هُرع الطفل النحيل كمال (اسم مستعار) مرتجفاً، بمجرد سماعه سارينة الشرطة، مسرعاً ركل باب منزله وارتمى خائفاً باكياً في حضن أمه اللاجئة السودانية في مصر؛ خشية أن تفرقه الشرطة عن أسرته. مزّق قلب أمه عالية (اسم مستعار) نوعان من الألم: ألم حادثة الاغتصاب التي تعرضت لها قبل 14 عاماً، وألم الحزن على طفلها المحروم من إثبات هُويته.
تشعر عالية دائماً أنه سيُنتزع منها، ولا يمكنها إثبات نسبه لها؛ لذلك تمنعه من الخروج للشارع.
وفق تقرير "خطة استجابة مصر لدعم اللاجئين وملتمسي اللجوء من دول إفريقيا وجنوب الصحراء والعراق واليمن للعام 2020"، الصادر عن المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين بالقاهرة، بالشراكة مع هيئة كير الدولية -وهو آخر تقرير صدر بهذا الخصوص- سُجّل ألف و312 بلاغاً عن حالات عنف جنسي في الأشهر العشرة الأولى من العام 2019، شكّل الأفارقة نسبة 90 في المئة من الناجين منها.
ولا يزال الاغتصاب الجريمة الأكثر انتشاراً بين جرائم العنف الجنسي المبلغ عنها، فبين 142 حالة عنف جنسي -منها 89.4 في المئة من النساء والفتيات، و10.6 في المئة من الرجال والفتيان في تشرين الأول/أكتوبر 2019- 85 منها هي حالات اغتصاب (60.7 في المئة) من إجمالي الحوادث المبلغ عنها.
يكشف هذا التحقيق تقصير المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين في مصر، ووزارة الداخلية المصرية ممثلة في جهاز الشرطة، في تقديم الدعم القانوني للناجيات لإثبات وقائع الاغتصاب، وإثبات المواليد ضحايا هذه الحوادث.
دراسات وتحقيقات متتالية، تحدثت عن الاعتداءات الجنسية التي تتعرض لها لاجئات في مصر، ولكنّ مواد إعلامية قليلة وغير مفصلة، هي التي تشير إلى وجود ضحايا جدد نِتاج هذه الجريمة؛ هؤلاء الضحايا هم المواليد الذين جاءوا على إثرها.
لا ترسل مصر اللاجئين واللاجئات إلى مخيمات -كما الحال في الأردن ولبنان مثلاً- ولكنّها تفتح لهم المعابر للاندماج داخل المجتمع المصري، فيتقاسمون مع المجتمع يومياته، وتتولى المفوضية السامية لشؤون اللاجئين تسجيل وثائق المهاجرين، وتحديد وضعهم القانوني، ويخضعون جميعاً لقوانين الدولة
وعلى الرغم من عدم وجود إحصائية دقيقة ترصد عدد اللاجئين إلى مصر -خاصة مع تدفق الفارين من السودان في أحداثه الأخيرة، بين القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع في نيسان/أبريل 2023؛ إذ لم يُصنفوا بعد كمهاجرين أو وافدين أو لاجئين- إلا أنه وبحسب الإحصائية الدورية الصادرة عن المفوضية في نيسان/إبريل 2023، يوجد 293 ألفاً و678 لاجئاً ولاجئة، مسجلون لدى المفوضية في مصر، 50 في المئة منهم سوريون. بينما يحتل السودان وجنوب السودان المرتبة الثانية من حيث نسبة اللاجئين، تليهما دول إفريقية كإرتيريا وإثيوبيا وغيرها؛ لكن لا توجد أرقام دقيقة عن عدد اللاجئات من النساء في مصر.
استطاعت "عالية" اللجوء إلى مصر بصحبة أسرتها عام 2005، بعد خروجها من السودان؛ من أجل حماية طفليها من الحرب وتوفير حياة آمنة لهما. بعد أزمة دارفور، نزحت إلى مدينة نيالا وقبعت في المخيمات هناك، ولكنّها لم تحتمل الأوضاع المعيشية، وكانت ترى النساء تُغتصب أمام عينيها؛ فقررت الانتقال إلى مصر بطفليها. لم تكن "عالية" تعلم ما يخفيه القدر لها بعد أربع سنوات من لجوئها إلى مصر؛ حيث قام مجهولان عام 2009 بخطفها لمدة عام ونصف العام، تعرضت خلالها للاغتصاب المتكرر، نتج عنه حملها بـ "كمال"، الذي وضعته في مصر، وتَحمّل تبعات ذلك الحادث، بحرمانه من امتلاك أي أوراق ثبوتية.
عنف مبني على النوع
في مصر، تنتشر جرائم العنف المبني على النوع الاجتماعي، خاصة جرائم العنف الجنسي، كالتحرش والاغتصاب؛ وتطبّعت الثقافة المجتمعية المصرية مع مثل هذه الجرائم، فغالباً ما يُلقى اللوم على الضحية وتوصم مجتمعياً، ويتطوع المجتمع في البحث عن مبررات للجناة، ناهيك عن ثغرات القانون التي تهدر حق الضحايا.
سجل مرصد العنف القائم على النوع الاجتماعي، التابع لمؤسسة "إدراك للتنمية والمساواة"، 523 جريمة عنف ضد النساء مسجلة رسمياً، منها 17 واقعة اغتصاب، ومن المرجح أن يكون العدد أعلى من ذلك بكثير؛ بسبب خوف الناجيات -خاصة ضحايا العنف الجنسي- من الإبلاغ وسلوك المسار القانوني.
وللاجئات نصيب مما تعانيه المصريات، خاصة مع وضعهن الهش وتدني أحوالهن المعيشية، التي تدفعهن للسكن في مناطق عشوائية خطرة، أو القبول بأعمال تزيد من تعرضهن لخطر الاغتصاب.
بعدما بدأت علامات الوضع بالظهور على "عالية"، وكاد الألم يفتك بأحشائها، دفعها خاطفاها داخل سيارة، واتجها بها إلى مستشفى 6 أكتوبر في محافظة الجيزة. رفضت المستشفى استقبالها من دون الزوج أو أي أوراق ثبوتية؛ فتركاها على كرسي أمام المستشفى تتألم، ولاذا بالفرار. بأسى تقول عالية: "بعد أن تفاقم ألمي، سقط جنيني على الأرض".
بسبب الصدمة النفسية؛ لا تتذكر"عالية" الكثير عن الولادة، لكنّها تتذكر إلحاح العاملين بالمستشفى على معرفة أي شخص يأتي لاستلامها، وبعدما استطاعوا الوصول لزوجها (الذي كان يبحث بدوره عن زوجته)، قاموا بإصدار إخطار ولادة الطفل باسمه، ولكنّه أنكر نسب الطفل فيما بعد،
وتوعد "عالية" بقتلها وطفلها بدافع الانتقام لشرفه؛ ما دفعها للهرب بالطفل، بعدها توجهت للمفوضية وقابلت أحد المحامين، ووعدتها المفوضية بمتابعة القضية.
بعد أربعة أيام، رافقت عالية إحدى محاميات المفوضية لعمل محضر بالواقعة، بعد أن رفض زوجها تسجيل الطفل باسمه، لكنّ المحامية سافرت بعد فترة، ولا تعلم عالية مصير ذلك المحضر. وبعد مضي ثلاثة عشر عاماً من ولادة كمال، لم يحصل على شهادة ميلاد حتى تاريخ نشر هذا التحقيق.
في 19 تشرين الثاني/نوفمبر 2021، أصدرت لجنة القضاء على التمييز ضد المرأة، ولجنة حقوق الطفل، التابعتان لهيئة الأمم المتحدة، تقريرهما -للمرة الأولى- بشأن المواليد نتيجة جرائم الاغتصاب، في سياق "النزاع المسلح: الضحية الثانية للجريمة"، أشار التقرير إلى أنه بسبب عدم حق الأم في أن تُسجل طفلها؛ يُحرم من الجنسية، وما يترتب عليها من الحرمان من جميع حقوقه.
بسبب عدم قدرة عالية على تسجيل طفلها، حُرم كمال من تلقي الرعاية الصحية في مرحلة مبكرة من ولادته، كما حُرم من تلقي التطعيمات الأساسية التي تساوي فيها الدولة بين أطفال المصريين واللاجئين
بسبب عدم قدرة عالية على تسجيل طفلها، حُرم كمال من تلقي الرعاية الصحية في مرحلة مبكرة من ولادته، كما حُرم من تلقي التطعيمات الأساسية التي تساوي فيها الدولة بين أطفال المصريين واللاجئين، ولم تستطع تحمّل نفقات إعطائه هذه التطعيمات بالمستشفيات الخاصة؛ فعاشت لسنوات أسيرة رعب شديد، من أن يصاب طفلها بأي من الأمراض التي يجري تحصين أقرانه ضدها.
"مشكلة اختلاف لون بشرته، مؤثرة جداً مع الجيران وفي البيت، فابني الأصغر دائماً يقول له أنت أبيض أنت مصري فلاح"، فتضطر "عالية" إلى أن تخبئ صغيرها في المنزل
تقول "عالية": "مشكلة اختلاف لون بشرته، مؤثرة جداً مع الجيران وفي البيت، فابني الأصغر دائماً يقول له أنت أبيض أنت مصري فلاح". لون بشرة كمال المائلة للقمحية تعرضه للتمييز بين إخوته، وتثير الفضول والشك من حوله خارج المنزل؛ فتضطر "عالية" إلى أن تخبئ صغيرها في المنزل، وتمنعه من النزول للشارع، حتى لو برفقتها أو رفقة أخيه؛ خوفاً من أن يبلّغ عنها أحد الجيران، أو يشتبه فيها أحد أفراد الأمن، المنتشرين في ميادين مصر.
تتردد "عالية" على مكتب المفوضية بشكل شبه يومي، منذ 13 عاماً، تطلب فيها مساعدته في الشق القانوني كي تستطيع تسجيل طفلها، في محاولة منها لإنقاذ مستقبله وإثبات وجوده؛ ولكنّ طلباتها تقابل بالتسويف، وفق قولها: "حتى العام الماضي، أحاول مع المفوضية تسجيل الطفل، ولكن يقولون ليس لديهم محامٍ الآن، أو إن المحامي المتابع لملفكِ أنهى عمله وسنبحث عن آخر، أو ارجعي وسنتصل بكِ لاحقاً".
على الورق، فإن كمال غير موجود بالنسبة للدولة المصرية والمفوضية أيضاً؛ لذا حُرِم من حقه في الالتحاق بالمدرسة؛ ما دفع عالية لإلحاقه بشكل غير رسمي بإحدى المدارس الخاصة، وتحمل دفع كامل مصروفاته، التي تقدر بنحو 350 دولاراً تقريباً، وهذا ما لا يتناسب مع دخلها؛ لأنها تعمل بالأجر اليومي في المنازل، أو في تنظيم حفلات الحناء للعرائس بأجر يومي زهيد، لا يتجاوز 10 دولارات.
غير أن وجود ابنها في المدرسة "شبحي"؛ إذ لا يمكنه تأدية امتحانات الصف مع أقرانه، لعدم تسجيل اسمه على الأوراق الرسمية.
بحسب شروط المفوضية، لا غنى عن شهادة ميلاد تُثبت وجود الطفل ونسبه، لحصوله على بطاقة اللجوء؛ لذلك لا تحق لكمال الاستفادة من الخدمات التي تقدمها المفوضية، سواء كانت تحمّل جزء من مصروفات المدرسة، أو صرف معونة شهرية، أو حتى الحصول على كسوة، ولا يمكنه المشاركة في أغلب الأنشطة التي تنظمها الهيئات المعاونة للمفوضية للأطفال، فلا أوراق تُثبت وجوده.
تقول اختصاصية نفسية بمؤسسة شريكة للمفوضية (طلبت عدم الكشف عن هُويتها)، إنها تطلب أحياناً من الأم إحضار "كمال" للمؤسسة، وإشراكه في بعض الأنشطة بشكل ودي؛ لتخفيف العبء النفسي عنه بشعوره مختلفاً عن كل الأطفال من أبناء جاليته، وعادة يُتخذ الإجراء نفسه مع الحالات المماثلة لكمال، ولكن هذا لا تسمح به اللوائح الداخلية للمؤسسة، ولا يستطيعون إشراكه في الفاعليات الكبرى، التي تتطلب هويات الأطفال المشاركين وذويهم.
مواد قانونية واضحة وغير فاعلة
يحدث هذا التلكؤ والتسويف، على الرغم من أن قانون الطفل رقم 126 لسنة 2008 من القانون المصري في مادته رقم (6)؛ ينص على أن "لكل طفل الحق في اكتساب الجنسية وفقاً لقانون الجنسية المصرية".
كما نصت المادة (7) من اتفاقية حقوق الطفل، التي وقعتها مصر في العام 1990، على حق الطفل في التسجيل فور ولادته، واكتساب الجنسية، كما له الحق -قدر الإمكان- في معرفة والديه. وتكفل الدول الأطراف تطبيق هذه الحقوق، وفقاً لقانونها الوطني.
ضحية الثقة
الطفل كمال ليس وحده المحروم من التسجيل الرسمي في مصر؛ إذ تقاسمه في ذلك "وعد" (اسم مستعار) ذات الأربعة أشهر، فالمشكلة نفسها "لوناً" ومضموناً.
وعد أيضاً، ضحية جريمة استدراج وخطف واغتصاب لوالدتها. ففي العام 2022، اضطرت اللاجئة السودانية "مريم" (اسم مستعار)، إلى ترك منزلها في أول أيام عيد الفطر، ولأنها تعمل في رسم الحناء وتنظيف المنازل؛ لم يكن معها ما يكفي من الأموال لتستأجر منزلاً مؤقتاً، فاضطرت إلى اصطحاب أولادها الأربعة لإحدى الحدائق العامة.
قامت امرأة باستدراجها، مدّعية أن لديها بيتاً يمكن أن تسكن فيه، مقابل قيامها بالأعمال المنزلية. وثِقَت بها "مريم"؛ معتقدة أنها سيدة مثلها ولن تضرها، وهناك تمّ اختطافها، هي وأطفالها، وتعرّضت للاغتصاب المتكرر، وبعد بضعة أيام؛ استطاعت الفرار بأبنائها الأربعة في يدها… والخامسة تتكون في رحمها.
لم تكن هذة المرة الأولى التي تتعرض فيها مريم للاغتصاب، فقبل ستّ سنوات من هذة الحادثة، كانت في لحظاتها الأولى على أرض مصر، حينها تعرضت للاغتصاب على يد سمسار عقارات
لم تكن هذة المرة الأولى التي تتعرض فيها مريم للاغتصاب، فقبل ستّ سنوات من هذة الحادثة، كانت في لحظاتها الأولى على أرض مصر، حينها تعرضت للاغتصاب على يد سمسار عقارات، حيث كانت تبحث عن سكن يأويها وأبناءها؛ فعندما ذهبت للمعاينة، وأمام أعين أطفالها، انقض عليها السمسار مغتصباً، وبعد مرور ثلاثة أشهر علمت أنها حامل.
صعوبات في مراكز الشرطة
تفتقر الشرطة المصرية إلى الإجراءات التي تراعي النوع الاجتماعي، والمعاملة الحساسة لجرائم العنف الجنسي، وعلى الرغم من انتشار صور لشرطيات يجُبن الشوارع في الأعياد؛ إلا أنه نادراً ما توجد شرطية داخل أقسام الشرطة.
مسرعة اتجهت مريم لقسم شرطة الدقي، بعدما قابلت الجاني في منطقة تابعة للقسم، وحاولت تحرير محضر؛ لكن قُوبلت شكواها بالتشكيك، حاولت إثبات حقيقة ادّعائها، لكنّها تعرضت لمضايقات من أفراد الشرطة الذين امتنعوا عن تحرير المحضر، إلا بعد تزويدهم بالاسم الثلاثي للجاني.
تقول مريم: "حاولت إقناعهم بأنني أعرف المقهى الذي يرتاده الجاني، لكن رفضوا مساعدتي في تحرير المحضر".
توجهت مريم للمفوضية التي وكلت لها محامياً؛ لمساعدتها في تسجيل مهند (الطفل الناتج عن الاغتصاب) وبعد عدة أشهر من محاولات تسجيله رسمياً بالشكل القانوني، انتهى الأمر بتسجيله بشكل ودي بمساعدة المحامي، وأُرجع نسبه لجد الأم. شعرت مريم بأنها حققت إنجازاً، خاصة بعد ما استطاعت أن تتخلص من غضبها تجاه الطفل، وبدأت تتولد مشاعر حميمية بينهما؛ ولكن سرعان ما تبدّل حالها مجدداً، ففي محضر شهادة الميلاد، كُتب في بيانات عقد الزواج "طفل سفاح"؛ ما يعني أن ختماً أبدياً سيظل يلاحقها وطفلها، يُذكّرها بما عانته، ويوصم طفلها إلى الأبد.
تقول مريم: "الشيء الأكثر أسفاً، هو ما كُتب في محضر شهادة ميلاد الطفل، بأنه طفل سفاح". غضبت مريم بشدة؛ لأن معها تقارير طبية تثبت إنجاب الطفل نتيجة حادث اغتصاب وليس سفاحاً.
لم تستطع مريم الذهاب مرة أخرى إلى قسم الشرطة، لتصحيح ماكُتب في المحضر، وتقديم التقارير الطبية المثبتة فيها واقعة الاغتصاب؛ وذلك خوفاً مما قد تتعرض له -مرة أخرى- من التعامل بالتحقير والسباب، والاتهام بممارسة علاقات غير شرعية.
لو مشيتي للقسم بهدلوكي ويقولوا ألفاظ وحشة... ما فيش أدب... ما فيش احترام... الألفاظ بتاعتهم وحشة... وحشة... وحشة
الشرطة ليست الجهة الوحيدة التي خذلت "مريم"، واتهمتها بالعمل في الجنس التجاري، ولكن تعرضت للاتهام نفسه من أحد أطباء مستشفى الشاطبي الجامعي بالإسكندرية؛ لأن الاعتقاد السائد أن اللاجئات يقمن بادعاء مثل هذة الحوادث، من أجل تسريع عملية إعادة توطينهن في دول أوروبية.
بنبرة يائسة قالت مريم: "رفض طبيب بمستشفى الشاطبي العام في الإسكندرية إسعافي في الشهر السابع من حملي إلا بوجود زوجي، قلت له إن زوجي غير موجود؛ لكنّه اتهمني بالعمل في الدعارة، شرحت له حالتي وأخبرته عن الألم الذي أشعر به، ومعي تقارير حالتي الصحية؛ إلا أنه رفض إسعافي".
رفض قسم الشرطة تحرير محضر مرة أخرى لها، وطلب منها إحضار إخطار من المفوضية ومحامٍ؛ كي يحرروا محضراً لإثبات الواقعة. لم تكن أمامها إلا المفوضية، تلجأ إليها للحصول على الدعم القانوني؛ لكنّ المفوضية تنصلت من مسؤوليتها، وطلبت منها الرجوع لقسم الشرطة مرة أخرى، وإلى تاريخ نشر هذا التحقيق؛ لم تتحرك المفوضية مع مريم لإثبات نسب طفلتها.
أغلب اللاجئين لا يعلمون
أشرف ميلاد، المحامي المختص في شؤون اللاجئين، يقول: "من حق محامي الضحية -إذا امتنع قسم الشرطة من تحرير محضر إثبات الواقعة- أن يتجه للنيابة؛ لكتابة خطاب موجة لقسم الشرطة المعني بالحادث، يلزمه بتحرير محضر بالواقعه". ولكنّ أغلب اللاجئات يجهلن هذه القاعدة القانونية.
أفراد الشرطة جزء من المجتمع المصري، وعلى الأغلب يكونون متأثرين بالثقافة المجتمعية في التعامل مع ضحايا الاعتداءات الجنسية، ومقابلة ادعاءاتهن بالتشكيك ولوم النساء.
ويضيف أشرف قائلاً: "أحياناً تتعمد أقسام الشرطة عدم تحرير محاضر إثبات وقائع الاغتصاب؛ لاعتقادها بكذب أغلب الضحايا، وهناك شائعات تقول بوجود توجيهات لتقليل عمل محاضر اعتداء على اللاجئين واللاجئات".
يقول أشرف: "محضر واقعة الاغتصاب ليس شرطاً لإثبات المولود، لأن شروط إثبات الواقعة -رغم العقوبة التي تصل للإعدام- بالغة الصعوبة؛ أحياناً تكون مرتبطة بالخطف مكان غير معلوم، أو عدم معرفة الضحية بأي معلومة عن الجاني، في هذة الحالة يُحفظ المحضر، فيكفي فقط إثبات الحمل في محضر رسمي، ونسب الطفل لأمه، وبعد الولادة، يُسجل في مكتب الصحة بشكل طبيعي".
ويشير أشرف إلى أن دور المفوضية هو تحويل القضية لأحد المحامين التابعين للهيئات القانونية المعاونة لها، لأنها الجهة الوحيدة التي تستطيع السير في الإجراءات الخاصة بمجتمع اللجوء.
كان "مهند" أكثر حظاً من شقيقته الصغرى "وعد"، فبالرغم من أن تطعيمات المواليد فاتته؛ لكنّه استطاع التقدم للالتحاق بالمدرسة، ولديه شهادة ميلاد رسمية، تُثبت حقه في الحياة. أمّا وعد، فلا تزال أمها في محاولاتها، بين قسم الشرطة والمفوضية؛ من أجل تسجيل طفلتها وإثبات نسبها إليها.
شهادة ميلاد الطفل -مهما كانت جنسية والديه- هي الوثيقة الوحيدة لإثبات وجوده في الحياة، وبها يمكن إصدار الأوراق الرسمية الأخرى.
معجزة مع وقف التنفيذ
على الورق، "معجزة" (اسم مستعار) ذات السبعة أشهر لديها والدان، لكن رسمياً، هي غير مسجلة ضمن الأحياء؛ فبالرغم من حصول والدتها على قسيمة زواج صورية، لكنّ الصغيرة تقضي سنتها الأولى من دون ورق ثبوتي.
استهلت "عتاب" (اسم مستعار)، اللاجئة من جنوب السودان حديثها معنا بأنها حاولت الانتحار لتتخلص من حياتها وحياة جنينها معاً، بعد أن استدرجها متعهد عاملات منازل سوداني؛ وقام بخطفها واغتصابها لمدة ثلاثة أيام، استطاعت الهرب من الشقة المحبوسة فيها، بمساعدة صاحب العقار.
تقول مريم: "الشيء الأكثر أسفاً، هو ما كُتب في محضر شهادة ميلاد الطفل، بأنه طفل سفاح". غضبت مريم بشدة؛ لأن معها تقارير طبية تثبت إنجاب الطفل نتيجة حادث اغتصاب وليس سفاحاً
بدأت علامات الحمل بالظهور عليها بعد فترة، سرعان ما توجهت للمفوضية للإبلاغ عن الحادث، وطلب المساعدة القانونية وتحرير محضر؛ لكنّهم طلبوا منها معرفة اسمه الحقيقي بالكامل، لأن اسمه المعروف مجرد لقب للشهرة. بعدها بدأت تستقبل من "الجاني" مكالمات تهديد؛ إذا قامت بتحرير محضر.
لم تحتمل عتاب -التي لم تتجاوز 23 عاماً من العمر- مسؤولية طفل آخر بجانب إعالتها لأمها الكفيفة، وطفلي شقيقتها المتوفاة؛ فحاولت إجهاض نفسها، وأُنقذت في اللحظات الأخيرة، وهذه المرة وضعتها المفوضية -عن طريق شريكتها هيئة "كير"- تحت الرعاية في إحدى المصحات النفسية، لتلقي العلاج حتى الولادة.
"هي معجزة، أتت رغم كل الظروف ومحاولات الإجهاض والانتحار التي قمت بها، وصحتي المتدهورة والحمل غير المستقر؛ ما كان يُنذر بالإجهاض الطبيعي… لكنها تمسكت بي رغم كل محاولاتي للتخلص منها"، هكذا تصفها "عتاب" بعد أن تجاوزت صدمتها، وتولدت لديها مشاعر الأمومة تجاهها.
وعلى الرغم من معرفتها بكل تفاصيل الجاني -لأنه معروف وسط الجالية السودانية- لم تستطع الإبلاغ عنه، بعد سماعها تجارب الناجيات السابقات، وخصوصاً مع بطء المفوضية في تقديم الخدمات القانونية وحماية الناجيات؛ فآثرت الحل العُرفي، وتوسطت والدتها لدى مجلس السلاطين (مجلس عرفي لجالية جنوب السودان في مصر) للحصول على أب متبرع تنسب إليه الطفلة، وبالفعل وجدت أحد أبناء قبيلتها، الذي وافق على نسب الطفلة إليه وتسجيلها باسمه.
على الأب المتبرع دَين ضخم متراكم من المصروفات الجامعية، 700 جنيه إسترليني لا يستطيع سداده؛ لذلك امتنعت الجامعة عن إعطائه أوراقه الرسمية لتحديث جواز السفر الخاص به (إثبات الهوية أمام القانون المصري)، كي يستطيع تسجيل الطفلة. طلب من "عتاب" أن تسدد عنه الدين؛ لكنّها لا تستطيع تحمّل المبلغ كاملاً. توجهت إلى كل هيئات الإغاثة، لكنّها لم تتلقَ المساعدة المالية المطلوبة. بمرور الوقت، ازداد وضعها صعوبة، فهي تفكر في العودة إلى بلدها أو السفر إلى بلد آخر؛ ولكنّها لا تستطيع التحرك مصطحبة طفلة، من دون شهادة ميلاد.
تخشى "عتاب" الخروج بابنتها للشارع؛ إذ يلازمها شعور بأن الناس ستعرف أنها لا تملك وثيقة ميلاد رسمية لابنتها "معجزة"، وتخشى أن يفرقوا بينهما. تعرضت ذات يوم لحادثة تعدٍ جسدي؛ إذ تنمّر عليها أحد المارة، ولمّا وبخته رماها بألعاب نارية وقعت داخل ملابسها، وتسببت لها بحروق سطحية. تراجعت "عتاب" عن حقها في شكواه للشرطة؛ خوفاً من أن يسألوها عن إثبات للطفلة، تقول بحرقة: "تعرضنا للموت، كانت الطفلة معي، والآن أريد أن أغلق ملفي لدى المفوضية وأعود لبلدي، أموت في وطني من الجوع، ولا أموت هنا في حادث أو أفقد ابنتي".
إلى الآن، لم تنشر المفوضية أي إحصائية بعدد جرائم الاغتصاب المثبتة لديها، أو عدد الأطفال نِتاج الاغتصاب، أو أي إشارة لهذة القضية في تقاريرها.
قامت معدّة التحقيق -عبر البريد الإلكتروني- بإرسال عدّة خطابات للمكتب الإعلامي للمفوضية وهيئة "كير"؛ من أجل الحصول على معلومات تخص أعداد البلاغات المسجلة لديهم، ورد من المفوضية يوضح موقفها في تسجيل الأطفال ضحايا الاغتصاب. وأرسلت أيضاً رسائل مشابهة لوزارة الداخلية، لتوضيح ما يجري مع المغتصبات الإفريقيات في مراكز الشرطة؛ ولكن لم تتلقَّ رداً حتى نشر هذا التحقيق.
أنجز هذا التقرير بدعم من أريج
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...