صادف الأمر أن أزور خلال عام واحد سبق بداية الحرب في سوريا، اثنتين من المحميات الطبيعية، الأولى في منطقة جبل عبد العزيز جنوب غرب مدينة الحسكة، والثانية محمية القرين، والتي تُعرف أيضاً باسم جزيرة عايد، وتقع جنوب غرب محافظة الرقة. لكن الحرب جعلت هاتين المحميتين، تتشاركان في الوقف تحت معنى "الاستباحة"، كما غيرهما من أشياء.
هدف الزيارة الأولى كان الاطلاع على بيئة المحمية، ووضع طلاب صف الحادي عشر الذين كنت منهم، في صورة أهمية مثل هذه المحميات للحفاظ على التنوع النباتي والحيواني، خاصةً الغزلان التي كانت تشكل قطيعاً داخل المحمية وصل عدده حتى نهاية العام 2012، إلى 108 رؤوس، وكان سفح الجبل محميةً تحتوي على طيف واسع من النباتات على رأسها أشجار البطم الأطلسي، بالإضافة إلى أشجار اللوز الشرقي والسّويد الفلسطيني والسرو والصنوبر.
الصيد الجائر والمعارك أفضت إلى اختفاء كامل الحيوانات من المحمية، وخسائر كبيرة في الغطاء النباتي.
وقد أخذ جبل عبد العزيز اسمه من مزارٍ لرجل دين يُسبق اسمه حين ذكره من قبل السكان بتسمية، "العارف بالله"، وهو عبد العزيز بن عبد القادر الجيلاني، مؤسس الطريقة الصوفية التي تُعرف باسم "الجيلانية". وضمن بنية الجبل ثمة قلعة تنسب إلى القرية المجاورة لها، وتسمى "قلعة سكرة"، ويُذكر في كتب التاريخ أن المنطقة كانت غابةً كثيفة الأشجار، ويعود السبب الرئيسي في تدهور الغطاء النباتي الطبيعي إلى تمدد المساحات الزراعية خلال أربعينيات القرن الماضي.
وفي هذا السياق، يقول مصطفى العباس، الذي يتحدر من قرية مغلوجة القريبة من الجبل، لرصيف22: "كان جدي من بين الذين اقتلعوا أشجاراً من محيط الجبل ليزرع الأرض بالقمح والشعير، وقد فعل مثله عدد كبير من سكان المنطقة في مرحلة الاحتلال الفرنسي لسوريا، كما أن كبار السن يذكرون في حكاياتهم عن تلك الأيام أن ورشات العمال كانت تقطع الأشجار وتنقلها إلى الثكنات الفرنسية التي تؤمّن بدورها نقل هذه الأخشاب إلى محافظات سورية أخرى".
أُعلن جبل عبد العزيز محميةً طبيعيةً بقرار من وزارة الزراعة السورية عام 1993. كانت الفكرة تقوم على أن تكون مساحتها 4،220 هكتاراً، وبقرارات توسع عدة وصلت المساحة إلى 49 ألف هكتار، وبمشروع مشترك مع مرفق البيئة العالمي وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي كان من المقرر أن تصل المساحة إلى ستين ألف هكتار، بعد انقضاء السنوات السبع التي حُددت كعمر للمشروع الذي أُطلق عام 2005.
محمية جبل عبد العزيز - المصدر: مواقع إلكترونية
تعددت أنواع الطيور في المحمية قبل الحرب، إذ تقول المعلومات التي حصل عليها رصيف22 من مصادر حكومية سورية، إنها كانت تضم أسراباً من طيور الهدهد والدرغل والعصفور والوروار وأبو زريق والباشق والنسر الأسود والنسر الرمادي، فيما يؤكد سكان المنطقة أن المغارات في السفحين الغربي والجنوبي للجبل تُعَدان موطناً لحيوانات كاسرة مثل الذئاب والضباع والثعالب، لكن الصيد الجائر والمعارك التي شهدتها المحمية أفضت في نهاية الأمر إلى اختفاء كامل الحيوانات منها، وخسائر كبيرة في الغطاء النباتي.
غزلان ونباتات
القرين هي جزيرة صناعية تشكلت إثر غمر مياه البحيرة التي تشكلت خلف سد الفرات لمساحات من الأرضي على امتداد 80 كم، وهي جزيرة صغيرة ترتبط ببقية المناطق حولها عبر طريق برّي.
كانت رحلتي إليها ضمن فريق مدرسي، وباشتراك بلغ حينها ألف ليرة سورية، كانت تعادل عشرين دولاراً أمريكياً، تضمنت النقل ووجبتي طعام، والطريف أن الدولار يعادل اليوم 3،850 ليرةً سوريةً، أي أن تكلفة الرحلة تعادل على أسعار الصرف الحالية 25 سنتاً، والمهم في تلك الرحلة أني التقيت بالغزلان مرةً ثانيةً، فالقرين كانت تحتوي على قطيع بلغ تعداده حتى العام 2010 قرابة 140 غزالاً، نصفها من الذكور والنصف الثاني من الإناث، إلا أن هذا القطيع اختفى مع خروج المحمية عن سيطرة الحكومة السورية.
القرين احتوت أيضاً على نباتات الصنوبر والدردار والصرفان والشيح والسرو والعفص، فيما تنوعت الحيوانات فيها بين طيور الصقر والغطاس والنورس والحمام الأزرق والدوري والعصافير والحجل والدرغل، والأرانب البرية والثعالب. وقد شهدت مرحلة ما قبل الحرب عملاً مكثفاً من المؤسسات الحكومية في الرقة لتحويل جزيرة عايد إلى أحد المقاصد السياحية استناداً إلى الموقع والطبيعة، ووجود موقع أثري قريب يُعرف باسم "بنات أبي هريرة".
محمية جزيرة عايد - المصدر: مواقع إلكترونية
خسائر فادحة
الحروب هي المساحة الزمنية لانتشار الفوضى في خط يوازي القتال العسكري. هذه الفوضى فتحت أبواب محميتي جبل عبد العزيز والقرين أمام عمليات التحطيب ورعي المواشي بطريقة عشوائية، بل إن قطعان الغزلان فيها باتت طريدة صيد لمن يحمل سلاحاً، وأفضلية الصيد كانت لممثلي سلطة الأمر الواقع التي تعددت راياتها بطبيعة تعاقب الفصائل والتنظيمات المسلحة في السيطرة على المحميتين، لكن الأثر الأكبر كان لتنظيم "داعش".
وفرضت الحرب إستراتيجيةً عسكريةً على موقع جبل عبد العزيز، الذي يشرف على مساحات سهلية مأهولة بكثافة في شماله، ومساحة من البادية التي تربط محافظات الحسكة ودير الزور والرقة، ولكثافة أشجار المحمية وتعدد المغارات والكهوف في بنية الجبل ما جعله صالحاً للتحول إلى نقطة عسكرية حصينة، وهو واحد من النقاط المرتفعة التي تحتوي على محطات لتقوية البث الإذاعي والتلفزيوني في الحسكة، وعلى أساس كل هذه الأسباب مضافاً إليها عدم وجود قوة عسكرية تمثل الحكومة السورية ضمن الجبل أو في محيطه القريب، فقد اتخذته الفصائل المسلحة نقطةً مناسبةً للتحصن.
محمية القرين نُهبت من قبل من تعاقبوا على السيطرة عليها، فباتت خاويةً من الحيوانات، وعرضةً للتحطيب الجائر والحرائق الناجمة عن الإهمال، وتعرّض موقع "بنات أبي هريرة" فيها للتنقيب العشوائي، ولا يُعرف حجم اللقايا الأثرية التي استُخرجت منه بطريقة غير شرعية
وبعد أن سيطر عليه تنظيم "داعش"، نُهبت المحمية على مستوى الثروة الحيوانية والنباتية، فالتحطيب الجائر بات مهنةً للموالين للتنظيم، وبسيطرة قوات سوريا الديمقراطية على الجبل والمحمية، باتت محطة الإذاعة في أعلاه نقطة اتصالات عسكرية، وتحتوي المحمية على معسكرات للتدريب تابعة لقسد، فيما ترشح معلومات عن قيام الأخيرة بتحصين مقرات دائمة وحفر أنفاق داخل بنية الجبل الصخرية.
محمية القرين هي الأخرى نُهبت من قبل من تعاقبوا على السيطرة عليها، فباتت خاويةً من الحيوانات، وعرضةً للتحطيب الجائر والحرائق الناجمة عن الإهمال، ولعل موقعها بكونها جزيرةً ليس لها إلا طريق واحد يربطها بمساحة البر المحيطة بها، دفع التنظيم لتحويلها إلى معسكر حمل اسم "أبو مصعب الزرقاوي"، خاص بتدريب الأطفال الذين كان يسميهم "أشبال الخلافة"، كما أن عدداً من العوائل الصينية المتحدرة من أقلية "الإيغور"، وجدت خلال الفترة الممتدة بين عامي 2015-2016، في الجزيرة مكاناً مناسباً لتقيم مجتمعاً منعزلاً عن بقية السكان، لكن اقتراب المعارك من الجزيرة، دفع هذه العوائل للرحيل نحو الرقة، ومن ثم دير الزور ولاحقاً إلى جهة مجهولة.
وتعرّض موقع "بنات أبي هريرة" في محمية القرين للتنقيب العشوائي على يد مجموعات متعددة، ولا يُعرف على وجه التحديد حجم اللقايا الأثرية التي استُخرجت منه بطريقة غير شرعية أو عددها، وتشير توقعات مديرية الآثار في مديرية الرقة إلى أن ما عُثر عليه من لقايا بات خارج الأراضي السورية، وسيكون من الصعب التعرف عليه لكونه استُخرج بطريقة غير شرعية. ويتقاسم موقع "بنت أبو هريرة"، الحال مع "قلعة سكرة"، من حيث الأضرار والتنقيب العشوائي في محيطهما، لكن القلعة تحولت بفعل موقعها المرتفع إلى ثكنة عسكرية تتمركز فيها حالياً مجموعات من قوات سوريا الديمقراطية.
محمية جبل عبد العزيز - المصدر: مواقع إلكترونية
لا يمكن الحصول على إحصاء دقيق عن حجم الخسائر في الأشجار، إلا أن التقديرات التي حصل عليها رصيف22، تشير إلى خسارة محمية القرين نحو 25 في المئة من مساحتها الشجرية، فيما تتراوح الخسائر في محمية جبل عبد العزيز ما بين 10 و15 في المئة من عدد الأشجار، وهي نسبة تعني أرقاماً كبيرةً قد تصل إلى نحو 40 ألف شجرة متنوعة قُطعت من المحمية. ومن وجهة نظر المصادر الحكومية السورية، فإنه لا يمكن التثبت من هذه النّسب إلا في حال عودتها إلى المحميتين وإجراء مسح لتقييم حجم الأضرار على أرض الواقع.
ماذا لو؟
تشكل المحميتان في ذاكرة سكان المنطقة علامات فارقةً، فمثلاً كان الآشوريون يحتفلون في الأول من شهر نيسان/ أبريل برأس السنة وفقاً لتقويمهم، بالقرب من محمية جبل العزيز، بطريقة كرنفالية يتجمعون فيها من كل قراهم التي تُعرف باسم قرى الخابور، لكونها تتوزع على ضفتي هذا النهر، فيما تُعدّ زيارة جزيرة عايد وركوب قارب ضمن بحيرة سد الفرات خطوتين أساسيتين من أي نزهة إلى تلك المنطقة.
لا يمكن الحصول على إحصاء دقيق عن حجم الخسائر في الأشجار، إلا أن التقديرات التي حصل عليها رصيف22، تشير إلى خسارة محمية القرين نحو 25 في المئة من مساحتها الشجرية، فيما تتراوح الخسائر في محمية جبل عبد العزيز ما بين 10 و15 في المئة من عدد الأشجار
والبحث عن إجابة سؤال "ماذا لو؟"، له شقّان، الأول يأخذني نحو التفكير في واقعهما لو لم تقع الحرب في سوريا أساساً، وتشير التقديرات هنا إلى أن قطيع الغزلان كان يجب أن يصل إلى نحو 400 رأس في جبل عبد العزيز، ومثلها في القرين، مع تحقيق هدف 60 ألف هكتار من المساحات الشجرية في جبل عبد العزيز خلال العام 2012، وتالياً الانتقال إلى خطوة جديدة تصل بالمحمية إلى زيادة مساحتها لتصل إلى 80 ألف هكتار، وهو رقم سهل التطبيق قياساً إلى إمكانات ما قبل الحرب، فيما سيكون الغطاء النباتي في القرين، كثيفاً بما يسمح بتكاثر آمن للحيوانات التي كانت تتخذ من المحمية موطناً.
الشق الثاني من السؤال، يأخذني نحو معرفة ماذا لو انتهت الحرب؟ ما الذي سيحدث؟ لكن الإجابة عليه مبهمة تماماً، فكلاهما منطقة عسكرية حالياً، ولا تمتلك الجهات الحكومية أي تصور عن واقعهما، وعليه من غير الممكن تخيل ماذا يمكن أن أجد حين زيارتهما بعد انقضاء الحرب، إن انقضت.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
HA NA -
منذ 3 أياممع الأسف
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت بكل المقال والخاتمة أكثر من رائعة.
Eslam Abuelgasim (اسلام ابوالقاسم) -
منذ أسبوعحمدالله على السلامة يا أستاذة
سلامة قلبك ❤️ و سلامة معدتك
و سلامك الداخلي ??
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعمتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينعظيم