في الخمسينيات من القرن الفائت، كنتَ تسمع نهدات النمر السوري كما يسميها السكان، بشكل "ههههييه ههييه" على نحو متتالٍ، أي صيحات ندائه لدى التزاوج، تسمعها تطلق من جبل هنا فيأتيها الرد بنهدات من جبل مقابل هناك. هذا ما أخبرني به عشرات المسنين الذين أجريت معهم لقاءات قبل عشرين عاماً، وقد رحلوا جميعهم مع أسرارهم.
أعداد هذه النمور لم تكن قليلة، فقد توفر غذاء وفير لها، من خنازير وأرانب برية وغزلان وغيرها. فجأة، في بداية السبعينيات غابت تلك النهدات، فماذا حصل؟
مصائد "النامورات" وسم "اللانيت"
أخبرني مسنّو أعالي جبال اللاذقية وفي محيط منطقة مقامات بني هاشم، بأنهم كانوا يقتلون ما استطاعوا من النمور للحفاظ على ماشيتهم، وذلك بواسطة مكامن ينصبونها بين الممرات الصخرية ويطلقون النار على النمور منها ببنادق الدك القديمة، ومن بنادق المرتيني التي وصلتهم بعدها. وكان يكمن اثنان من الشباب، ليمتلكا الجرأة معاً لفعل ذلك، ولكي يراقب أحدهما ظهر الآخر كما يقال، فالنمر يقترب منك بصمت كامل، فلا تشعر به إلا وهو فجأة أمامك.
في الخمسينيات من القرن الفائت، كنتَ تسمع نهدات النمر السوري بين جبال الساحل، لكنها اختفت تماماً في بداية السبعينيات.
لكن وللأمانة، لم يتحدث أحد عن أي هجوم أو اعتداء على البشر من قبل هذه النمور، إلا أن الجميع كانوا يهابونها، فكثيراً ما يستيقظون صباحاً على مشهد ثور كبير مقتول ومطروح أرضاً من عضة نمر على أسفل عنقه، لأن لهذا النمر غريزة تكمن في الهجوم على الحيوانات التي يراها كفرائس، سواء كانت أبقاراً أو غزلاناً، وبغريزته يعض بقوة على أسفل العنق حتى تختنق الفريسة وتنفق.
أخبرني سكان المناطق الساحلية السورية أن ذلك كان أمراً يثير غضبهم، فالنمر يقتل ماشيتهم ولا يأكلها، أما حقيقة الأمر فهي أن النمر المقترب من المنازل ليلاً لا يستطيع مقاومة غريزته فيقتل الماشية، لكن ليس لديه وقت كافٍ لأكلها، ولا يستطيع سحب بقرة كبيرة بعيداً ليأكل منها أياماً.
ولسوء حظه كان أيضاً يُتهم بأفعال الآخرين، فموت أو اختفاء إحدى النعاج قد يكون بفعل ذئب أو ضبع أو جقل (واوي)، لكن النمر السوري كان يتهم بكل ذلك لتزداد حالات صيده بهدف القضاء عليه.
كان الناس أيضاً يمسكون النمور بواسطة "النامورات"، وهي مصائد متوارثة من زمن الفينيقيين الذين سكنوا المنطقة، والنامورات هذه يبنونها من الصخور على شكل قناة بطول مترين ونصف، ويسقفونها ببلاطٍ صخري، ويتركونها مفتوحة من جهة واحدة أو من الجهتين المتقابلتين ليأمن النمر دخولها، ثم يصنعون لها بوابات خشبية تنزلق هبوطاً مغلقة النامورة، فور سحب النمر لطعم قطعة اللحم داخلها، فيأتون ويقتلون النمر المحبوس داخلها.
روى أحد سكان قرية قرندح في ريف اللاذقية كيف أنه كان يقترب ببطء ورهبة من النمر المصطاد المحبوس، وهو يفتل ويزأر داخل النامورة، ثم وببطء يدخل "بوز" بارودته من فتحة بين حجارة النامورة، يسدد على صدر النمر ويطلق النار، ثم ينكزه مرات ومرات بالبارودة، ليتأكد أنه فارق الحياة قبل أن يتجرأ على فتح أبواب النامورة، ثم يحمل مع صديقه النمر المقتول قاصدين القرية، وعادة ما تكون مسافة طويلة، وحدث اصطياد نمر هو حدث جلل، وقد يكون حديث القرية لأشهر قادمة، وحكماً يجعل من الشاب الذي اصطاده بطل القرية، وسيورّطه لبقية حياته ليدافع عنها، بل ويغدو من زعاماتها المحترمين.
يصل الصياد مع رفيقه إلى القرية وسط جموع أهلها، فيعلقون النمر ويسلخونه بعناية، فهم لا يريدون أي جرح في الجلد لئلا ينخفض سعره، ويملح الجلد ويجفف ويحف ويمشط لعشرة أيام، وتعلق الآمال على ذلك الجلد، فسرعان ما يلفه اثنان من وجهاء القرية، يحملانه ويقصدان به مدينة قريبة يسألان عن زعاماتها، لبيعه ثم العودة إلى القرية غانمين. أما أظفار النمر الطويلة وأنيابه، فيقصونها ثم يثقبونها ويجعلون منها عقوداً.
للنمر السوري أهمية بيئية كبيرة، فهو يقع جغرافياً ما بين مجموعتي النمور في المنطقة، النمر الآسيوي والنمر الإفريقي، وحكماً له تميزه، أقله التميز الجيني، وخسارته هي خسارة للإرث العالمي. كما أنه نمر مسالم لا يهاجم الإنسان أبداً
كل حوادث القتل تلك للنمور كان لها أثر بسيط في اختفائها، أما الضربة القاضية فكانت عندما بدأت الحكومة السورية في أواخر الستينيات باستيراد سم" اللانيت" الفرنسي القاتل، معدوم الرائحة والمذاق، بصفة مبيداً حشرياً، فقد أخبرني مسنو المنطقة بأنهم عندما كانوا يجدون إحدى الماعز لديهم وقد قتلت، أو إحدى الأبقار وقد نهشت، كانوا يقطعونها إلى عشرات القطع، ثم يدهنونها بسم اللانيت، وينادون على شباب القرية ليحملوا القطع المسمومة أبعد المستطاع في مختلف الاتجاهات، ليغطوا كامل المنطقة بنثرها في كل مكان.
بعدها صمتت النهدات، وللأسف اختفت الدببة السورية معها أيضاً، فالدببة العاشبة تسارع إلى أكل اللحم الطازَج إذا ما وجدته أمامها، على اعتباره وليمة مصادفة، دون أن تعلم بأنها ستودي بحياتها هي الأخرى.
أهمية بيئية كبيرة
رغم تناقص أعداد النمور السورية بشكل هائل خلال العقود الأخيرة، قابل أحد الصيادين منذ 25 عاماً نمراً وجهاً لوجه، وعلى مسافة أمتار فقط عندما كان يصلي فجراً وينتظر ليصطاد طيور السمن والشحرور.
أخبرني بقوله: "جمدت مكاني، إذ أن النمر كان جامداً مكانه أصلاً. بقيت هكذا دقيقة أحدق في عينيه، ثم أزحت بنظري إلى اتجاه آخر، وعاودت النظر إليه، لكنه اختفى من أمامي بلمح البصر".
وأيضاً شوهد نمر آخر في جرود شمال شرقي مدينة طرطوس من قبل السكان المحليين منذ قرابة 40 عاماً. ومنذ 18 عاماً، شوهد خنزير بري نُهش وعلق على جذع شجرة بارتفاع مترين في غابات شرق اللاذقية في منطقة النهر الكبير الشمالي، وهذا أمر لا يفعله سوى هذا النمر.
فهل لا يزال هناك أمل لإيجادها؟ نعم هناك أمل، فقد يصل عمر هذا النمر إلى قرابة 20 عاماً، وبالتالي هناك إمكانية للعثور على أفراد حية منه في مناطق متفرقة.
وللنمر السوري أهمية بيئية كبيرة، فهو يقع جغرافياً ما بين مجموعتي النمور في المنطقة، النمر الآسيوي والنمر الإفريقي، وحكماً له تميزه، أقله التميز الجيني، وخسارته هي خسارة للإرث العالمي. ويندرج النمر الجبلي السوري مع مجموعة النمور التي تسمى الفارسية أو الأناضولية. وللعلم فإن تسمية "النَمر" وبفصيح لغتنا تعني البَلَق أي البقع، فعامة الناس غالباً ما يخلطون بالأمر فيظنون خطأً بأن النمر هو المخطط، أما المبرقع فهو فهد، وصحيحه لغوياً أن المبرقع هو نمر منقط.
كان الناس يقتلون ما استطاعوا من النمور للحفاظ على ماشيتهم، وذلك بواسطة مكامن ينصبونها بين الممرات الصخرية ويطلقون النار على النمور منها ببنادق، إلى جانب المصائد واستخدام السم عديم اللون والرائحة
هو نمر رائع ساحر مسالم، لا يهاجم الإنسان أبداً، عاشره الفينيقيون لآلاف السنين في تلك الجبال، واحترموه وقدّروه، حتى أنهم ربّوا جراءه، فزينوا مدخل حمامات قلعة الكهف في الشيخ بدر في محافظة طرطوس بنحت بارز لنمرين متقابلين.
وكان لهذه النمور أيضاً حضور كبير في مدن سهل الغاب الرومانية، وزينت جدرانها وأرضياتها صور لها، إذ كانت تجلب إليها من الجبال غربها، حتى من مستنقعات سهل الغاب المجاورة قبل تجفيفها، فيبدو أنها عاشت في تلك المستنقعات، واحترفت صيد البط والإوز البري فيها، ولا عجب إن كانت قد امتهنت أيضاً صيد الأسماك، كما فعل قريبها سنور نهر الفرات في شرق البلاد.
نمر مسالم قد تصادفه في الحراج وفجأة أمام عينيك، وعلى بعد عدة أمتار فقط منك، فإذا ما جمدت مكانك جمد هو أيضاً، وإذا ما بقيت تنظر في عينيه، بقي هو كذلك، ولو لعشر دقائق فلن يتحرك، وإذا ما ملت بناظريك عنه لثانيتين وعاودت النظر، فستراه وقد اختفى من أمامك.
بغياب المبادرات الحكومية لتوثيق وجود هذا النمر والسعي للحفاظ عليه، نعمل كأفراد ومبادرات مدنية للبحث عنه وتجنب خسارته النهائية. منذ عشرين عاماً، نخرج في جولات كثيرة، باستعمال المناظير النهارية والليلية والإضاءة الساطعة، وبإطلاق أصوات نمور مشابهة لصوته، وبتعقب آثاره في حراج قمم الجبال النائية، لكن وللأسف لم نجده حتى الآن.
هو واجب عاجل لا يحتمل الانتظار وغاية في الأهمية بيئياً، البحث عما تبقى من النمور السورية في غابات الجبال الساحلية. فكل يوم يمر هو يوم إضافي في العد التنازلي لخسارتنا وإلى الأبد لذلك النمر الساحر الفريد.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...