لا تزال الحيرة تتملك نجلاء عثمان (اسم مستعار)، في كيفية حصول رضيعها على جرعة التطعيم الثانية التي حان موعدها قبل 12 يوماً، في ظل صعوبة التنقل داخل العاصمة الخرطوم، وإغلاق معظم المراكز الصحية والمشافي وعدم وجود بوادر أمل في توقف الاشتباكات بين الجيش والدعم السريع.
وتقول لرصيف22، إنها تُجري اتصالات عديدةً بأفراد أسرتها ومعارفها المنتشرين في عدد من الأحياء للاستعلام عن مركز طبي يُقدّم اللقاحات، لتعثر في النهاية على الجرعة في مركز في سوبا شرق الخرطوم، لكنها لم تستطع الذهاب إليه من محل سكنها القائم في السامراب، بسبب تكلفة الرحلة الباهظة.
وتشير إلى أن سائقي السيارات الصغيرة التي تعمل داخلياً، طلبوا منها 450 ألف جنيه (750 دولاراً)، مقابل الرحلة ذهاباً وإياباً. وتضيف: "زوجي يعمل بأجر يومي في بناء المنازل ولا يملك هذا المبلغ".
الخطر الأكبر الذي يُواجه أطفال السودان حالياً، هو الانتشار العسكري الكثيف في الأحياء السّكنية ومحاولات اللعب بالقذائف غير المتفجرة التي تُطلق عشوائياً
وضع حرج للغاية
واندلعت اشتباكات عنيفة بين الجيش وقوات الدعم السريع شبه العسكرية، في 15 نيسان/ أبريل الماضي، داخل العاصمة الخرطوم ومدن أخرى، قبل أن تتحول هذه الاشتباكات في مدينة الجنينة في ولاية غرب دارفور، إلى نزاع على أساس عرقي، قاد إلى وقوع عشرات الضحايا وفرار الآلاف من بينهم فاطمة.
كان طفل فاطمة الوحيد يتلقى غذاءً علاجياً من منظمة الأمم المتحدة للطفولة "يونيسيف"، لعلاج سوء التغذية الحاد الذي يُعاني منه. وهذا الطفل هو واحد من نحو 50 ألف طفل معرضين للموت بعد انقطاع العلاج المنقذ للحياة.
تقول فاطمة لرصيف22: "نحن الآن فارّون للحفاظ على حياتنا، وبعد أن نجد الأمان سأفكّر في علاج طفلي".
ودعا اختصاصي طب الأطفال عبد المنعم محمد، الأهالي لحماية أطفالهم ومنعهم من ملامسة القذائف غير المنفجرة، إذ إنها إذا ما تفجرت يمكن أن تودي بحيواتهم في ظل صعوبة وصول الأطباء إلى المشافي.
ويوضح محمد، خلال حديثه إلى رصيف22، مخاطر عدم تناول جرعات التطعيم للأطفال الرُضّع في مواعيدها، ويقول إن عدم حدوث ذلك يجعل الطفل أكثر عرضةً للإصابة بالأمراض التي تتم الوقاية منها باللقاحات، خاصةً المميتة منها مثل الحصبة وشلل الأطفال والكوليرا.
تفيد اللجنة التمهيدية لنقابة الأطباء بخروج 70% من المشافي المتاخمة لمناطق الاشتباكات في العاصمة الخرطوم والولايات الأخرى، من الخدمة، حيث تعطل عمل 61 مستشفى أساسياً من أصل 86، فيما المستشفيات المتبقية (عددها 25 تقريباً)، تُقدّم الإسعافات الأولية فقط.
وتعرّض 15 مشفى للقصف منذ اندلاع الاشتباكات في 15 نيسان/ أبريل الماضي، زيادةً على تعرض 19 مشفى للإخلاء القسري. وإذا أُضيف إلى ذلك ضعف الإمدادات الطبية وقلة الكوادر وتأثر المستشفيات بانقطاع المياه الجارية والكهرباء وشح الوقود، فذلك يعني أن النظام الصحي على وشك الانهيار، مما يجعل ملايين الأطفال عرضةً للموت البطيء في حال انعدام العلاج.
الملايين من الأطفال السودانيين لم يتلقّوا اللقاحات الكافية، مما يعرضهم لأمراض مميتة مثل الحصبة وشلل الأطفال
المزيد من الأزمات
وقدّر مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية في شباط/ فبراير 2023، احتياج 4 ملايين طفل دون سن الخامسة، ونساء حوامل ومرضعات إلى خدمات التغذية الإنسانية المنقذة للحياة هذا العام، إذ يعانون من سوء التغذية الحاد، منهم 611 ألفاً يواجهون سوء التغذية الحاد الوخيم.
