استطاع العباسيون انتزاع الحكم من الدولة الأموية (41-132 هـ)، وتأسيس دولتهم (132-750 هـ) التي بدأ ظهور الدعوة لها في منطقة خُراسان، الواقعة شرق إيران، سنة 129 هـ، وخلال سنوات قليلة من الصراع والتنافس أحكمت قبضتها على الدولة الإسلامية، مبتدئة عهدها بالخليفة أبي العباس السفاح.
بدأت الدولة الجديدة منحَ المناصب العليا فيها للفرس، الذين ساهموا في الدعوة للدولة العباسية، والمحاربة من أجلها، فكان منهم الوزراء، وقادة الجيوش، والولاة، إلا أن هؤلاء، لم يكتفوا بتلك المناصب كمكافأة لهم على ما بذلوه، وبدأ بعضهم في منافسة الخلفاء على السلطة.
أبو سلمة الخلال: طمع البدايات
يذكر الدكتور فاروق عمر في كتابه "الخلافة العباسية عصر القوة والازدهار" أن أبا سلمة الخلال، كان القائم على أمر الدعوة بالكوفة منذ ثلاثين سنة، إلا أنه بعد وفاة إبراهيم العباسي إمام الدولة العباسية، تردد في مبايعة أبي العباس، وحاول أن يتواصل مع ثلاث شخصيات ينتمون للبيت العلوي، وهم: جعفر بن محمد الصادق، وعبد الله بن الحسن المحض، وعمر بن علي بن الحسن، وعرض عليهم تولي الخلافة عند سقوط الدولة الأموية، لكن خطته لم تنجح لاجتماع نقباء وأمراء الدعوة العباسية بالكوفة حول أبي العباس، ومبايعته بالخلافة، بحسب ما ذكر ابن كثير في كتابه "البداية والنهاية".
وبحسب الطبري حاول أبو سلمة أن يخفي أمر وجود أبي العباس في الكوفة لمدة أربعين ليلة، لكن أحد خدم أبي العباس التقى بأمراء الدعوة العباسية، وذهبوا لمبايعته، ثم جاء من بعدهم أبو سلمة للمبايعة بعد أن افتضح أمره، وقيل له حينها: "على رغم أنفك".
استطاع العباسيون انتزاع الحكم من الدولة الأموية (41-132 هـ)، وتأسيس دولتهم (132-750 هـ) التي بدأ ظهور الدعوة لها في منطقة خُراسان، سنة 129 هـ، وخلال سنوات قليلة من الصراع والتنافس أحكمت قبضتها على الدولة الإسلامية
ويستعرض فاروق عمر أن سبب ميل أبي سلمة للعلويين، هو طموحه السياسي، ورغبته في الاحتفاظ بمركز قوة في الدولة الجديدة، وهو ما لم يكن يتوقعه في الدولة العباسية، إلا أنه استوزر ولقب بـ"وزير آل محمد"، ولم يرغب أبو العباس في قتله، ولكن ظل يراقبه حتى يستتب الأمر له، وهنا أرسل إلى أبي العباس أخوه أبو جعفر إلى أبي مسلم الخراساني الملقب بـ"أمير آل محمد" ليخبره برغبته في قتل أبي سلمة الخلال، فأرسل أبو مسلم من يقتله.
أبو مسلم الخُراساني: ند الخليفة أبي جعفر
في مدينة أصفهان ولد عبد الرحمن بن مسلم، المعروف بأبي مسلم الخراساني، ثم انتقل صبياً إلى مدينة الكوفة، وفيها تعرف على الدعوة العباسية، والتحق بخدمة صاحبها إبراهيم بن محمد الإمام العباسي، وظل سنوات ينقل رسائله بين المؤيدين للدعوة، حتى أمره إبراهيم الإمام سنة 128 هـ، بالذهاب إلى خراسان، حاملاً كتاب توليته أميراً على مؤيدي الدعوة فيها، وكانت هذه بداية أبي مسلم الخراساني في تولي المناصب في الدولة العباسية.
عُرف عن أبي مسلم رجاحة العقل وحسن التدبير، لذلك منحه إبراهيم الإمام راية النصر، وأمره بالجهر بالدعوة، ولهذا كان يري نفسه –أبو مسلم-صاحب دولة بني العباس، ولولاه لما قامت لها قائمة، وهذا ما دفع الخليفة أبا العباس تعينه والياً على خراسان، فسعي للتخلص من كبار رجالات الدعوة العباسية، ليصبح أقوى شخصية في خراسان، حسبما ذكر عمر فاروق في كتابه.
ولعدم مراجعة الخليفة أبا العباس لأبو مسلم الخراساني في أي شيء فعله، دفعه لقتل سليمان بن كثير الخزاعي، في وجود ولي العهد أبو جعفر المنصور، فلما رجع الأخير قال لأبي العباس: لست خليفة ولا أمرك بشيء أن تركت أبا مسلم ولم تقتله، وكانت هذه بداية العداء والكراهية من أبي جعفر المنصور لأبو مسلم الخرساني.
كان يري أبو مسلم دواءَ أي منافس له القتل، لهذا كان أبو جعفر المنصور متخوفاً منه على الخلافة العباسية، وكان دوماً يقترح قتله على أخيه الخليفة أبي العباس، لكنه لم يكن يسمع له، حتى جاءت سنة 136 هـ، وفيها طلب أبو مسلم من الخليفة أن يعينه أميراً على الحج، لكنه عين أخاه أبا جعفر أميراً للحج، فذهبا للحج معاً، وفي هذه الرحلة زادت الخلافات بينهما، خاصة بعد وصول نبأ وفاة الخليفة أبي العباس.
تلقى أبو جعفر المنصور مبايعته بالخلافة من جميع رجال الدولة العباسية، سوى أبي مسلم الذي بعث له برسالة تعزية، ثم أرسل له البيعة، وذلك حتى يهابه ويخشاه، بينما يؤكد عمر فاروق في كتابه، أن أبا مسلم كان يريد تأجيل البيعة لعيسى بن موسي بدلاً من أبي جعفر المنصور، لكن عيسى رفض ما عرضه عليه أبو مسلم، وبرغم ذلك لم يقدم أبو جعفر المنصور على قتل أبي مسلم، بل أبقاه في منصبه واستعمله في القضاء على منافسه على كرسي الخلافة، سواءً من العلويين أم العباسيين.
فلما لم يبق لأبي جعفر المنصور عدو إلا وقد قضي عليه، بدأ يفكر في كيفية التخلص من أبي مسلم الخراساني، فأرسل له المنصور الرسائل والرسل حتى يأتي إليه، وقد جاءه في معسكر المدائن، فاستقبله بالود والترحاب في اليوم الأول، وفي اليوم الثاني كان أعد لقتل أبي مسلم، بعد أن لامه وعاتبه المنصور على الجرائم التي فعلها، ثم أمر رجاله بقتله، فمات أبو مسلم الخراساني سنة 137 هـ.
البرامكة: أسرة أهلكها الطموح
يذكر عمر فاروق في كتابه أن البرامكة ينتسبون إلى برمك، وهو لقب لرئيس سدنة معبد "نوبَهار" في بلخ، مؤكداً أن جدهم خالد البرمكي، التحق بالدعوة العباسية في بدايتها، ثم خدم أبا العباس والمنصور، وكذلك ابنه يحيى بن خالد البرمكي، الذي زاد نفوذه في عهد الخليفة المهدي، للاتصال بزوجته الخيزران، بعد أن قامت زوجة يحيى، أم الفضل، بإرضاع هارون الرشيد مع ابنها الفضل، فاصبحا أخوين من الرضاعة، مما مكن يحيى البرمكي أن يكون المربي والمشرف على شؤون هارون الرشيد.
سنة 170 هـ، عندما تولى هارون الرشيد الخلافة، أخرج يحيى البرمكي من محبسه، وقلده الوزارة، وقال له: "قد قلدتك أمر الرعية، وأخرجته من عنقي إليك، فاحكم في ذلك بما ترى من الصواب، واستعمل من رأيت، وأعزل من رأيت، وأمض الأمور على ما ترى". ودفع إليه خاتمه. وكانت هذه لحظة ذروة طموح يحيى البرمكي، فقد كانت تحت يده جميع دواوين الدولة، كما أن ابنه الفضل كان مساعداً له في إدارة الدولة. أما ابنه جعفر فقد كان مقرباً للخليفة، لدرجة أن هارون الرشيد أمر بوضع اسمه على الدنانير بجانب اسم الخليفة.
تلك المكانة والنفوذ السياسي والإداري للبرامكة، جعلتهم يشعرون أنهم ملوك في دولة الرشيد العباسية، لكن هذه السلطة المطلقة لم تستمر أكثر من أربع سنوات، فبعد وفاة الخيزران، سنة 173 هـ، بدأت رحلة سقوط أسرة البرامكة تدريجياً، عندما انتبه الخليفة هارون الرشيد لما أصبحت لأسرة البرامكة من قوة وثقل في الدولة، حيث أصبحوا يسيطرون على إدارة ومقدرات البلاد.
أما عن أسباب سقوطهم ورغبة الخليفة هارون الرشيد في التخلص منهم، فيرجع إلى جمعهم الكثير من الأموال، ونفوذهم الكبير، وعدم الرجوع للخليفة في الكثير من أمور الدولة. هذه السطوة أثارت شكوك الرشيد. هذا إلى جانب حبهم للنقاش والجدال في أمور السياسة والدين، واجتماع الشعراء والأدباء في مجالسهم، حسبما ذكر عمر فاروق في كتابه.
ما وصل له البرامكة صنع لهم أعداء كانوا يسعون لذمهم عند الخليفة، مثل الفضل بن الربيع بن يونس، حاجب الخليفة الذي حكى للرشيد عن أعمال البرامكة، فأوغر قلبه عليهم، وعلي بن عيسى الذي كشف تآمر موسى بن يحيى البرمكي ضد الدولة العباسية في خراسان، وكذلك تذكير محمد بن الليث للرشيد بواجبه نحو الأمة، وعدم تركها في يد البرامكة. كل هذه الأسباب دفعت الرشيد إلى أن يتخذ قرار التخلص منهم سنة 187 هـ، فأمر بالقبض عليهم ومصادرة أملاكهم، وقتل جعفر، وتعليق رأسه على أحد جسور بغداد، أما يحيى والفضل فقد أمر بحبسهما.
الفضل بن سهل: مهد الطريق للمأمون ثم عارضه
يروي فاروق عمر أن محمد الأمين عندما علم بوفاة هارون الرشيد سنة 193 هـ، أخذ البيعة لنفسه، ثم رغب في عزل أخيه المأمون من ولاية العهد، محاولاً تقليل نفوذه في خراسان، التي استقر فيها، وعمل على حماية أهلها وكبار قادتها، خاصة الفضل بن سهل.
والفضل بن سهل كان من الفرس الزرادشتيين، وينتمي لأسرة تربت على يد البرامكة، وهذا ما مهد له الطريق حتى يكون قريباً من المأمون، خاصة أنه أعلن إسلامه على يده، وكان شديد الذكاء، عالي الطموح، استغل فرصة تمزيق الأمين لكتاب ولاية العهد الذي كتبه هارون الرشيد، وتعليقه في جوف الكعبة، وإرساله جيشاً لإخضاع الولايات الشرقية ومنها خراسان سنة 195 هـ، لكي يحفز المأمون على أن يعلن نفسه الخليفة، وهذا ما حدث، فبايعه أهل خراسان وقادتها.
كما أن جيش المأمون، الذي بناه له الفضل بن سهل، استطاع أن يقضي على جيش الأمين ويدخل بغداد، ويقتل الأمين، فلم يعد هناك منازع للمأمون على كرسي الخلافة. فكافأ الأخيرُ الفضلَ ومنحه لقب ذي الرئاستين، ليصبح بعد ذلك يسيطر على الأمور الإدارية والعسكرية، كما أنه عين أخاه الحسن بن سهل والياً على العراق.
الصراعات والتنافس على السلطة بين الخلفاء والوزراء في العهد الأول من الدولة العباسية، يعود إلى قناعة الوزراء بأنهم بناة الدولة، وخاطروا بأرواحهم من أجل جلوس الخلفاء على عرش الدولة، مما جعلهم يشعرون بالندية للخلفاء
ازداد نفوذ الفضل عندما أقنع المأمون أن ينقل مقر الخلافة من بغداد إلى مَرْو بخُراسان، فظل بها نحو خمس سنوات، حسبما ذكر عمر فاروق في كتابه. كما أنه كان حائلاً في منع وصول أخبار الرعية للخليفة، وما يفعله في إدارة الدولة هو وأخوه الحسن بن سهل، ما دفع أهل المدن الإسلامية في الكوفة واليمن والحجاز إلى الثورة ضده، وقالوا عنه: "لا نرضى بالمجوسي ابن المجوسي الحسن بن سهل"، ولم يترك المأمون مرو ويذهب إلى بغداد إلا بعد مقابلته لـعلي بن موسى بن جعفر، فأخبره بما فيه الناس من الفتن، ما كان يخفيه عنه الفضل بن سهل.
في سنة 202 هـ، قرر المأمون أن يعود إلى بغداد، ورافقه في رحلته الفضل بن سهل، وفي مدينة سَرَخْس، شمال غرب إيران، دخل على الفضل أربعة من خدم المأمون وهو في الحمام، فضربوه بالسيوف حتى مات، وعندما أخبروا المأمون بموته، قتلهم.
أخيراً، هذه الصراعات والتنافس على السلطة بين الخلفاء والوزراء في العهد الأول من الدولة العباسية، يعود إلى قناعة الوزراء بأنهم بناة الدولة، وخاطروا بأرواحهم من أجل جلوس الخلفاء على عرش الدولة، مما جعلهم يشعرون بالندية للخلفاء، فنافسوهم في إدارة شؤون الدولة. فعزم الخلفاء على التخلص منهم عندما سنحت الفرصة لهم، ويرجع ذلك إلى قوة شخصية الخليفة العباسي في تلك الفترة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...