يقول ثيودور هيرتزل، في كتابه "الدولة اليهودية" (1896): "إذا ما أردنا أن نؤسس دولة اليوم، فسيتعيّن علينا ألا نقيمها بما كان متاحاً من أساليب قبل ألف عام. لا يجدر بنا أن نقوم بتلك المهمة على غرار أوروبيي القرن الخامس، إذ لا يجدر بنا الإمساك بالرماح والحراب، وأن نخرج فرادى لمطاردة الدببة. بل أن ننظم حفلة صيد كبيرةً وناشطةً، وأن نحشر الحيوانات، ثم نلقي عليها قنبلةً".
وهذا عين ما تفعله إسرائيل اليوم، من إبادة جماعية في حق الشعب الفلسطيني، سيراً على هدي زعيمها، الأوغناستي، هيرتزل. وسط صمت من قِبل الحكومات الغربية والعربية، وأكاذيب المنصات الأوروبية الذي فلقت يافوخنا بشعارات الإنسانية والمساواة.
ووسط شيوع معاداة الفلسطينية Anti-Palestinianism، وتزوير المصطلحات وتلفيق الأكاذيب، خرج نتنياهو، رئيس الوزراء الإسرائيلي، في 25 تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، ليُضفي على جريمته في حق الإنسانية، شرعيةً دينيةً، قائلاً في خطابه: "سنحقق نبوءة إشعياء؛ لن تسمع بعد، خراباً في أرضك، سنمنح المجد لشعبك، سنقاتل معاً وسننتصر. نحن أبناء النور وهم أبناء الظلام، وسيهزم النورُ الظلام"!
تلك الفقرة الحالمة من سِفر إشعياء (60:18): "لاَ يُسْمَعُ بَعْدُ ظُلْمٌ فِي أَرْضِكِ، وَلاَ خَرَابٌ أَوْ سَحْقٌ فِي تُخُومِكِ، بَلْ تُسَمِّينَ أَسْوَارَكِ: خَلاَصاً، وَأَبْوَابَكِ: تَسْبِيحاً"؛ أصبحت منذ زمن لازمةً في الأدبيات الصهيونية، ولنفهم تلك الفقرة علينا العودة بالأسطورة قليلاً.
نبيّ برتبة شاعر
حسب المخيلة اليهودية؛ إشعياء (766ق.م-686 ق.م)، أحد أهم أنبياء بني إسرائيل، في الفترة ما قبل السبي البابلي. فبموت الملك سليمان وتولّي ابنه رحبعام الحكم، انقسمت مملكة داوود على نفسها قسمين؛ الأول، في الشمال، مملكة إسرائيل، وهي مكوّنة من عشرة أسباط. أما الثاني ففي الجنوب، حيث سبطا بنيامين ويهوذا، وكانت الأخيرة شاهدة على صعود نجم إشعياء الذي عاصر أربعةً من ملوكها؛ عزيا ويوثام وآحاز وحزقيا.
تلك الفقرة الحالمة من سِفر إشعياء (60:18): "لاَ يُسْمَعُ بَعْدُ ظُلْمٌ فِي أَرْضِكِ، وَلاَ خَرَابٌ أَوْ سَحْقٌ فِي تُخُومِكِ، بَلْ تُسَمِّينَ أَسْوَارَكِ: خَلاَصاً، وَأَبْوَابَكِ: تَسْبِيحاً"؛ أصبحت منذ زمن لازمةً في الأدبيات الصهيونية، ولنفهم تلك الفقرة علينا العودة بالأسطورة قليلاً
وبالنظر إلى سيرة الرجل كما وردت في كتاب "قاموس الكتاب المقدس"، يلاحَظ أن إشعياء، الذي عاش حتى جاوز الثمانين، قضى ستين منها متنبئاً؛ فحظيَّ بمكانة مرموقة عند النخبة الحاكمة، بل وصل به الأمر إلى التأثير على صناعة القرار، فقد كان يلعب دور راسبوتين في يهوذا؛ إذ ربح ثقة الملوك والشعب بتنبؤاته، التي دائماً ما كانت تُصيب، وبرغم أن الملك آحاز، رفض قبول تعاليمه، إلا أن الملك حزقيا ابن آحاز كان متأثراً به، بل كاد أن يكون أحد تلامذته، أو كان، خاصةً بعدما تنبأ له إشعياء بشفائه من المرض، وبفكّ حصار آشور على مدن يهوذا.