وسلطت "يونيسيف" ومنظمة رعاية الطفولة ومنظمة الرؤية العالمية، الضوء على المخاطر التي تهدد الأطفال في حال استمرار الاشتباكات، ومنها الحرمان من الرعاية الصحية واحتمال تعرضهم للمزيد من الانتهاكات الجسيمة بما في ذلك التجنيد والاستخدام من قبل الجماعات المسلحة والعنف الجنسي.
وقالت هذه المنظمات الثلاث، في بيان مشترك، إن سلسلة التبريد التي تحافظ على صلاحية اللقاحات تأثرت بالانقطاع المستمر في الطاقة والوقود، مما يعرّض حيوات ملايين الأطفال للخطر في بلد معدلات التطعيم فيه في تراجع بالفعل، ويواجه فيه الأطفال تفشي الأمراض بشكل منتظم.
وتضيف: "الملايين من الأطفال الذين لم يتلقّوا اللقاحات الكافية، أو الذين لم يتلقّوا أي جرعة، سيفقدون الوصول إلى اللقاحات المنقذة للحياة، مما يعرضهم لأمراض مميتة مثل الحصبة وشلل الأطفال".
وتشير ممثلة اليونيسيف في السودان مانديب أوبراين، إلى أن الأطفال هم من يتحملون وطأة النزاع. وتقول: "إنهم يموتون، ومستقبلهم يُسلَب منهم. ستستمر آثار منع تلقّي الأطفال الأكثر هشاشةً خدمات الصحة والحماية والتعليم مدى الحياة. يجب أن يتوقف القتال حتى نتمكن من الوصول بشكل أفضل إلى جميع الأطفال المعرضين للخطر أينما كانوا على وجه السرعة".
وأفادت وزارة الصحة في 14 آذار/ مارس، بأن 38% من حالات وفيات أطفال السودان سببها سوء التغذية، كما يُعاني 14% منهم من الهزال و36% من التقزم.
التعليم... قصة أخرى
وتحدّث بيان المنظمات الثلاث عن أن إغلاق المدارس دفع الملايين من الأطفال إلى الخروج من فصولهم الدراسية، بحيث تركت فتاة من كل ثلاث فتيات، وفتى من كل أربعة فتيان، الدراسة لأنهن/ م غير قادرات/ ين على التعلم.
ويضاعف هذا من أزمات التعليم المتأصلة في البلاد، خاصةً في ما يتعلق بجودته، إذ إن 70% من أطفال السودان في سن العاشرة غير قادرين على القراءة، بالإضافة إلى وجود 7 ملايين طفل في سن الدراسة غير ملتحقين بالمدارس. وكان السودان يعيش في أزمة تسرب الأطفال من المدارس نتيجة الفقر، مما يجعل الأسر تضطر إلى الاستعانة بهم في أعمال الرعي والزراعة أو كعمال في مهن لا تتناسب مع أعمارهم، مثل المصانع أو حمل احتياجات الناس في عربة صغيرة تُدفع بالأيدي تُسمي "الدرداقة" (حمّالين).
وتفاقم هذا الوضع مع الإغلاق المتكرر للمدارس بواسطة لجنة المعلمين السودانيين، وهي هيئة نقابية، ابتداءً من 8 كانون الثاني/ يناير هذا العام، بعد تنفيذها إضرابات عن العمل، من أجل زيادة الصرف على التعليم بنسبة 20% من الإنفاق السنوي للبلاد، بالإضافة إلى رفع رواتبهم الشهرية واستحقاقاتهم المالية الأخرى، نظراً إلى أن راتب المعلم يغطّي 13% من تكاليف المعيشة الأساسية فقط، وفقاً لما تقوله اللجنة. ولا شك في أن استمرار الحرب سيفاقم الأزمات التي يعيشها الأطفال، خاصةً أن 40.1% من جملة السكان البالغ عددهم 45.6 ملايين نسمة وفقاً لتقديرات حكومية في خواتيم 2021، يمثلون الفئة العمرية من يوم إلى 14 عاماً.
ربما الخطر الأكبر الذي يُواجه أطفال السودان حالياً، هو الانتشار العسكري الكثيف في الأحياء السّكنية ومحاولات اللعب بالقذائف غير المتفجرة التي تُطلق عشوائياً، بالإضافة إلى انقطاع اللقاحات.
ولا يبدو أن طرفَي القتال، على استعداد لوقف الاشتباكات قبل أن يُلحق طرف من الطرفين بالآخر هزائم تقصم ظهره، ومن واقع التحشيد والتعزيزات التي تصلهما من الولايات إلى الخرطوم، لا يُرجَّح أن يحدث ذلك قريباً، مما يفاقم معاناة ملايين الأطفال خاصةً في ظل الحرمان من الرعاية الطبية والتعليم.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين