أذكر روايات العائلة عن مزارع القنب الكثيفة على أطراف بساتين الزور في بلدة كفربطنا، عن حقول لا تتخللها الشمس ويتجاوز ارتفاع سيقان النباتات فيها بضعة أمتار، عن زراعة عظيمة في الغوطة الوسطى لا تقلّ أهمية عن كرمة داريا ودوما بحسب المؤرخ محمد كردعلي، عن قنّب لا مثيل له من حيث وفرة أليافه وجودتها، يشكل مردوده أكثر من نصف ريع القرى السنوي من سائر أصناف الحبوب والثمار.
قنب الغوطة البلدي، نبات كان للتغيرات الاقتصادية والبيئية والقانونية دور كبير في اندثاره من المنطقة خلال العقود المتلاحقة.
عن القنب
بحسب الموسوعة العربية، القنب hemp محصول ليفي يتبع الفصيلة القنبية Cannabaceae، يزرع للحصول على أليافه التي تستخدم في عدد من الصناعات، وعلى بذوره الغنية بالطاقة التي تستخدم في تغذية الطيور والعصافير، وفي عدد من الصناعات الطبية والصيدلانية، إضافة لاستخدامه كنبات كيف مخدّر. كما يعتبر منافساً جيداً للأعشاب ومنظّفاً للتربة.
كان للتغيرات الاقتصادية والبيئية والقانونية دور كبير في اندثار زراعة القنب البلدي في الغوطة.
وعالمياً، تعرف الأوراق والزهور المجففة من هذا النبات بالماريغوانا، أما الحشيش فهو منتج آخر من نبات القنب يحتوي على صمغ يفرزه النبات.
في الغوطة، لا يُعلم بالضبط متى ابتدأت زراعة القنب، إلا أن الباحث يوسف نعيسة يذكره في كتابه "مجتمع مدينة دمشق في القرنين الثامن والتاسع عشر"، فيشير إلى استخدام قشوره في تكليس الجدران الخارجية لبيوت دمشق والغوطة. وبحسب كتاب "غوطة دمشق" للباحث صفوح الخيّر، كان القنب من الزراعات الأساسية في الغوطة حتى سبعينيات القرن الماضي، بإنتاجية تُقدّر بـ 50-70 كيلوغراماً من الألياف و40-50 كيلوغراماً من البذور للدونم الواحد (1000 متر).
تراث زراعي بائد
لزراعة القنب البلدي في الغوطة مراحل معقّدة نسبياً جعلت عدداً محدوداً من المزارعين يحترفونها، وهو يمر بمرحلة نمو بطيئة من إنبات البذور حتى التبرعم، ثم بمرحلة نمو سريعة حتى الإزهار.
مهارات وتقنيات تلاشت مع حظر زراعته ولم يبق منها سوى الأقاويل بين الفلاحين، لكن عدداً من المؤرخين حفظوا لنا هذا التراث الزراعي، ومنهم ظافر القاسمي وصفوح الخيّر ومحمد كردعلي وغيرهم.
يلخّص القاسمي مراحل زراعته في كتابه "قاموس الصناعات الشامية" كالتالي: "يبذر حبّه (القنبس/القنبز) في أوائل فصل الربيع، ثم يُسقى في نوبات حتى أيلول حيث يجود في القرى كثيرة الماء. وتوضع حزم القنب بعد جفافها في أحواض مياه بمساحة نصف دونم، تعلوها حجارة كيلا تطفو أو تنجرف، ليستمر نقع السوق ما يقارب 15-25 يوماً مع تبديل المياه كل ثلاث أيام، ثم توضع على شكل أكوام مخروطية ريثما تجف ثم تقشر أعوادها. يقوم بذلك عادة نساء القرية نفسها...".
تجميع القنب في الغوطة في سبعينيات القرن الماضي - مجموعة آن-ماري بيانكي من منصة أرشيف التراث السوري
تنامت هذه الزراعة في ظل الملكيات الصغيرة لحاجته للعناية المستمرّة والحثيثة، إلا أنها لم تزدهر بالتساوي بين قرى الغوطة بسبب تباين الخبرات ووفرة المياه، إذ اعتبرت أراضي كفربطنا وسقبا وحمورية وجسرين من أغزر المناطق التي تزرع القنب، مرويّةً من فرعي بردى المليحي والداعياني حاملَي أوساخ دمشق، وذلك بعد القمح أو الخضروات الشتوية، ومع زوال الخوف من الصقيع في أوائل نيسان/ أبريل حتى منتصف أيار/ مايو، وتقلع سيقانه في أوائل أيلول/ سبتمبر بعد عيد الجوزة الذي يحتفل به أهالي الغوطة نهاية آب/ أغسطس.
أما في القرى قليلة الماء مثل دوما، فلا ينمو بالشكل المرغوب، ويخرج رفيع الغصن قليل الجدوى، حتى أصبح مضرب المثل عند الفلاحين إذا غدر شخص بصاحبه ليُقال: "طالعه على قنب دوما".
مراحل زراعة وتجفيف القنب البلدي
صناعة الحبال
"هذه الصنعة كادت تكون من الضرورات الحضرية والبدوية التي لا يُستغنى عنها، وهي رائجة جداً ويكتسب منها غير صنّاعها خلق كثير من تجار وسوقة". هكذا وصف القاسمي صنعة الحبّالين المعتمدين على نبات القنب البلدي، إذ يأخذون اللحاء من قصب القنب ويمشطونه ليصبح كالحرير، ثم يجعلونه حبالاً بالبرم (الفتل) بدواليب مخصصة يسمى الدقيق منها في دمشق "المصيص"، واشتهرت هذه الحبال والخيوط بمتانتها وجودتها العالية وديمومتها، بخلاف الأنواع الصناعية المنتشرة في الأسواق.
يبيّن أبو محمد المغربي الاختلافات المهنية في تصنيع الحبال، بعدما خَبِر أنواعها من بيعها مع والده وجده في دكانهم الكائن في سوق السروجية في دمشق، فمن يعمل في تصنيع الحبال بأقطار تتجاوز 12 ميلليمتراً فما فوق، لا يصنع الخيطان الأرفع. ومن حيث الجودة هناك النوع الأول والثاني، و"الهرارة" التي تنتثر من اللحاء بعد تمشيط الحبال، وتدخل في تحضير الكلس المستخدم في طلاء الجدران.
أذكر روايات العائلة عن مزارع القنب الكثيفة على أطراف بلدة كفربطنا، عن حقول لا تتخللها الشمس ويتجاوز ارتفاع سيقان النباتات فيها بضعة أمتار، عن زراعة عظيمة في الغوطة الوسطى لا تقلّ أهمية عن كرمة داريا ودوما، عن قنّب لا مثيل له من حيث وفرة أليافه وجودتها
يذكر المغربي أيضاً مشاهدة حزم من قشر القنب بطول يقارب المتر، تُنقع في أحواض مياه ثم تُنشّف وتُحزّم لتصل إلى الحبّالين، كما يذكر تردده لمناطق ضمن دمشق تميّزت بتواجد ورشات تصنيع الحبال مثل المزة، لم يبق منها اليوم سوى عدد محدود من ورشات نصف يدوية تصنع أكياس الخيش بخيوط الجوت، والتي يطلقون عليها تجاوزاً "القنب". بحسب الحرفي، فإن ما يباع اليوم من حبال قنب مستورد من شركة القناة في بورسعيد المصرية، ليصبح ما صُنع يوماً من غوطة دمشق مستورداً من بلدان أخرى.
مع دخول الخيوط البلاستيكية للسوق لم يعد لحبال القنب طلب كما السابق وفق أبو محمد، بالأخص مع الطلبيات الكبيرة المقدرة بالأطنان، إذ يصعب على الورشات المحلية إنتاج كميات مماثلة، واستمر انخفاض الطلب مع بداية الألفية الثانية وفتح باب الاستيراد. لكن اليوم ومع ارتفاع أسعار خيوط البلاستيك، يرى جدوى إعادة استخدام حبال القنب مرة أخرى.
بعض أنواع الحبال والخيوط المنتشرة في سوق السروجية من الجوت
قنبز الغوطة و"ليلة الله"
يعتمد أبو وليد على مهنة العائلة في بيع مختلف أصناف بذور الطيور في محله وسط دمشق، وكان القنبز أو بذور القنب أحد المنتجات الأساسية التي يرتكز عليها في تجارته، فهي أول ما تأكله الطيور وبالأخص الحسون. وكان لمنع القنبز ضرر كبير عليه، إذ يقول بحسرة: "اليوم لا تنتج الغوطة حبة قنبز واحدة!".
يستذكر صديقه أبو جابر، الذي قابلته صدفة في المحل، طعم بذر القنبز المحمص اللذيذ في محال بيع القضامة والبذور، نكهة مميزة ألفها سكان سوريا عموماً جعلته مكوّناً أساسياً في عدد من الأطعمة في القرن العشرين، كاستخدامه في قوالب الحلاوة الطحينية التي تباع على العربات، كما اعتمده بعض تجّار حلب في خلطة الزعتر إلى جانب نبتة السماق وغيرها من المقادير. وكما تُقدّم الكراوية في دمشق بعد الولادات، ألِف سكان الغوطة غلي القنبز مع الدبس وتقديمه في أوعية للاحتفال بمواليدهم.
أما أعواد القنّب فيستخدمها "القنّابة" بحسب القاسمي، الذين يقشرون اللحاء عن قضبان القنب بعد تحلله عنها أثناء النقع في المستنقعات، ويبيعونه كوقود لأفران الخبز، فيجمعون الأغصان في رزم كبيرة ويأتون بها على دوابهم إلى دمشق. وكان استخدام المازوت في الأفران سبباً أساسياً في كساد هذه الأعواد في النصف الثاني من القرن العشرين.
عائلة الجليلاتي، من أشهر عائلات تجارة حبوب الطيور في دمشق
يستذكر العم أبو جابر رائحة الخبز الطازج من الأفران التي تستخدم أعواد القنب، تصحبها ذكريات الطفولة في استخدامه لهذه الأعواد كحاملة لأعلام العيد أو كهيكل للطائرات الورقية، ويذكر أنها كانت تستخدم أيضاً كأداة للباعة المتجولين لتقديم التفاح المغطّس بسائل حلو كالقطر، أو كحامل لدوائر حلزونية ملونة مقرمشة يخترقها عود القنب، تدعى "ليلة الله" أو "كعك الله".
تدهور وحظر
أدّت أسباب عدة لهبوط مستمر في زراعة القنب بعد ستينيات القرن الماضي، أبرزها صعوبة منافسة خيوطه وحباله للألياف المستوردة البلاستيكية، واحتياجه لليد العاملة القوية والمكلفة إذ يتطلب قلعه وقشر أليافه عشرات العمال، واستهلاكه الكبير للمياه المتناقصة باستمرار في غوطة دمشق، كما قضت الطيور على المحاصيل القليلة التي تبقّت.
هذه الحلقة الاقتصادية المغلقة التي شكّلها مجتمعا الغوطة ودمشق في استخدام القنّب البلدي أخذت بالتفكك تباعاً منذ ستينيات القرن الماضي، تفكّك من الصعب ارتباطه مرة أخرى في زمان يقتصر الحديث فيه عن القنب كمادة كَيف مخدّرة
أما قانونياً، ففي تسعينيات القرن العشرين شمل حظر القنب الهندي في لبنان حظراً مماثلاً في سوريا مع صدور القانون رقم 2 لعام 1993، الذي يجيز العقاب بما في ذلك عقوبة الإعدام عند تصنيع أو نقل المواد المخدرة والتي اعتبر القنب البلدي من ضمنها. لكن "المخدر" الوحيد الذي ألفه سكان الغوطة بشكل عفوي حتى منتصف القرن العشرين هو الخشخاش والخلّة، وهما نباتان ينموان بشكل طبيعي فيها. بطريقة طريفة يذكر المزارع أبو حامد بأنه جرّب الأفيون منذ نعومة أظفاره، فكانت العائلات الريفية تغلي الخلّة اليابسة وتسقى مياهها للأطفال لمساعدتهم على النوم، وكذلك الأمر بالنسبة للخشخاش.
بحسب نعيسة والقاسمي، لم يكن القنب البلدي ضمن الأصناف الرائجة المخدّرة: "كانت تجارة التبغ والتنباك والبن والمخدرات مورد رزق العديد من الدمشقيين. كما وتاجر بعضهم بالتنباك والخشخاش والبن الإفرنجي أو الحجازي والأفيون والبرش، حيث يلجأ البعض لتعاطيهم".
اليوم، ومع تصاعد الأزمات الاقتصادية، تنتشر زراعة القنب في بعض البلدان العربية، ويُعاد النظر في القوانين المتعلقة بتجريم زراعته نحو تقنينها، ففي المغرب، منعت زراعة القنب في خمسينيات القرن الماضي، لتستمر بشكل غير قانوني في شمال البلاد، ولتبدأ الحكومة مؤخراً بإصدار تصاريح لقوننة زراعته لاستخدامه في الصناعة والطب عن طريق التعاونيات الفلاحية. وفي لبنان، تتعثّر المراسيم التطبيقية بعد إقرار البرلمان زراعة القنب لأغراض طبية عام 2020.
هذه الحلقة الاقتصادية المغلقة التي شكّلها مجتمعا الغوطة ودمشق في استخدام القنّب البلدي أخذت بالتفكك تباعاً منذ ستينيات القرن الماضي، تفكّك من الصعب ارتباطه مرة أخرى في زمان يقتصر الحديث فيه عن القنب كمادة كَيف مخدّرة، في مكان يعاني من تعقيدات سياسية وقانونية تهيمن فيه جهات احتكارية تتحكّم في آلية استخدام وتوزيع هذا المحصول.
رسوم وتصوير: ملهم خربوطلي
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.