كان إشعياء سياسياً شرساً ومعارضاً لبعض سياسات المملكة، دون أن يعبأ بردة فعل الملك؛ حيث عارض أي تحالف قد يحدث مع المصريين (نظراً إلى الضغينة التي يحملها بنو إسرائيل تجاه مصر منذ فرار موسى وأتباعه منها في الأسطورة اليهودية). وليُعبّر عن معارضته تلك، سار في الشوارع حافيَّ القدمين، لا يرتدي سوى ما يُداري عورته. بجانب مواقف أُخرى جعلت منه أحد صُنّاع القرار في البلاط الملكي، وإن كان غير ذي سلطة.
أما عن نبوءاته، فلا يُعرف على وجه التحديد متى وكيف سُجّلت؛ فبعض المصادر ترى أنه كتبها بنفسه، وأُخرى ترى أن تلامذته هم من صاغوها، خاصةً بعد مقتله على يد الوثنيين، في عهد الملك منسي، كما هو مذكور في سفر "صعود إشعياء"، والذي يُعدّ من ضمن أسفار الأبوكريفا، غير القانونية.
حسب موقع "عيلة مار شربل"، يُعدّ سِفر إشعياء، أو كتاب إشعياء، أحد أهم أسفار العهد القديم، أو التناخ عند اليهود، فهو يتكون من 66 فصلاً، كُتب على مدار 200 عام، ويتناول ثلاثة محاور؛ الأول، تقديم نقد لاذع ليهود زمانه. الثاني، التنبؤ بسقوط إسرائيل وسبي اليهود على يد البابليين. الثالث قيام إسرائيل من جديد ولمّ الشتات بمجيء المُخلّص.
في كتابه "العهد القديم بين اللاهوت والتاريخ"، يستعرض عالم اللاهوت نيلس بيتر، تحليلاً لكتابة تلك النبوءات، فيرى أن مُعظمها كُتب بعد السبي البابلي، وأن الأغلب العام منها ربما كُتب بعد السبي الفارسي، أي على يد إسدراس أو عِزرا، الذي صاغ الديانة اليهودية الحالية، والتي اقتبست غالبية أحداثها وشرائعها من الحضارتين الفارسية والبابلية.
"وينقضان على أكتاف الفلسطينيين"
اللافت أنه لم يعد هناك مجال للشك في أسطورية مملكة داوود، كونها ابنة المُخيّلة والنفسية اليهوديتين المتتابعتين عبر السنين؛ فكل المصادر الأركيولوجية والأنثروبولوجية، تنفي وجود أي مملكة يهودية في منطقة فلسطين والشام كلها، كما يذكر فراس السواح، نقلاً عن الباحث الإسرائيلي إسرائيل فينكلشتاين، الذي قال: "إنه ليصعب على روحي الرومانسية أن تقبل بهذه الوقائع، أرجو من الملك سليمان أن يُسامحني، عذراً فلم أجدك".
يقول نتنياهو: "سنحقق نبوءة إشعياء؛ لن تسمع بعد، خراباً في أرضك، سنمنح المجد لشعبك، سنقاتل معاً وسننتصر. نحن أبناء النور وهم أبناء الظلام، وسيهزم النورُ الظلام"!
وفي مجلة "جيروساليم ريبورت" الإسرائيلية، نشر فينكلشتاين بتاريخ 8\5\2011 التالي: "إن علماء الآثار لم يعثروا على شواهد تاريخية أو أثرية تدعم بعض القصص الواردة في التوراة، بما في ذلك قصص الخروج والتيه في سيناء، وانتصار يوشع بن نون على الكنعانيين"، وهو يشير بذلك إلى أن لا صلة لليهود بفلسطين.
فالوجود التاريخي لتلك الشخصيات يبدو محكوماً عليه بالخيال، فما بالك بالأحداث والوقائع والممالك المتوهمة؟ ولكن برغم ذلك، لا تزال تلك الأساطير تستحوذ على الأدب الصهيوني، كما يسعى البعض إلى اجتزاء تلك القصص من إطارها الزماني والمكاني، وإسقاطها على أرض الواقع.
فمثلاً، هناك العديد من النبوءات المذكورة في سِفر إشعياء عن مصير مصر وفلسطين، يتعرض لتفسيرها أحد المواقع المهتمة بالإرهاصات الدينية: "فيزول حسد إفرايم وينقرض المضايقون من يهوذا، إفرايم لا يحسد يهوذا، ويهوذا لا يضايق إفرايم"، ويُفسَّر النص كإشارة إلى لمّ الشتات اليهودي، والذي حدث عام 1948، إبان إعلان قيام دولة إسرائيل. أما في الفقرة التالية فيذكر: "وينقضان على أكتاف الفلسطينيين غرباً وينهبون بني المشرق معاً يكون على أدوم وموآب امتداد يدهما وبنو عمون في طاعتهما". وتشير هذه الفقرة إلى ما حصل عام 1967، حيث وصلت الحدود الإسرائيلية الناشئة إلى الجولان شرقاً وسيناء غرباً.
وذلك التفسير الأخير هو المُحبب لدى الصحافي روندي هال، في مقاله "انتصار حرب الأيام الستة لإسرائيل... تحقيق في النبوءات"، إذ يقول: "إن النجاح الذي حققته إسرائيل في أعقاب حرب الأيام الستة، يعطينا إشارةً إلى أننا قد نقترب من وقت عودة المسيح. حيث تشير النبوءات الواردة في أسفار يوئيل وزكريا، وفي أماكن أخرى من الكتاب المقدس، إلى وجودٍ يهودي منظّم في أورشليم قبل مجيء المسيح الثاني".
وفي نهاية المقال، يختتم هال بنبوءة إشعياء: "وَتَسِيرُ شُعُوبٌ كَثِيرَةٌ، وَيَقُولُونَ: 'هَلُمَّ نَصْعَدْ إِلَى جَبَلِ الرَّبِّ، إِلَى بَيْتِ إِلهِ يَعْقُوبَ، فَيُعَلِّمَنَا مِنْ طُرُقِهِ وَنَسْلُكَ فِي سُبُلِهِ'. لأَنَّهُ مِنْ صِهْيَوْنَ تَخْرُجُ الشَّرِيعَةُ، وَمِنْ أُورُشَلِيمَ كَلِمَةُ الرَّبِّ. فَيَقْضِي بَيْنَ الأُمَمِ وَيُنْصِفُ لِشُعُوبٍ كَثِيرِينَ، فَيَطْبَعُونَ سُيُوفَهُمْ سِكَكًا وَرِمَاحَهُمْ مَنَاجِلَ. لاَ تَرْفَعُ أُمّةٌ عَلَى أُمَّةٍ سَيْفًا، وَلاَ يَتَعَلَّمُونَ الْحَرْبَ فِي مَا بَعْدُ. يَا بَيْتَ يَعْقُوبَ، هَلُمَّ فَنَسْلُك فِي نُورِ الرَّبِّ". ويُخاطب السيد المسيح بأن عليه التدخل للقضاء على الشر الدائم في العالم وتسييد الأمان والسلام!
وذلك التفسير المُجزأ للنص، لا يقف عند هذا الحد، بل يتعدى إلى ما يخدم المصالح الصهيونية، فبحسب روجيه غارودي، في كتابه "ملف إسرائيل: دراسة للصهيونية السياسية"، فإن "قادة الصهيونية لا يختارون اليوم من مأثورات اليهودية إلا ما يُبرر سياستهم؛ مثل رواية المذابح التي ارتكبها يوشع ضد الكنعانيين؛ فهي في نظرهم ذريعة لقتل عرب فلسطين ولبنان. أما اللعنات التي صبّها أرميا وميخا، فإنهم يتناسونها ولا يذكرون سوى أحكام عِزرا (أسدراس) في التمييز العُنصري ضد الميساوية العالمية الداعية إلى المساواة بين الناس، والتي نادى بها حزقيال وإشعياء مُبشّرين بالخلاص على يد المسيح المُنتظر".
وبتعبير آخر لغارودي: "إذاً فأعظم نجاح للصهيونية هو أنها تجردت من اليهودية".
"فَيَسُودُ مَلِكٌ عَنِيفٌ عَلَيْهِم"
ولعل تلك القراءة الانتقائية دفعت قادة إسرائيل إلى التحرش بالدولة المصرية في أكثر من مناسبة، برغم اتفاقية بين الحكومتين، منذ عام 1978؛ فلمصر نصيب الأسد من الخراب الذي سينزل على أعداء بني إسرائيل، حسب ما ورد في سِفر إشعياء، إذ تطفو لذة الانتقام على سطور النبوءة بين الفينة والأُخرى؛ "هَا هُوَ الرَّبُّ قَادِمٌ إِلَى مِصْرَ يَرْكَبُ سَحَابَةً سَرِيعَةً، فَتَرْتَجِفُ أَوْثَانُ مِصْرَ فِي حَضْرَتِهِ، وَتَذُوبُ قُلُوبُ الْمِصْرِيِّينَ فِي دَاخِلِهِمْ، وَأُثِيرُ مِصْرِيِّينَ عَلَى مِصْرِيِّينَ فَيَتَحَارَبُونَ، وَيَقُومُ الْوَاحِدُ عَلَى أَخِيهِ، وَالْمَدِينَةُ عَلَى الْمَدِينَةِ وَالْمَمْلَكَةُ عَلَى الْمَمْلَكَةِ، فَتَذُوبُ أَرْوَاحُ الْمِصْرِيِّينَ فِي دَاخِلِهِمْ، وَأُبْطِلُ مَشُورَتَهُمْ، فَيَسْأَلُونَ الأَوْثَانَ وَالسَّحَرَةَ وَأَصْحَابَ التَّوَابِعِ وَالْعَرَّافِينَ، وَأُسَلِّطُ عَلَى الْمِصْرِيِّينَ مَوْلى قَاسياً، فَيَسُودُ مَلِكٌ عَنِيفٌ عَلَيْهِم. هَذَا مَا يَقُولُهُ الرَّبُّ الْقَدِيرُ، وَتَنْضُبُ مِيَاهُ النِّيلِ وَتَجِفُّ الأَحْوَاضُ وَتَيْبَسُ".
لنفترض صحة الرواية اليهودية للتاريخ، ابتداءً من سام وحام إلى داوود وسليمان وإشعياء، فلماذا يحاول بعض المتشددين، أمثال نتنياهو، انتزاع النص من سياقه التاريخي وإسقاطه على الوضع الراهن؟
ولنفترض صحة الرواية اليهودية للتاريخ، ابتداءً من سام وحام إلى داوود وسليمان وإشعياء، فلماذا يحاول بعض المتشددين، أمثال نتنياهو، انتزاع النص من سياقه التاريخي وإسقاطه على الوضع الراهن؟ إذ شهدت الحدود المصرية العديد من الاعتداءات على يدَيْ الكيان الصهيوني، والتي تُعدّ بمثابة اختراق لمعاهدات السلام، مثلما حدث مؤخراً من قصف الطيران الإسرائيلي لمعبر رفح ثلاث مرات (بغير قصد!)، وقبلها في عام 2011؛ حيث قُتل خمسة جنود مصريين برصاص إسرائيلي، وأُصيب في عام 2009 جنديان مصريان على يد الاحتلال، وفي 2006 قُتل ضابطان على الحدود المصرية بشظايا إسرائيلية، وفي 2004 دُكّت الحدود المصرية بقذيفة إسرائيلية.
وبطبيعة الحال كان الصمت هو الرد الأظهر من الجانب المصري، أو الشجب، ولكن، هل تحاول إسرائيل استدراج مصر إلى حرب أُخرى؟ وهل تحاول تحقيق الوعد والعهد والقسم الإرثي بتوسع حدودها: "من النهر الكبير، الفرات، إلى نهر مصر" (تكوين 18:15)؟
في صحيفة "يديعوت أحرونوت"، علّق رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق، إيهود باراك، على الذكرى الـ74 لقيام الكيان بالقول: "في تاريخ الشعب اليهودي لم تستمر دولة يهودية لأكثر من 80 عاماً إلا في فترتين، وفي كلتا الفترتين كانت بداية تفككها في العقد الثامن، وتنتهي الدولة الصهيونية الحالية في العقد الثامن".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ 3 ساعات??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 23 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون