شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!

"بقي في ذاكرتي شارع الرشيد"… بغداد والسياح الإيرانيون على مر الزمان

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رود تريب نحن والتاريخ

الثلاثاء 10 أكتوبر 202311:37 ص

بغداد عاصمة العراق وأكبر مدنه، وثاني أكبر مدينة في جنوب غرب آسيا. تقع على ضفاف نهر دجلة، وشُيّدت في القرن الثامن على الضفة الغربية للنهر على يد الخليفة العباسي أبي جعفر المنصور (714-775)، وهو ثاني الخلفاء العباسيين، الذي يعدّه كثيرون المؤسس الحقيقي للعباسيين. ظلت بغداد عاصمةً للعباسيين، حتى عام 1247.

خلال العهد العباسي، أصبحت بغداد مركز المعرفة والتجارة في العالم الإسلامي، وفي هذه الفترة تردد الإيرانيون على بغداد، وكان "البرامكة" وزراءً في البلاط العباسي، وهم سلاسة إيرانية الأصل كان لها تأثير كبير في الحكم العباسي، إذ كانت مهمتهم جمع طلاب من جامعة جندي شابور الإيرانية، وهي أحد أهم المراكز العلمية في إيران والشرق الأوسط قديماً وحديثاً، كما كانت لديهم وظيفة تعريف الوطن العربي على الثقافة اليونانية والهندية، ولذلك أسسوا بيت الحكمة، الذي تخصص في ترجمة النصوص اليونانية والسريانية والفارسية إلى العربية.

صورة قديمة من مدخل مدينة بغداد

سقطت بغداد عام 1258، على يد "هولاكو خان"، حفيد جنكيز خان مؤسس الدولة الإلخانية، وفي السنوات التالية تم تبادل السيطرة على بغداد بين التركمان والعثمانيين والصفويين، وفي نهاية المطاف أصبحت بغداد جزءاً من الإمبراطورية العثمانية، حتى وقعت تحت الحكم البريطاني بعد الحرب العالمية الأولى. وفي عام 1921، تشكلت المملكة العراقية، واستقلت عن بريطانيا في عام 1932، وحينها اختيرت بغداد عاصمةً للعراق.

خلال العهد العباسي، أصبحت بغداد مركز المعرفة والتجارة في العالم الإسلامي، وفي هذه الفترة تردد الإيرانيون على بغداد، وكان "البرامكة" وزراءً في البلاط العباسي، وهم سلاسة إيرانية الأصل كان لها تأثير كبير في الحكم العباسي

ونظراً إلى قرب العراق من إيران والاشتراكات الثقافية والدينية بين شعبيهما، فقد زار العديد من الإيرانيين هذه المدينة على مر السنين، ومنهم من ذهب إلى العراق لزيارة البقاع والعتبات المقدسة لدى الشيعة، ومنهم من زارها لاستكمال دراسته الدينية في الحوزات العلمية هناك.

وهؤلاء السياح وصفوا بغداد، في مذكراتهم، وفي ما يلي نلقي نظرةً على بعض هذه المذكرات للتعرف على بغداد من وجهة نظر الرحالة والسياح الإيرانيين/ات.

وفي كتاب "حدود العالم"، الذي يُعدّ من أقدم النصوص الفارسية الباقية عن جغرافيا المنطقة، وقد ألّفه كاتب مجهول في نهاية القرن العاشر تقريباً، جاء عن بغداد: "بغداد مدينةٌ كبيرةٌ، وهي أشهر مدن العراق، وتُعدّ مقرّ الخلفاء ومقام العلماء، وأكثر مدن العالم ازدهاراً، أسسها المنصور العباسي في عهد خلافته. يمر بها نهر دجلة، الذي تملأه السفن، ويستخرجون من هذه المدينة القطن ويُصنع فيها الحرير والزجاج ومختلف الزيوت والخمور، وتُصدّر جميعها إلى مختلف أنحاء العالم".

لسوء الحظ، وبسبب العلاقات المتوترة بين الحكومتين العثمانية والإيرانية، وطئت أقدام السياح والزوار الإيرانيين/ات بغداد لعقود، حتى مر بهذه المدينة عام 1739، الحاج الإيراني عبد الكريم خواجة الكشميري، وهو في طريقه إلى مكة، إذ يكتب الكشميري عن موقع بغداد ومظهرها: "بغداد ذات كثافة سكانية عالية، يوجد فيها الكثير من الأراضي الزراعية. تقع هذه المدينة على الضفة الشرقية لنهر شط العرب، وتواجهها المنطقة القديمة للمدينة، التي تقع على الضفة الغربية له، والجهة الشرقية والجديدة في بغداد محاطة بسور مرتفع مدعوم بتحصينات مغطاة بالطين، حيث يتم تحييد تأثير القذائف المدفعيات، كما يحيط هذه المدينة خندق واسع لحمايتها".

وخلال سنوات حكم القاجاريين على إيران، التي امتدت على طول القرن التاسع عشر بأكمله، كانت العلاقات الإيرانية-العثمانية تتحسن باستمرار، ولذلك زار الكثير من الإيرانيين/ات المدينة.

وصف الأمير القاجاري "كيكاووس ميرزا"، بغداد: "في أسواق هذه المدينة، توجد محال تجارية كثيرة لا تُعدّ ولا تُحصى، وتتنوع بين الخانات والحمامات والمقاهي والمطاعم التي لا نهاية لها، وكل ما يحتاجه المرء يكون فيها".

والأمير القاجاري "كيكاووس ميرزا"، زار بغداد عام 1838، وشرح تقليد الإيرانيين، بإرسال جثث موتاهم إلى العراق، خاصةً إلى كربلاء لدفنها هناك: "مدينة بغداد في غاية الجمال، وتتكون من قسمين هما بغداد الجديدة والقديمة، ويمر عبرها نهر، ويقع النصف القديم في جنوب النهر والنصف الجديد في شماله. النصف الجديد أكثر تطوراً وازدهاراً من القديم، وهناك جسر يربط قسمي المدينة، حيث يستطيع الناس العبور من خلاله، وعلى كل من يريد التنقل عبره دفع مبلغ 500 دينار عراقي، والذي يساوي عشرة شاهيات (عملة إيران في العهد القاجاري)، ومن لم يدفع هذا المبلغ سيعاقَب. وتُطلب هذه الرسوم من الركاب فحسب، وتؤخذ رسوم ممن يجلب جثةً لدفنها في هذه الأراضي، وتكون هذه الرسوم خمسين شاهياً أي ألفين وخمسمئة دينار".

كما قدّم وصفاً تفصيلياً للمدينة: "في أسواق هذه المدينة، توجد محال تجارية كثيرة لا تُعدّ ولا تُحصى، وتتنوع بين الخانات والحمامات والمقاهي والمطاعم التي لا نهاية لها، وكل ما يحتاجه المرء يكون فيها، كما لها حدائق وبساتين كثيرة، ثمارها الرمان والتين والليمون الحلو والحامض والبرتقال. بغداد مدينة ذات جو لطيف وأهلها لديهم تنوع كبير من جميع الثقافات والديانات والفئات، ودخل تلك المدينة بغالبيته، يُجمع من رسوم الزوار والسياح. تمتلئ بالطعام وجميع أنواع الملذات لمبدنين وعبيد البطون، ولذلك أكثر أهلها من هذه الفئة وأغلبهم مرضى، وهم كسالى ولا يجهدون أنفسهم، كما أنهم لا ينفعون في جميع الأمور، وحسب قولٍ حكيمٍ: مَن كانَت هِمَّتُهُ ما يَدخُلُ بَطنَهُ، كانَت قِيمَتُهُ ما يَخرُجُ مِنهُ. ولمقاومة هذه النِعم عليك أن تتمتع بنفس قوية، وترفض هذه النِعم الفانية".

نهري دجلة والفرات في بغداد

وبعد أكثر من نصف قرن، في عام 1892، زارت "عاليه خانم الشيرازي"، إحدى النساء اللواتي كتبن وصفاً لأسواق بغداد: "اليوم وهو الأربعاء ورابع أيام الشهر، زرت بغداد، وذهبت بعربة كان يركبها سبعون شخصاً، دفع كل شخص منا قمرين اثنين (عملة إيرانية آنذاك)، أجرةً للعربة، التي كان يجرّها حصانان، ونزلنا إلى الأسواق، وكانت تعمها الفوضى إلى درجة أنه لم يتمكن الشخص من العثور على أي شيء، لكن كانت هناك أقمشة جيدة، وأنا لم يكن لدي المال لشراء أي شيء جيد، وكنت محرجةً من أن أعود خالية الوفاض إلى كرمان (إحدى المدن المركزية في إيران)، فاحترت ولم أعرف ما هو الحل، حتى فكرت في ألا أعود إلى كرمان مرةً أخرى، لكني عُدتُ في المساء، وبصعوبة اشتريت قميصين سميكين، لأنني لم أمتلك أي ملابس شتوية".

وقبل عام من نهاية القرن التاسع عشر، كتبت "سكينة سلطان"، الملقبة بوقار الدولة، وهي سيدة أخرى مرّت ببغداد في طريق عودتها من مكة: "الآن ذهبت لرؤية بغداد مرةً أخرى، هنا الأسواق جيدة، كما يوجد فيها قصور جميلة، كالقصر الموجود على ضفة النهر، ويقال إنه كان مقرّ إقامة "ناصر الدين شاه القاجاري"، هذا القصر أفضل من كل قصور المدينة، تمشيت قليلاً في شوارع بغداد وسوقها، ولم أشترِ أي شيء يجدر ذكره، باستثناء حذاء جيد".

بسبب العلاقات المتوترة بين الحكومتين العثمانية والإيرانية، وطئت أقدام السياح والزوار الإيرانيين/ات بغداد لعقود، حتى مر بهذه المدينة عام 1739، الحاج الإيراني عبد الكريم خواجة الكشميري، وهو في طريقه إلى مكة

في القرن العشرين، توطدت العلاقة بين إيران والعراق، أكثر من أي وقت مضى، ولطالما اختار علماء الدين الإيرانيون، الحوزات العلمية في العراق للدراسة أو لاستكمال دراساتهم، كما ذهب إيرانيون آخرون إلى هذا البلد، من أجل التعليم الأكاديمي. ومنهم أستاذ جامعة طهران "سيد جعفر شهيدي"، الذي درس في العراق لسنوات عديدة، وكتب في عام 1978 وصفاً لبغداد: "كنا نمر ببغداد مرتين أو ثلاث مرات في السنة، لأنها كانت تقع على طريق الكاظمين، وبقيت في ذاكرتي صور ضبابية عن بغداد، وخاصةً شارع الرشيد بعرضه الضيق وأرصفته المبلطة ومحاله الرائعة المليئة بالبضائع الأجنبية التي لم أرَها من قبل. متاجر بغداد، مليئةٌ بالبضائع المصنوعة في العراق، من الأقمشة والمناديل إلى أدوات المطبخ، وكانت هناك سلعٌ مصنوعة خصيصاً لأوروبا أو لأمريكا، وكان يمكنك أن تجد أي نوع من الملابس وربطات العنق والبدلات والمعاطف والملابس الداخلية، وتباع كلها في محال خاصة تديرها الحكومة، تحت عنوان 'الشركة التجارية العراقية'، ولكن الناس كانوا يطلقون عليها اسم إرزي بيك".

بعد انتصار الثورة الإسلامية في إيران عام 1979، دخلت العلاقات بين البلدين مرحلةً مظلمةً، حيث قامت بينهما حرب استمرت ثماني سنوات (1988-1980)، ولكن برغم تلك الحرب، أعادت الدولتان علاقاتهما بعد سقوط الرئيس العراقي الراحل صدام حسين، على يد القوات الأمريكية وحلفائها عام 2003، واليوم وصلت العلاقات الإيرانية العراقية إلى أفضل حالاتها في جميع المجالات، كما يزور سنوياً العديد من الزوار/الزائرات الإيرانيين/ات، بغداد وسائر المدن الدينية في العراق.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

ماضينا كما يُقدَّم لنا ليس أحداثاً وَقَعَت في زمنٍ انقضى، بل هو مجموعة عناصر تجمّعت من أزمنة فائتة ولا تزال حيّةًً وتتحكم بحاضرنا وتعيقنا أحياناً عن التطلّع إلى مستقبل مختلف. نسعى باستمرار، كأكبر مؤسسة إعلامية مستقلة في المنطقة، إلى كسر حلقة هيمنة الأسلاف وتقديم تاريخنا وتراثنا بعين لا تخاف من نقد ما اختُلِق من روايات و"وقائع". لا تكونوا مجرد زوّار عاديين، وانزلوا عن الرصيف معنا، بل قودوا مسيرتنا/ رحلتنا في إحداث الفرق. ساعدونا. اكتبوا قصصكم. أخبرونا بالذي يفوتنا. غيّروا، ولا تتأقلموا.

Website by WhiteBeard
Popup Image