أمور الطباعة، وقد ساهم عمله هذا في افتتانه بالكلمات وجماليتها، وفتح آفاقه - في ظل صداقته لمرتادي النوادي والنقابات- ليمضى قدماً في تأليف شعر الزّجل المعروف في فلسطين، فارتجل بالعامية الفلسطينية مشاهد من الحياة الاجتماعية اليومية، وقد كتب إبراهيم بنمطين من الزّجل وهما المحاورة والرباعية، ولم يذكر عنه الكتابة بأشكال أخرى. ولعلّ قصائده "محاورة العربي والصهيوني" و "محاورة العراقي والفلسطيني" و "محاورة العربي والإنجليزي" تمثيل واضح على طريقته المميزة في شعر المحاورة.
استطاع نوح إبراهيم أن يكتب أشعاراً تلفت الانتباه بالاعتماد على طريقته، فقد نقل من خلالها أفكاره بطريقة شعبيّة قريبة من النّاس، ما جعله شاعراً معروفاً في ذلك الوقت، وقد قام بتقديم شعره في العديد من الأماكن، منها "قهوة الشهداء" سنة 1936، ويظهر هذا من أفيش الأمسية المنتشر على الإنترنت.
التلميذ شاعر والأستاذ مقاوم
بعدما أنهى نوح إبراهيم تعليمه في مدينة القدس، عاد إلى حيفا ليبدأ حياته العملية في الحياة المجتمعية، فقد انخرط منذ ذلك الحين في النضال ضدّ المستعمر البريطاني والوجود الصهيوني على أرض فلسطين. كما أنه انضم لحركة عز الدين القسام فعرف منذ ذلك الحين بلقب "تلميذ القسام"، ما يدلل على دوره البارز والمهم في المشهد الفلسطيني في ذلك الوقت، ويمكن الاستدلال على ذلك أيضاً من خلال ثورة عام 1936، إذ اعتقله الاستعمار البريطاني أكثر من مرة، وحبسه خمسة أشهر في سجني عكا والمزرعة خلال العام 1937.
ومع حب نوح إبراهيم لعز الدين القسام وإدراكه لما قام به من فعل مقاوم، دوّن نبذة عنه في كتابه "مجموعة قصائد فلسطين المجاهدة" قال في مقطع منها: "أعلن عن الجهاد الديني لانقاذ فلسطين وجرت بينه وبين السلطة الإنجليزية معركة حامية الوطيس، وانتهت باستشهاده مع ثلاثة من رفاقه الأبطال وذلك في موقع (الشيخ زيد) بقضاء جنين، ودفن بموكب حافل مشت فيه الألوف من جميع الأنحاء، وكان استشهاده ورفاقه حجراً أساسياً في طريق الحرية، ومبعث الشرارة الأولى التي لمعت فأوقدت ثورة فلسطين الكبرى".
القصائد عندما تمنع تطير
سجّل الشاعر نوح إبراهيم إسطوانات شعبية من كلماته لاقت شهرة واسعة في أنحاء فلسطين وبيعت في مختلف المناطق، منها أسطوانة "اللجنة الملكية" وأسطوانة "تحية الاتحاد الإسلامي المسيحي"، وقد شجّعه هذا على طباعة مجموعة تحتوي على قصائده الشعبية والوطنية، وقد استطاع من خلال هذه القصائد أن يدوّن الكثير من الأحداث التي وقعت في فلسطين خلال ثلاثينيات القرن الماضي، كما أنها احتوت على نبذة عن سير العديد من المقاومين في ذلك الوقت، كان منهم "عبد القادر الجزائري" و "عز الدين القسام"، بالإضافة لتوجيهه رسائل عديدة من خلال كلمات كان محرّكها الأوّل هو الحب لفلسطين.
الأثر الذي خلقه نوح إبراهيم في الشارع الفلسطيني، كان سبباً رئيسياً في منع تداول قصائده في بدايات العام 1938، إذ حظر الإنجليز أسطواناته سواء سماعها أو تداولها، بعدما تسبب انتشار أغانيه في الوطن العربي في قلقهم، في دلالة واضحة على قوّة كلماته التي جمعت بين الروح الوطنية والشاعريّة الشّعبية البسيطة، ولكنّ هذا المنع لم يقف حاجزاً أمام قصائد نوح إبراهيم التي كانت تمتلك أجنحة وتسببت في شهرته شهرةً واسعة.
القليل من القصائد والأغاني... الكثير من الكلمات
نشر نوح إبراهيم مجموعتين شعريتين، الأولى بعنوان: "مجموعة فلسطين الشهيدة"، والثانية "مجموعة قصائد فلسطين المجاهدة"، وقد حصلت قصائد المجموعتين على شهرة واسعة، لا سيما الثانية التي طبعتها مطبعة الاعتدال في دمشق فيما بعد، والتي "تحتوي على القصائد والأناشيد الشعبية الحماسية والأزجال الاجتماعية وفيها كل ما يسلي ويذكر عن قضية فلسطين"، ولعلّ أبرز ما جاء في هذه المجموعة، قصيدتين:
الأولى: "محاورة العربي والصهيوني"، التي كتب عنها نوح إبراهيم قائلاً: "ظهرت هذه الأسطوانة وراجت في فلسطين والأقطار العربية رواجاً غريباً، وقامت قيامة الصهيونيين لها حيث احتجوا عليها رسمياً! وحاولت السلطة مصادرتها فلم تفلح، وكنت يومئذ أذيع قصائدي الاجتماعية في إذاعة فلسطين فأخرجتني السلطات العليا انتقاماً مني، ولم تكتفِ بذلك بل زجتني في السجن إرضاءً لشعب الله المختار!؟ فأهدتني بذلك (وسام شرف). وقد مكثت في السجن خمسة شهور برفقة ما ينوف على 200 من الشباب الوطنيين المخلصين، إلى أن قررنا الإضراب عن الطعام وبقينا 6 أيام و 7 ساعات بدون أكل وشرب حتى أشرفنا على الخطر وعندها أضربت عكا وحيفا وثار الرأي العام فأذعنت السلطة وأخرجتنا بكفالات وضمانات وإثبات وجود (يعني قلع بند) ويعلم الله أن السجن والعذاب والألم زادت في إيماننا وعقيدتنا لأنّ (الاستقلال يؤخذ ولا يعطى)".
الثانية: "القائد دل"، وقد لاقت هذه القصيدة رواجاً كما لم تلق غيرها، كما أنّه عند التمعّن فيها يمكن إدراك أهميّة شعر الزّجل الذي يشبه الصّرخة التي لا تتوقف، والتي يستطيع جميع الأفراد داخل المجتمع أن يفهموها ويشعروا بها، ولعلّ الدليل الأبرز على ذلك هو المكانة التي حققتها بعد انتشارها صوتاً، خصوصاً أنها بمثابة التأكيد على عدم تنازل الفلسطينيين عن حقوقهم المتمثلة في الاستقلال، وقد كانت هذه كلمات إبراهيم بمثابة الرسالة للجنرال الإنجليزي ديل، ويقول شاعرنا في مقطع منها:
"إن كنت عاوز يا جنرال بالقوة تغير هالحال
لازم تعتقد أكيد طلبك صعب من المحال
لكن خدها بالحكمة واعطينا الثمن يا خال
ونفذ شروط الأمة من حرية واستقلال
ودبرها يا مستر دل يمكن على يدك بتحل".
مشحر يا جوز الثنتين
في ضوء اهتمام نوح إبراهيم في نقل وتدوين جميع جوانب الحياة الاجتماعية والسياسية في فلسطين، تظهر أغنيته "مشحر يا جوز التنتين" التي تتحدث عن معاناة شخص انقلبت حياته بعد الزواج من امرأة ثانية، في قالب قصصي شعبي، وبحسّ أقرب إلى الفكاهة مِنه إلى الجد، وهنا تكمن مهارة إبراهيم على الدّوام في إيصال رسائل متعددة بلغة سهلة تكاد تكون مضحكة ولكنّ المتأمّل فيها ربما يجد العكس تماماً. ما زالت هذه الأغنية تسمع إلى يومنا هذا، ولها مكانة مميزة في قلوب محبّي التراث الفلسطيني الغنائي خصوصاً.
"الله يخزي هالشيطان"
يحاكي نوح إبراهيم من خلال هذه الأغنية/القصيدة قصة ذاتية للرجل الذي قبض معاشه فأغواه الشّيطان للذهاب إلى الكازينو، وقد فعلها ليجد نفسه داخل دوّامة تستنزف أمواله وعقله، وقد استطاع إبراهيم أن يسلّط الضوء عبر هذه الأغنية على جانب اجتماعي مختلف في فلسطين تقلّص بشكل ملحوظ بعد النّكبة ودخول الأجيال الفلسطينية في سلسلة متّصلة من التهجير والحزن واليأس، ونرى أيضاً في هذه الأغنية حسّ الفكاهة الجدّي ذاته الذي يعتاده كلّ من يتعرّف على كلمات شاعرنا، وقد ساهم هذا على الدّوام في توسيع مدلولات الكلمات وآفاقها.
من سجن عكا طلعت جنازة
على الرّغم من ربط اسمه بكلمات أغنية "من سجن عكا طلعت جنازة" التي تتحدث عن ثلاثة من شهداء ثورة البراق "فؤاد حجازي ومحمد جمجوم وعطا الزير"، والتي اشتهرت بصوت فرقة العاشقين، ليس هناك دليل حقيقي على أنّه صاحب هذه الأغنية، حتى أنّ بعض الباحثين نفوا أن يكون هو صاحبها. ولكنّ هذا لم يمنع ارتباطه بها في ذاكرة الكثير ممن سمعوا الأغنية وتأثّروا بها تأثراً حقيقياً، فهي بمثابة الهزيمة التي تشبه الانتصار على الاستعمار البريطاني، وبما أنّ نوح إبراهيم كان بارعاً في الرّثاء الشعبي فكان من اللائق في وجدان الكثيرين أن ترتبط الأغنية به وهذا ما يحدث دائماً.
محاولة مجاراة سيل الاحتلال الذي جرف كلّ شيء
المسافة الزمنية الطويلة والظروف الاجتماعية والسياسية، لطالما كانت عائقاً أمام كلّ من رغب في تدوين سيرة الشّاعر نوح إبراهيم، لا سيما مع ملاحقة الاستعمار البريطاني للأوراق والقصائد إدراكاً لأهمّيتها وتأثيرها في الشارع الفلسطيني في ذلك الوقت، فقد تسبب هذا في معاناة الباحثين من صعوبات جمّة في جمع سيرته، واعتمادهم في أغلب الأحيان على الروايات الشفهيّة ممن عاصروه وسمعوه من كبار السّن، ولعل أبرز الباحثين كان الكاتب والمؤلف الفلسطيني خالد عوض الذي قدّم سنة 1995 كتاباً عنه بعنوان: "نوح ابراهيم الشاعر الشعبي لثورة 1936-1939" وقد كشف فيه عن معلومات تنشر للمرة الأولى حول نوح إبراهيم. كما قدّم المؤلّف نمر حجاب كتاباً عنه بعنوان: "الشاعر الشعبي الشهيد نوح إبراهيم" في عام 2006 عبر دار اليازوري في عمان، وقد اعتمد الكتاب أيضاً على المقابلات مع معارفه ومن عايشوه وعلى بعض المعلومات القليلة التي تحدّثت عنه في كتابات المؤلفين الفلسطينيين.
يختتم نوح إبراهيم كتابه "مجموعة قصائد فلسطين المجاهدة" بكلمات وضعت تحت عنوان: كلمتي الأخيرة، وكأنّ هذه الأشعار كانت بالفعل كلمة أخيرة، تشبه اليد التي تستمر في التّلويح رغم غرق صاحبها في الموت.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 23 ساعةمتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ يومينعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع