العاصمة بيروت هي أكبر المدن اللبنانية والميناء الرئيسي في لبنان. تقع المدينة في شبه جزيرة مثلثة، ويحدّها البحر الأبيض المتوسط من الشمال والغرب، كما تتمتع بمناخ البحر الاستوائي، وما يزيد من أهميتها أنها تقع على طرق التجارة والاتصالات الرئيسية بين آسيا وأوروبا وشمال إفريقيا.
اختلفت الآراء حول تسمية هذه المدينة. وفقاً لرأي بعض المؤرخين التسمية مشتقة من كلمة "بيروتا" الآرامية، وتعني الأرز أو الصنوبر، في المقابل يعتقد آخرون أن اسم هذه المدينة يأتي من الكلمة العبرية "بئروت"، وتعني مجموعة آبار. وبما أن فيها غابات الأرز والصنوبر، وآبار المياه منذ القدم، فهاتان النظريتان تبدوان أقرب إلى واقع التسمية.
في بدايات القرن الأول الميلادي، تحولت بيروت إلى مركز تجاري مهم، وأصبحت القاعدة الرئيسية للأسطول البحري الروماني في شرق البحر الأبيض المتوسط، كما حظيت كلية الحقوق فيها بسمعة خاصة في القرن الثالث، حيث نافست مدارس "أثينا" و"الإسكندرية" و"القيصرية".
ناصر خسرو في بيروت
وصف الشاعر والرحالة الإيراني الشهير "ناصر خسرو"، خلال رحلته إلى هذه المدينة، المؤرخة في 14 شباط/فبراير 1047، حسب مذكراته في كتابه "سفرنامه"، بقايا القوس الروماني المعروف باسم قوس فرعون، وقد أُطلق عليه هذا الاسم في العصر الإسلامي، إذ كانوا يعتقدون بأن القوس هو مدخل حديقة فرعون، ويشرح: "رأيت قوساً كبيراً يمرّ من خلاله طريق واسع، وخمّنت أن يكون طول هذا القوس أكثر من 50 ذراعاً، كما أن على جوانبه ألواح حجرية بيضاء، وكان كل حجر يفوق طوله أكثر من ألف رجل، وهذا البناء شُيّد بالطين، واستقام فوق أعمدة من الرخام طول كلّ منها ثماني أذرع. وفوق هذه الأعمدة يوجد قوس على جانبيه حجارة متراكمة، بحيث لا يكون بينهما جصّ أو طين. وهناك قوس ضخم آخر في الوسط الأيمن، خمّنت أنه بعلو خمسين ذراعاً، وكانت هناك ألواح حجرية توضع في ذلك القوس العظيم، وأظن أن كل واحدة منها بمساحة ثماني أذرع؛ أربع أذرع في الطول، وأربع أذرع في العرض، وكان عددها نحو سبعة آلاف لوح حجري، تحتوي جميعها على نحوت ورسوم".
بيروت دار علم الشامات
بعد ظهور الإسلام، دخل المسلمون بيروتَ عام 634، وهكذا بدأ عهد جديد لهذه المدينة. كانت ملكية هذه المدينة تُعدّ ميزةً مهمةً طوال العصور الوسطى، بسبب وفرة الخشب والحديد فيها، حيث كانوا يحصلون على الخشب من غابات الصنوبر في جنوبها، ويستخرجون الحديد من المناجم المحيطة بها. وعلى هذا الأساس، تم الاستيلاء على هذه المدينة مراراً وتكراراً من قبل المسلمين والمسيحيين خلال الحروب الصليبية، حتى حكمها العثمانيون أخيراً في القرن السادس عشر.
"كانت هذه المدينة في الماضي ملتقى للعلماء، وكما في السابق تنتشر فيها كافة أنواع العلوم، حيث يأتي الأطفال من معظم المحافظات إلى هذه المدينة لدراسة العلوم وتعلم المعرفة، ولهذا تسمّى بيروت مدينة المعرفة"
منذ عشرينيات القرن التاسع عشر، ومع توسع العلاقات السياسية، عمل في بيروت مبشّرون بروتستانت من بريطانيا والولايات المتحدة، ومبشّرون كاثوليك معظمهم من فرنسا، حيث أسسوا جامعتي "بيروت الأمريكية" في 1866، و"القديس يوسف" عام 1881، وساعدت هذه الجامعات في نمو صناعة الطباعة في لبنان، ومنذ ذلك الحين أصبحت بيروت مركزاً للطباعة العربية.
في منتصف القرن التاسع عشر، عُدّت بيروت ميناءً ومركزاً تجارياً مهماً، واحتلت المركز الثالث تجارياً بعد مدينة سميرنا (غرب تركيا)، ومدينة الإسكندرية (شمال مصر)، كما أنها تأثرت بتطورات القرن التاسع عشر، وتحولت إلى مركز لتعليم العلوم والنهج الغربي الحديث، في الدولة العثمانية وفي العالم العربي.
ذكر أحد السياسيين والنواب في المجلس الرابع في عهد القاجار في إيران، علي محمد آبادي، عندما مرّ ببيروت عام 1885، الصيتَ العلمي للمدينة، فقال: "ذهبنا من طرابزون إلى بيروت، ميناء جبل عامل والشامات. وفي ذلك الوقت كانت تلك المدينة دار العلم، وأردت حقاً البقاء هناك لبضعة أيام".
عروس مدن الشرق الأوسط
بالإضافة إلى هؤلاء الأشخاص، زار الكثير من السيّاح والحجاج الإيرانيين/ات مدينة بيروت، التي تقع على طريق الحج، والقريبة من العتبات والمزارات الشيعية، ومن خلال الوصف الذي سمعناه عن هؤلاء نعرف مدى مكانة بيروت في منتصف القرن التاسع عشر.
الأمير فرهاد ميرزا القاجاري، يصف الموقع الجغرافي ومدارس بيروت، حين مرّ بها في عام 1875، على النحو التالي: "تقع بيروت على جبل لبنان الشهير، الذي يمتد من طرابلس حتى صيدا، وأينما أردت أن تذهب في بيروت، فعليك أن تسلك سلسلة جبال لبنان. ويجري نهر بيروت من شرق المدينة ليصب في البحر. ومياهها ليست جيدةً، وهناك نهر آخر فيها يسمى نهر 'الكلب'، وهو نهر جيد ينبع من كسروان. وهناك شركة إنكليزية تعمل في تصفية المياه، حيث أنها تجلب هذه المياه إلى المدينة وتبيعها للسكان".
وعن مدارسها يكتب: "أنشأت الشركات الفرنسية والأمريكية والبريطانية والألمانية، مدارس للفتيات الأرمنيات والرومانيات والكاثوليكيات، فالبيروتيون ينفقون الكثير على تعليم الفتيات في تلك المدارس".
وبعده بفترة قصيرة، قدّم محمد رضا الطباطبائي، أحد الحجاج في سنة 1879، وصفاً تفصيلياً عن المدينة، يُعدّ الوصف الأدق بين النصوص المشابهة، إذ يشرح وهو في طريق عودته من مكة: "تُعدّ مدينة بيروت من المحافظات السورية المشهورة، وتتصل بالبحر، وتقع على تلة، ويحيط بها جبلان، أحدهما لبنان والآخر جبل عامل. ولها مناخ متوازن، حيث أنها قريبة إلى الجبال وتكثر فيها المزارع. ولهذا السبب أهلها محصنون من الآفات والسموم. جبل لبنان يطل على المدينة، إذ يمكنك رؤيته من أي مكان في بيروت. الثلج والجليد مثل السحب يغطيان دائماً قمة الجبل، كما يتدفق من كل فرع من المدينة نهر صافٍ".
ويتابع: "منظر المدينة جميل جداً، فهنا تُزيّن المباني على الطراز الأوروبي، وتشتهر بعضها بقدمها، وكانت هذه المدينة في الماضي ملتقى للعلماء، وكما في السابق تنتشر فيها اليوم كافة أنواع العلوم، حيث يأتي الأطفال من معظم المحافظات إلى هذه المدينة لدراسة العلوم وتعلم المعرفة، ولهذا تسمّى بيروت مدينة المعرفة".
وعن عمل البيروتيين/ات وأخلاقهم، يوضح: "جميع الرجال والفتيان يعملون ويكدون بجهد، وحتى النساء يعملن في مجال الحياكة والخياطة، ومنهن من يغزلن الصوف، ومع كل ما يملكون من ثروات إلا أنهم لا يكفّون عن العمل، ولا يحقدون على بعضهم بعضاً، وهم على وفاق تام، وجميعهم مميزون في النظافة والأناقة والعلم والأدب، كما أنهم لطفاء وكرماء مع الزوار والأجانب".
كما يقدّم لنا طباطبائي معلومات عن ملابس الناس والقوة العسكرية: "ملابس معظم أهل المدينة هي ملابس إفرنجية، باستثناء البعض الذين ما زالوا يلبسون زيّهم القديم، ولهذا يصعب التمييز بين المسلم وغير المسلم في هذه المدينة، إلا في أيام الجمعة وفي أثناء صلاة الجمعة والجماعة... القوة العسكرية والذخائر العسكرية متوفرة بقدر الحاجة، وتتدرب مجموعات من الجنود بشكل دائم على التلة التي تقع في وسط المدينة، كما يعمل 500 عنصر من شرطة الدرك على حماية المدينة".
وفي ختام مذكراته، يحكي لنا عن الأديان المختلفة وسلوك أتباعها مع بعضهم بعضاً: "للمسيحيين نوع من الهيمنة في هذه المدينة، والسبب في ذلك هو أنه قبل 12 عاماً كان للمسيحيين صراع مع سائر أهالي بيروت، ودعمتهم حكومة فرنسا وحاصرت المدينة واحتلتها بالسفن الحربية، وظل الأمر على حاله لفترة من الوقت، ثم أصدرت الحكومة العثمانية بياناً بشأن هذا الموضوع، وبهذا تراجعت فرنسا عن ذلك الحصار".
وفي عام 1899، زار "ناصر السلطنة" وهو أحد السياسيين الإيرانيين في الدولة القاجارية آنذاك، فـكتب عن السكان والطقس والطعام في المدينة: "بيروت هي مقرّ حكم سوريا، وتقع على تلة مطلة على البحر، ولها منظر جميل جداً وتتصل بالبحر من الشرق والشمال والغرب، ومن الجنوب تتصل بجبل لبنان، وأغلب سكانها من المسيحيين والباقي من المسلمين واليهود، وأكثرهم متعلمون كما أنهم مضيافون للغاية، ويتكلمون العربية والفرنسية والإنكليزية والإيطالية".
"ملابس معظم أهل المدينة هي ملابس إفرنجية، باستثناء البعض الذين ما زالوا يلبسون زيّهم القديم، ولهذا يصعب التمييز بين المسلم وغير المسلم في هذه المدينة، إلا في أيام الجمعة وفي أثناء صلاة الجمعة والجماعة"… هكذا وصف أحد الإيرانيين بيروتَ
ويتابع: "في البداية كانت بيروت تابعةً لمحافظة دمشق، أما الآن فانفصلت ولها محافظها الخاص. ويجري في المدينة نهران يسميان 'بيروت' و'الكلب'، وفيهما مياه طيبة وعذبة جداً، ويبلغ عدد سكان المدينة نفسها مئة وعشرين ألف نسمة، وتتوفر في هذا المكان كل أنواع الفواكه والخضار".
ومرت ببيروت في العام نفسه "سكينة سلطان" الملقبة بـ"وقار الدولة"، وهي من النساء المسلمات اللواتي زرن هذه المدينة في تلك العهود، فـكتبت لنا عنها: "إنها مدينة جميلة جداً، حيث يمكن رؤيتها من بعيد، عازفوها جيدون، ويقال إنها أكبر وأرقى من كل مدن الشام، بل حتى أكبر من مدينة الشام نفسها، فيها أسواق كبيرة ومبنى حكومي جميل، وكان فيها ما يصل إلى عشرة آلاف بيت، كلها هائلة وتشبه قصور الملوك".
انفصلت بيروت عن بلاد الشام وسوريا بعد انتهاء الحربين العالميتين في القرن العشرين. وقبل بدء الحروب الأهلية في هذا البلد عام 1975، كانت تُعدّ إحدى المدن الخدمية الكبرى في العالم، والمركز المصرفي والثقافي في الشرق الأوسط.
تجدر الإشارة إلى أن جامعات بيروت كانت الخيار الأول للطلاب الإيرانيين في القرن التاسع عشر، وذلك لقربها من إيران وللمشتركات الدينية والثقافية بين الشعبين، وكان من بين خرّيجيها أمثال "قاسم غني"، و"محمد علي جمال زاده"، و"محمود حسابي"، واستمر هذا التقارب في شتى المجالات بين الإيرانيين واللبنانيين حتى الآن.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ 3 ساعات??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 23 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون