حلب واحدة من المدن المهمة والعريقة في الشرق الأوسط، ولطالما كانت محور اهتمام سكان هذه المنطقة، وذلك نظراً إلى موقعها الإستراتيجي والمهم للغاية، الذي ينتهي عند البحر من جهة، ونهر الفرات من جهة أخرى.
فهذه المدينة مهمة بشكل مضاعف بالنسبة للإيرانيين، لأنها تقع على طريق المدن الدينية منذ زمن بعيد، وكانت إحدى طرق الذهاب إلى مكة في أثناء الحج، حيث كان الحجاج يمرون عبر العراق وسوريا وفلسطين ليصلوا مصرَ ويذهبوا عبر قناة السويس إلى جدة. فكان لا بد لهؤلاء الحجاج الذين اختاروا هذه الطريق، المرورَ من حلب.
وقد كتب عدد من الحجاج الإيرانيين ملاحظاتهم التي تشير كلها إلى جمال هذه المدينة العريقة، ويبدو أن حلب كانت مثل الجوهرة في عيون الإيرانيين خلال العهود المختلفة، إذ نشهد ذلك بوضوح في كتاباتهم حولها.
إحدى أقدم الصور التي صوّرها مؤلف مجهول الهوية وناطق بالفارسية عن حلب، جاءت في كتاب "حدود العالم" المؤلف في نهاية القرن العاشر الميلادي (الرابع الهجري)، وفيها: "إن حلب مدينة كبيرة وهي مزدهرة وفيها أناس كثر وخيرات مختلفة وعديدة".
كتب عدد من الحجاج ملاحظاتهم التي تشير كلها إلى جمال هذه المدينة العريقة، ويبدو أن حلب كانت مثل الجوهرة في عيون الإيرانيين خلال العهود المختلفة
بعد قرن من الزمن، كتب الشاعر والرحالة الإيراني ناصر خسرو، الذي ذهب إلى مكة عام 1045م، ومرّ بحلب في طريقه، واصفاً هذه المدينة: "رأيت حلب مدينةً جيدةً لها مبانٍ ضخمة، يصل ارتفاعها إلى خمسة وعشرين أرش، وهي قلعة ضخمة مبنية على الحجر، وجميع المباني فيها مكدسة على بعضها. وتلك المدينة عبارة عن كشك حصيلة بين أرض سوريا وروما وأرض بكر ومصر والعراق، حيث يذهب إليها تجار من كل هذه الأراضي، ولها أربعة أبواب هي: باب اليهود وباب الله وباب الجنان وباب أنطاكيا، وحجر السوق هناك أربعمئة وثمانون دراما".
سكان حلب الأنيقون
في عام 1739، التقى سائح يُدعى عبد الكريم خواجة، وكان واحداً من الإيرانيين المقيمين في الهند، بطبيب نادر شاه أفْشار، ملك إيران (1735-1747)، في طريقه إلى مكة مروراً بالعراق وسوريا. كتب عبد الكريم عن حلب: "يوجد في هذه المدينة نهر جميل وسوق كبيرة منظمة بشكل جيد للغاية، ولا ينزعج الناس من الأوساخ والقذارة في شوارعها وممراتها. الناس نظيفون ويرتدون ملابس جيدةً تُظهر ذوقهم وأسلوبهم المختلف في الملابس عند كل فئة من الناس. ويقع قبر النبي يحيى بالقرب من جامع حلب".
ويتابع في مذكراته: "الحلبيون يتمتعون بذوق كبير حتى في اختيار ملابسهم الداخلية النظيفة. كما يقول هذا المثل الشرقي: 'أهل حلب راقون والشوام بخلاء والهندوس محبون لله'"!
بعد قرن من ذلك، وفي عام 1838، زار الأمير القاجاري كَيْكَاوُس ميرزا، حلبَ في طريقه إلى الحج، وقدّم وصفاً أكثر تفصيلاً للمدينة: "تقع مدينة حلب وسط سلسلة من التلال. والعمارات الرفيعة والحمامات والمساجد والفنادق والمتاجر فيها جيدة وعامرة للغاية. كل بضاعة يمكن تصوّرُها توجد في هذه المدينة. يعيش التجارُ كثيرو البضاعات والمعتمَدون في الحجرات والمتاجر. هناك بضاعات من كلّ نوع وشكل. الأسواق المنظمة ومنازل التجار متجاورة بعضها لبعض، ولكل بضاعة سوقها الخاص. المدينة منظمة جداً، أزقتها من الحجر، وعماراتها مبنية من الحجر أيضاً، وقلعتها مدمرة، وساعات عملها دقيقة، وهناك العديد من أشجار الزيتون فيها، والناس يستخدمون الكثير من الزيتون في تلك المنطقة. ثمة نهر يمر في المدينة يُسمى قويق، وبحسب الإحصائيات يبلغ عدد سكانها 200 ألف نسمة ومعظمهم من اليهود والنصارى. يمكنك أن تشم رائحة الإيمان في المدينة. يتعامل أهل حلب مع الرحالة والسياح، خاصةً مع حجاج بيت الله الحرام، بمنتهى اللطف والأدب والاحترام".
بعد ذلك بقليل، وتحديداً في عام 1847، كتب أحد الحجاج في تلك السنة، وهو عبد الرحيم بادْكوبه اي، الذي مر بحلب ناوياً زيارة مكة، واصفاً مسجد النبي زكريا الواقع في حلب: "هذه المدينة كبيرة جداً، وبالتأكيد هي أفضل من أرزان وروم وأرْزانجان. مبانيها مبنية من الحجر والخشب، ويقع فيها مسجد النبي زكريا وهو المكان الذي قُتل فيه النبي في حلب، والشجرة التي دخل النبي زكريا إلى جوفها وقُتل داخلها ما زالت موجودةً".
تعجز الكلمات عن وصف جمالها
سكينة سلطان وقار الدولة، من النساء القليلات اللواتي زرن المدن الإسلامية بقصد الحج، وقد مرت بحلب عام 1899 وكتبت عن المدينة: "رأيت من بعيد شجرةً تشبه النخلة لكنها لم تكن نخلة. وعندما سألت أخي عن نوعها، قال إنها شجرة الزيتون. المآذن فيها جميلة جداً وناسها أنيقون ونظيفون جداً. فيها حمامات نظيفة ورائعة، لم أرَ مثلها من قبل والكلمات تعجز عن وصف نظافتها وجمالها".
الحرب والسياسة
مع نشوب الحرب العالمية الأولى (1918-1914)، قرر بعض النبلاء والسياسيين الإيرانيين الهجرة من العاصمة طهران، وذلك بعد احتجاجهم على السلوك العدواني لروسيا، ويُعرف هذا الحدث بحركة الهجرة في تاريخ إيران.
في الخطوة الأولى اتحدوا مع الحكومة العثمانية لكونهم على الدين نفسه، حيث تم تشكيل لجنة دفاع وطني في غرب إيران تحديداً على حدود العراق، الذي كان جزءاً من الأراضي العثمانية في تلك الحقبة، وقد دخلوا في صراع مسلح مع القوات التركية والألمانية ضد الحلفاء، واستطاعت لجنة الدفاع الوطني توحيد الأكراد الذين يعيشون في غرب إيران، لكن قلة الذخيرة والأفراد إلى جانب الدعم الفاتر للحكومة العثمانية والمستشارين الألمان حالت دون تحقيق هذه المجموعة أيَّ نجاح، وأخيراً مع احتلال البريطانيين لبغداد، وجدوا أنفسهم محاصرين وتراجعوا إلى إسطنبول هرباً من المأزق. اختارت لجنة الدفاع الوطني طريقين لسحب قواتها، فهرب بعض أعضاؤها إلى إسطنبول بالقطار من الموصل شمال العراق، وآخرون من حلب.
كتب عبد الحسين شيباني، أحد السياسيين الإيرانيين والعضو في قوات الدفاع الوطني، عن ذلك في مذكراته: "إن المهاجرين الذين كانوا في حلب دخلوا إسطنبول، ومن تمّ إيقافهم في الموصل توجهوا نحو إسطنبول".
في الفترة نفسها، وفي عام 1915، زار موظف وزارة الخارجية الإيرانية رضا علي ديوان بيكي، حلبَ، لفترة قصيرة خلال رحلته إلى إسطنبول، وقال عنها: "في اليوم التالي وصلنا إلى مدينة حلب الجميلة، وأقيمت مأدبة على شرف المهاجرين الإيرانيين، فبقينا فيها بضعة أيام، كان أهلها مثقفين جداً ومهذبين ومحبين للمرح، وعلى الرغم من حدوث المجاعة وفّروا لنا كل شيء بِوَفرة".
"المآذن فيها جميلة جداً وناسها أنيقون ونظيفون جداً. فيها حمامات نظيفة ورائعة، لم أرَ مثلها من قبل والكلمات تعجز عن وصف نظافتها وجمالها"… زوجة الملك الإيراني عن حلب
كتب مندوب البرلمان الإيراني في العهد القاجاري والبهلوي، أمان الله أردلان، الذي كان من الأشخاص الذين شاركوا في حركة الهجرة، في مذكراته: "أقمنا في بيوت ضيافة في المدينة. حلب مدينة جميلة ونظيفة، وفيها بيوت ضيافة نظيفة وجيدة. بعض الرجال استأجروا غرفاً في منازل خاصة من أصحابها، ولم يأتوا إلى بيوت الضيافة. أصبحنا في أمان من الحرب في أثناء مكوثنا فيها وأخذنا نقرأ الصحف لنعرف أخبارها".
ويصف كذلك في كتابه شكلَ خط سكة حديد حلب-إسطنبول: "خط سكة حديد حلب-إسطنبول لم ينتهِ حتى ذلك الحين، وكنا نعبر جبل طوروس، حيث تم وضع درجات مؤقتة فوق الأنهار".
بعد انتصار الثورة الإسلامية في إيران عام 1979، كانت العلاقات السياسية بين إيران وسوريا جيدةً دائماً بين البلدين، وهذه العلاقات الطيبة جعلت هذا البلد ومدنه بما في ذلك حلب، من الأماكن التي يزورها العديد من السياح والزوار من إيران، فلم تكن المدن السورية مجرد محطات مؤقتة في الطريق إلى مكة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحبيت اللغة.