الطريق إلى الحاروش
في شتاء 2020 في بلدة المليحة، وبعد سنوات قليلة من عودة جزء من أهالي الغوطة الشرقية لمنازلهم بعد الحرب، دُعيت لزيارة منطقة تُدعى "الحاروش".
ومع جهلي التام للوجهة، لم يزدني الابتعاد عن الدمار الذي لحق بالبلدة أي راحة نفسية، فطريقها لا يختلف عن طرق بقية قرى الغوطة اليوم، مقفر خالٍ من الأشجار، تصعُب ملاحظة أي من الأراضي الزراعية على أطرافه مع تكاثف الكتل الاسمنتية، والتي زاد من قبحها دمارها وخلوّها من قاطنيها.
يصب في بحيرة الحاروش عدد من العيون العذبة التي تصعب رؤيتها من بين القصب.
طريق دفعني للتشكيك بذكرياتي حول شوارع الغوطة التي تكاد "لا تتخللها الشمس"، وذلك لكثافة أشجار الحور الطلياني والحموي والرومي على أطرافها، وأشجار الجوز التي تجاوز عمرها القرن، وتحتاج عدة أشخاص للإحاطة بها. لم أدرِ بأن صوت السكون في الغوطة يماثل في بشاعته صوت ضجيج المدينة، سكون صاخب لا يُسمع معه صوت أشجار ولا مياه تغنّى بها مؤرخون على مدى قرون.
مشاهد متكررة من الإسمنت والأراضي المهملة على مدى عدة كيلومترات تصل إلى قرية دير العصافير (12 كيلومتراً جنوب شرقي دمشق). قرية كمثيلاتها، تعبة كسكانها، يتخللها مجرى نهر جاف، لا تُبشر بأي شيء مختلف، إلى أن وصلنا إلى بحيرة تلتف حولها أعمدة من أنواع القصب المختلفة، يخرج منها نهر لا تُرى نهايته، تضاءل معها صوت السكون ليتعالى صوت البط البري، وحفيف القصب، والضفادع!
ينابيع ومشرب
أول ما لفت نظري ارتياد بعض أطفال ونساء البدو الذين ضربوا خيامهم بجوار عيون الحاروش لتعبئة المياه منها. وبالرغم من جمال المنظر، لم يبدُ لي بعذوبة صالحة للشرب.
بادرت إحدى نساء البدو للتوضيح بأن هذه البحيرة يصب بها عدد من العيون العذبة التي تصعب رؤيتها من بين القصب، فهم يقصدون نقطة النبع لتعبئة جرارهم. لأعلم لاحقاً أن عيون الحاروش (وعددها أربعة إلى خمسة) هي من أهم مجموعات العيون في غوطة دمشق، إلى جانب عيون أوتايا وعيون القلايا.
تاريخياً، كانت تروي أراضي سبع قرى في منطقة مرج السلطان الواقعة في قلب بساتين الغوطة، وهي دلبة وغسولة وجديدة الخاص، وفرع آخر يروي قرى حوش العدمل والأحمدية وحران العواميد والكفرين، بمياه غزيرة أدارت في السابق عدداً من الطواحين المائية على طريقها، كالعدمل والنحاسية. أما اليوم فتقتصر مياه الحاروش على خيط مائي رفيع صيفاً، ضمن مجرى نهر خالٍ من الطواحين.
جغرافياً، بحسب أستاذ الجغرافية الطبيعية الدكتور عادل عبد السلام لاش، تقع عيون الحاروش بين التوضعات الرسوبية اللحقية الرباعية للغوطة والرسوبيات البحرية للمرج، بغزارة مياه سمحت بتشكيل نهر الحاروش أو الشويحة ذي المياه السلطانية (أي دائمة الجريان).
موارد نظام بيئي متضرر
بعد البحيرة وعلى امتداد النهر، يشكّل القصب "الزَلّ" جدراناً على طرفي النهر بطول يتجاوز ثلاثة أمتار، ويستخدمه فلاحو الغوطة في "تعريش" الفاصولياء، إلى أن وصلنا إلى أحد "بطون النهر"، حيث قام السكان بجز القصب وتهيئته مكاناً للسباحة والسيران. سباحةٌ بمياهٍ عذبة تخفّف من شدّة حرّ الصيف، فقد زالت بحسب الجوار "زناخة" المياه أثناء الحرب مع توقف كثير من أنابيب الصرف الصحي عن الضخ فيها.
عرفت أيضاً بأن عيون الحاروش كانت تعتبر قبل الحرب من أهم الوجهات لاستجمام عشرات العائلات من مختلف القرى المجاورة، ارتياد كثيف جعلها محطة لصيد جائر للبط البري وأسماك السلور أدّى إلى اندثارها تقريباً. لكن مع تناقص السكان في المنطقة وتراجع ارتياد العيون أثناء الحرب، كثرت أعداد البط والطيور بشكل ملحوظ وازدادت نقاوة المياه.
يروي أبو النور وهو أحد قاطني بلدة المليحة، عن العمل الدؤوب الذي قام به مع رفاقه أثناء الحرب باقتطاع نبات "عينه قوية" لتهيئة مكان للسباحة، حيث ينتشر ويتكاثر بكثافة على سطح المياه، ليتبيّن لاحقاً بأنه نبات القرّة الشبيه بالجرجير، المستخدم منذ القدم في بعض وجبات الطعام والفطائر والسلطات عند أهالي الغوطة، وقد عاود ظهوره مع عودة عذوبة المياه النسبية للنهر، وليصبح مأوى لأعشاش الطيور والبط.
تاريخياً، كانت عيون الحاروش تروي أراضي سبع قرى في منطقة مرج السلطان الواقعة في قلب بساتين الغوطة، بمياه غزيرة أدارت في السابق عدداً من الطواحين المائية على طريقها. أما اليوم فتقتصر مياه الحاروش على خيط مائي رفيع صيفاً، ضمن مجرى نهر خالٍ من الطواحين
وإلى جانب القصب الزلّ والقرّة، ينمو نبات "الخزّ" بكثافة على أطراف البحيرة، وقد ساهم في تشكيل هويّة المكان، إذ اعتمده بعض الجوار في تحصيل مردود مادي من خلال استخدامه في تصنيع السلال.
اليوم، مع استمرار عودة الحياة البشرية لجوار عيون الحاروش بنشاطاتها وتلوثها، تطغى مجدداً مياه الصرف الصحي القادمة من الجوار على العيون، منذرةً بالعودة للحالة السيئة التي وصلت إليها قبل الحرب.
عن عدالة توزيع المياه
بحسب د. عبد السلام، حتى أواسط الثمانينيات، اعتبرت عيون الحاروش أحد أهم مصادر مياه منطقة مرج السلطان، لحقها تناقص مياه الأمطار والثلوج التي تغذّي ينابيع الحاروش، وتزايد أعداد الآبار ذوات المضخات، التي أدت إلى تضاؤل مناسيب المياه الجوفية لهذه الينابيع قبل الحرب.
اليوم، مع تزايد الحاجة الملحّة للمياه وارتفاع أسعار المحروقات، تُلاحظ العشرات من مضخات سحب المياه موصولةً بالنهر إلى المزارع المجاورة الأقرب له، وذلك قبل وصولها لأي من القرى السابق ذكرها. ظاهرة ساهمت إلى جانب الحاجة بتوسيع الفجوة في عدالة توزيع المياه بين الأراضي والقرى، لتصبح القاعدة "البقاء للأقرب".
مشهد يناقض أعرافاً اجتماعية تاريخية متوارثة شكّلت علاقة صحية في توزيع المياه وتقسيمها بين الأراضي، وأسهب في توصيفها عدد من المؤرخين منهم صفوح الخيّر وأحمد وصفي زكريا ومحمد كرد علي وغيرهم. فهناك وقت لاستعمال المياه وطريقة لتقسيمها بين الأراضي تعتمد على نسبة مياه النهر، وهي نُظُم دفعت لاستخدام عدد من المصطلحات، كالقيراط الذي يختلف من منطقة لأخرى ويعبّر عن حجم المياه أو الوقت المخصص لسقاية الأرض، والمزاز أو المصاص الموزع لمياه النهر في الأماكن الهامة على قرية بكاملها أو مجموعة من الملاكين، والبَسط والعدّان وغيرها من المفردات التي جعلت حق المياه كحق الأرض، وأحياناً ارتفق معها أثناء البيع، فمع مساحة الأرض يُرفق "العدّان" أو زمان السقاية المخصص لها.
عيون الحاروش ليست قضية بيئية فقط، فمع التحديات الاقتصادية والاجتماعية التي يواجهها العالم اليوم، فإن التعزيز من مرونة المجتمعات في اعتماد وسائل أنجع للبقاء في مختلف الظروف، هو موضوع جوهري مع تناقص قدرة العديد من الدول على تأمين الاحتياجات الأساسية لمواطنيها
مجتمعات أقدر على البقاء
كان من الصعب تجاهل عدد من عنفات المياه الكبيرة نسبياً على نهر الحاروش لتوليد الكهرباء، تبيّن أنها من تشييد محاصري الغوطة أثناء سنوات الحرب نظراً لغياب البنية التحتية وقتها. إلا أنها أزيلت تباعاً ولم يتبقّ إلا واحدة متوقفة عن العمل، وذلك لمعاودة الاعتماد على الكهرباء الحكومية والتي لا تأتي سوى ساعة في اليوم.
مع سؤال الجوار، اكتشفت أن عنفات توليد الكهرباء لم تكن الأمر الوحيد الذي تعلّمه سكان الغوطة أثناء الحرب، فقد شهدت المنطقة محاولات لتجميع مياه الأمطار، وإنتاج الغاز الحيوي من المخلفات العضوية، وتسخين الماء والطعام بإعادة استخدام صحون الـ "ستالايت" العاكسة، وغيرها من الابتكارات.
أفكار نبعت من الحاجة الغريزية للبقاء، وساهمت عيون الحاروش في تلبيتها، ثم ما لبثت أن تم تجاهلها مع عودة "الحياة الطبيعية" للغوطة. يبرر بعض السكان ذلك بضرورة المرحلة السابقة، وصعوبة الاعتماد على وسائل اكتفاء ذاتي في الوقت الراهن، بالرغم من المعاناة الحالية في تحصيل الخدمات الأساسية من كهرباء وماء وغاز.
بالنسبة لي، عيون الحاروش ليست قضية بيئية فقط، فمع التحديات الاقتصادية والاجتماعية التي يواجهها العالم اليوم، فإن التعزيز من مرونة المجتمعات في اعتماد وسائل أنجع للبقاء في مختلف الظروف، هو موضوع جوهري مع تناقص قدرة العديد من الدول على تأمين الاحتياجات الأساسية لمواطنيها، وفرصة تتضاءل مع استنزافنا المستمر لما تبقّى من غوطة خسرنا أناسها وأشجارها ومياهها.
لا أدري كم من الوقت لتصبح هذه الواحة من ذكريات الغوطة الرومانسية، المبالغ والمشكّك بها ربما من قبل أحفادنا، عن عيون وُجدت يوماً هنا، جمعت بين متنفس ومشرب ومصدر للحرف وملجأ للحياة البرية.
تصوير: ملهم خربوطلي
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.