يبحث الإنسان عادةً عن طرق مختلفة كخطة للترفيه أو الاسترخاء، في ظل الظروف الصعبة والفوضوية للحياة اليومية، وإذا أردنا أن نتوسع في هذه المسألة، أو ندرسها في مجتمع يعاني من أزمات اجتماعية وسياسية واقتصادية مختلفة، سنجد أن الناس يعتمدون الترفيه الجماعي أكثر من الفردي من أجل الاستمتاع بالحياة.
الشعب الإيراني الذي لطالما عاش ظروفاً متقلبةً، خلال القرن الماضي، وسط تضييق السلطات المشدد على وسائل الترفيه الجماعية أو الاجتماعية، لم يجد سبيلاً إلى الترفيه غير مشاهدة الأفلام والأعمال السينمائية، واستناداً إلى هذه الحالة، يمكننا الرجوع إلى إحصائيات مبيعات الأفلام الإيرانية التي حققت أرقاماً قياسيةً.
ترتبط الأعمال السينمائية الأكثر مبيعاً للسينما الإيرانية، باللحظات الحرجة في تاريخ هذا البلد، حيث تُظهر الإحصائيات أن أفراد الشعب الإيراني، مثل العديد من الشعوب الغربية في العالم الأول، لا يذهبون إلى السينما لمجرد قضاء الوقت، ولكنهم يعدّون السينما، الملجأ الجماعي الوحيد لهم في المواقف الصعبة والأزمات.
في ما يلي نستعرض الأفلام الأكثر مبيعاً في تاريخ السينما الإيرانية، والإطار الزمني لإصدارها (إحصاءات المبيعات الواردة في هذه المادة، تتعلق فقط بالسنة الأولى من إصدار الأفلام):
"النسور"
في ثمانينيات القرن المنصرم، وتحديداً إبان الحرب الإيرانية العراقية، التي استمرت ثماني سنوات، اتجه العديد من صانعي الأفلام الإيرانيين، إلى إنتاج الأفلام الحربية. ومن أوائل هذه الأفلام التي تم إنتاجها في تلك الفترة، فيلم "النسور" (عقابها) من إخراج سامويل خاتشيكيان. قصة هذا الفيلم مستوحاة من أحداث حقيقية. يتعرض بطل الفيلم يد الله شريف راد، وهو طيار في الجيش الإيراني، لهجوم بعد انتهاء مهمته في الأراضي العراقية، فيضطر إلى الهبوط في إقليم كردستان العراق.
تُظهر الإحصائيات أن أفراد الشعب الإيراني، مثل العديد من الشعوب الغربية في العالم الأول، لا يذهبون إلى السينما لمجرد قضاء الوقت، ولكنهم يعدّون السينما، الملجأ الجماعي الوحيد لهم في المواقف الصعبة والأزمات
لا يزال هذا الفيلم، هو الأكثر شعبيةً في إيران، حسب عدد المشاهدات، التي بلغت أكثر من عشرة ملايين مشاهدة بعد سنوات من إصداره. وفي السنة الأولى من إصداره، أي عام 1985، تم استقطاب ما يقارب 8% من سكان إيران الذين كان يبلغ عددهم وقتها نحو 43 مليون نسمة، إلى دور السينما، بالرغم من قلة عدد دور السينما النشطة في البلاد خلال فترة الحرب.
وأثنى العديد من النقاد والمسؤولين في ذلك الوقت على نجاح "النسور"، عقب اهتمام الناس بمفهوم ما يُسمّى "الدفاع المقدّس" (الحرب اللإيرانية العراقية). بطل هذا العمل هو الممثل الإيراني سعيد راد، الذي كان أحد المشاهير في عهد الشاه، أي في السنوات التي سبقت الثورة الإسلامية في إيران (1979). وإثر ضغوط الإسلاميين المتشددين، مُنع من التمثيل بعد عرض هذا الفيلم، وغادر إيران إلى الأبد.
"دعني أعيش"
ارتفاع مبيعات فيلم درامي عائلي، بعد عام واحد من عرض فيلم "النسور"، نفى ادّعاءات المسؤولين الإيرانيين، بشأن ذوق الجمهور الإيراني، إذ حقق فيلم "دعني أعيش" (بگذار زندگی کنم)، وهو من بطولة نجوم جدد في السينما الإيرانية، ومن إخراج شابور قريب، وهو أحد المخرجين البارزين في فترة ما قبل الثورة، رقماً قياسياً جديداً في السينما الإيرانية، بجلبه ثلاثة ملايين وثلاثمئة وعشرين ألف مشاهد إلى دور السينما، عام 1987.
7% من الإيرانيين جاءوا لمشاهدة قصة رومانسية، تتناول حياةً زوجيةً تمزقت بسبب تدخلات أقارب الزوجين. الفيلم أظهر رغبة الشعب الإيراني في العيش بعيداً عن قصص الحروب والقتل.
انضمت بطلة هذا الفيلم، الممثلة أفسانه بايكان، إلى انتفاضة "المرأة، الحياة، الحرية" التي اندلعت العام الماضي، إثر مقتل الفتاة مهسا أميني، في أحد مراكز شرطة الحجاب في العاصمة الإيرانية طهران، وتنتظر الآن حكم المحكمة على موقفها هذا.
"المستأجرون"
بعد انتصار الثورة الإسلامية، وبقدر ما زاد إنتاج الأفلام الثورية، تراجع إنتاج الأفلام الكوميدية. لكن المخرج داريوش مهرجوئي، اتجه إلى الأفلام الكوميدية، وأخرج فيلمه الثاني بعد الثورة الإسلامية، إذ استقطب عرض الفيلم الدرامي والكوميدي "المستأجرون" عام 1986، أكثر من ثلاثة ملايين من سكان إيران، أي نحو 7% إلى دور السينما.
مهرجوئي، الذي كان أحد الناجين من حقبة السينما الإيرانية في عهد الشاه، صنع فيلم "البقرة" (گاو) الذي تم إنتاجه قبل الثورة، وبعد ذلك أنتج فيلم "المدرسة التي ذهبنا إليها" (مدرسهای که میرفتیم) عام 1980، وهو فيلم يعكس واقع المجتمع الإيراني آنذاك، حيث أنه مُنع من العرض لمدة عشر سنوات، ولكنه عُرض لاحقاً، بعد نسخة محررة ومقطعة منه.
أظهر فيلم "المستأجرون" (اجاره نشينها)، الحياة المشتركة للعديد من الجيران في عمارة واحدة، وهي ملك شخص متوفى، حيث لم يتفق ساكنوه على تقبل تكلفة ترميم وتجديد العمارة وتجديدها، إذ قدّم هذا المخرج صورةً عامةً عن الوضع الفوضوي الذي عاشته البلاد، من خلال التركيز على قضية السكن التي كانت من القضايا المهمة في إيران في ذلك الوقت.
وكان أبطال هذا العمل المحبوب، هم نادره خير آبادي وعزت الله انتظامي وأكبر عبدي وحسين سرشار، الذين سلموا من جرائم القتل والتهديدات التي كانت تطال المثقفين والممثلين بعد استقرار الثورة الإسلامية في تسعينيات القرن الماضي.
"العروس" و"مراسم الخطبة"
أواخر الثمانينيات وأوائل التسعينيات، تغيّر الوضع في إيران، وانتهت حرب الثماني سنوات مع العراق، وتوفي مؤسس الجمهورية الإسلامية الإيرانية روح الله الخميني، وأصبح علي خامنئي المرشد الأعلى، وأصبحت السلطة في أيدي "حزب كوادر البناء" برئاسة علي أكبر هاشمي رفسنجاني، الرئيس الإيراني آنذاك.
في تلك الأثناء، اندلعت انتفاضات شعبية بسبب التدهور الاقتصادي والأزمات السياسية، مثل انتفاضة مدينة مشهد الدينية في الشمال الشرقي للبلاد، وانتفاضة مدينة إسلام شهر في ضواحي العاصمة طهران، حيث قُمعت كالمعتاد، وعلى خلفية تلك الأحداث سمحت السلطات الرقابية بإنتاج الأفلام الرومانسية وعرضها، إذ أخذت منحى متزايداً بغية تنفّس الجمهور.
فيلم "العروس" (عروس) إنتاج عام 1990، من إخراج بهروز أفخمي، وبطولة الممثل أبو الفضل بورعرب والممثلة نيكي كريمي، وهما ممثلان شابان سطع نجمهما في هذا العمل.
يروي فيلم "العروس" قصة شهر العسل لزوجين شابين كانا من طبقتين اجتماعيتين مختلفتين، وشاهد هذا الفيلم نحو أربعة ملايين ونصف مليون شخص، أي ما يقارب 9% من عدد سكان إيران.
قبل عام من عرض فيلم "العروس"، استطاع المخرج مهدي فخيم زاده، أن يأتي بأربعة ملايين وثلاثمئة ألف مشاهد إلى دور السينما، أي 8.5% من نسبة سكان الشعب الإيراني، من خلال فيلم "مراسم الخطبة" (خواستگاری)، وقصته التي تحكي إعجاب رجل مسنّ بامرأتين، وقذ شارك في بطولة هذا الفيلم، ممثلون مشهورون من فترة ما قبل الثورة، كـ ثريا قاسمي وهادي إسلامي.
من "سارق الدمى" إلى "ذو القبعة الحمراء وابن الخالة"
من خلال إنتاج فيلم "سارق الدمى" (دُزد عروسکها)، صنع المخرج محمد رضا هنرمند، فيلماً هو الأكثر مبيعاً، استهدف فئة الأطفال والمراهقين في إيران. تحكي قصة الفيلم، عن أم ساحرة وابنها، يسرقان دميتَي طفلَين لسحب الأطفال إلى سرداب تحت الأرض، لكن الدمى والأطفال يتمردون عليهما. حصد هذا الفيلم ثلاثة ملايين وسبعمئة ألف مشاهدة، أي 7.5% من الإيرانيين/ات في ذلك الوقت.
كما يُعدّ فيلم "ذو القبعة الحمراء وابن الخالة"(کلاهقرمزی و پسرخاله)، الذي تم إنتاجه عام 1994، وهو من إخراج إيرج طهماسب، ثاني أكثر الأفلام مبيعاً في سينما الأطفال الإيرانية.
وكان أبو القبعة الحمراء، عبارةً عن دمية ذات عيون "مبحلقة"، وقبعة حمراء وقميص مخطط باللونين الأزرق والأبيض، يأتي إلى طهران مع ابن خالته، للحصول على فرصة اللقاء بمقدّم شهير لبرنامج تلفزيوني يختص الأطفال. حظي هذا الفيلم بأكثر من أربعة ملايين وثلاثمئة ألف مشاهد.
"رجل الثلج" و"الأحمر"
ومع وصول التيار الإصلاحي إلى سدة الحكم في إيران، وتحديداً الرئيس السابق محمد خاتمي، دخلت السينما الإيرانية مجالاً جديداً، وفيلم "رجل الثلج" (آدم برفی) للمخرج داود مير باقري الذي تم منعه منذ عام 1994، عُرض في العام الأول من عهد حكومة خاتمي عام 1997، وشاهده 4.5 ملايين شخص في دور السينما.
بطل فيلم "رجل الثلج"، هو الممثل الكوميدي الإيراني أكبر عبدي، الذي يحاول في الفيلم، الهجرة إلى أمريكا، لكن تبوء كل جهوده بالفشل، لذا يقرر أن يتنكر في زي امرأة، ليحصل على تأشيرة دخول إلى الولايات المتحدة الأمريكية، لكن ارتداءه ملابس نسائيةً كان السبب في منع عرض الفيلم في السينما، وهذه الفكرة نفسها كانت قد رفعت نسبة المشاهدة العالية التي قاربت نحو 7.5% من سكان إيران في تلك السنة بعد حصوله على إذن بالعرض.
وخلال فترة الحكم الإصلاحي، انفتح المجتمع الإيراني على الغرب، إذ تغيرت مظاهر الملابس ومعايير الحجاب، خاصةً عند الممثلات، كما تغيّر مفهوم العلاقة بين الرجل والمرأة بشكل ملحوظ، وذلك بعد عرض فيلم "الأحمر" (قرمز) للمخرج فريدون جيراني، وهو من إنتاج العام 1999، بطولة هديه تهراني، الذي أثر مظهرها في الفيلم في تحول الزي الشائع في المجتمع في ذلك الوقت، بارتدائها "بلوزةً" وسروالاً، وبتمردها على زوجها المصاب بجنون العظمة، الذي يلعب دوره محمد رضا فروتن، وهو ما زاد من شجاعة المرأة الإيرانية.
واصطف الإيرانيون/ات في طوابير طويلة على أبواب دور السينما لمشاهدة هذا الفيلم، في الشهر الأول من عرضه، وهو ما يُعدّ حدثاً غير مسبوق في تاريخ السينما الإيرانية حتى ذلك الوقت، وأكثر من ثلاثة ملايين شخص شاهدوه، يشكلون نسبة 5% من الشعب الإيراني، في تلك الفترة.
"المطرودون"
وعند عودة التيار الأصولي المتشدد إلى الحكم، في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، ضاقت ساحة النشاط السياسي في إيران، وتراجعت السينما الإيرانية أيضاً، والفيلم الوحيد الذي حقق أعلى الإيرادات في هذا العقد، بحسب إحصائيات السينما في ربيع عام 2009، كان الفيلم الكوميدي "المطرودون" (اخراجىها)، الذي يركز على موضوع الطبقات المختلفة من المحاربين الإيرانيين في الحرب الإيرانية العراقية، حيث استطاع أن يأتي بنسبة 6.5% من سكان إيران لمشاهدته على شاشة السينما، بحضور نجوم شباك التذاكر في ذلك الوقت.
ويُعدّ مخرج هذا الفيلم مسعود ده نمكي، أحد مؤيدي سلسة جرائم القتل للمثقفين، كما أنه أحد المشتبه بهم في الهجوم الدموي على جامعة طهران عام 1999، إذ دخل مجال الفن والسينما، بهدف تعزيز نهج فئته المتشددة بين المجتمع الإيراني.
اندلاع احتجاجات "الحركة الخضراء" في حزيران/يونيو 2009، أثّر على شريحة واسعة من الشعب الإيراني، حيث باتت أعماله وأفلامه، بعيدةً عن ذائقة الإيرانيين/ات.
"الأحفورية"
منذ منتصف العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، تحركت الجمهورية الإسلامية نحو التطرف بشكل أكبر، مما جعل القنوات الفضائية المعارضة تخلق صورةً مثاليةً عن النظام البهلوي لدى الشعب الإيراني، كما ألقت السينما الإيرانية بنفسها في هذه الهاوية، وبدأت بإنتاج أفلام غالبيتها كوميدية، كانت قصصها إما تدور حول أحداثها قبل الثورة، أو كانت شخصياتها عبارةً عن أشخاص مهمّشين في العهد البهلوي.
الفيلم الأكثر مبيعاً من هذا النوع، هو فيلم "الأحفورية" (فسيل)، الذي يمثل ثلاثة أعضاء في فرقة موسيقية تعمل في زمن حكم البهلوي الثاني. تم إصدار الأحفوري في آذار/مارس 2022، وسط احتجاجات "المرأة، الحياة، الحرية"، وحتى الآن جذب أكثر من ستة ملايين إيراني إلى دور السينما، أي 7% من سكان إيران الحاليين.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...